mardi 1 novembre 2011

بين التعاقد والتدافع



لا بد أن يكون كل متابع للحوارات التي خصّ بها زعماء حركة النهضة وسائل الأعلام المرئية والمسموع قبيل فوزهم في انتخابات التأسيسي أو على إثرها، قد لاحظ توسّلهم بمصطلح غير شائع بين مختلف فاعلي المشهد السياسي التونسي، ونقصد لفظ"التدافع" الذي استعمله كل من رئيس الحركة وأمينها العام تعبيرا منهما على قدرة المجتمع التونسي على تجاوز التنازع حول نمط المشروع المجتمعي المستقبلي.
فما المقصود بهذا المفهوم الإجرائي ضمن فكر الإسلاميين؟ وهل يمكن أن نستعيض اجتماعيا بالآلية التي يحيل عليها، مدّعين قدرتها على تجاوز مدلول التعاقد المشروط بقوانين مصانة تجابه من خلالها المجموعة، وعبر مختلف سلطها الشرعية كل من ينتهج أسلوب المغالطة أو الإخلال بمضمون التوافق الحرّ في إدارة الصراع الاجتماعي وتوجيهه.
تطرح الرؤية الإسلامية تصوّرا تصاعدي يبدأ بالحوار وينتهي بالصدام مرورا بالجدل والمنافسة والسبق والمواجهة والمغالبة وهو ما يعبر عنه بالمصطلح القرآني "التدافع". ويشكل التدافع الحضاري ومن منظور نفس الرؤية دائما "صيرورة دائمة وحيوية لا تعرف التوقف، وحالة طبيعية [فضلا عن كونه] أحد سنن الله في خلقه". ويقابل مدلولي الحوار والصراع الذين يوظفهما الغرب حاضرا قصد استغلال الحضارات والشعوب الأقل تطور والأضعف إمكانيات اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية.
ويحتكم التعويل على هذا المصطلح إلى تضمينه في النص القرآني على شاكلة ما ورد في سورتي الحج والبقرة "…ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز" (الحج/ 40). "…و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين" (البقرة: 251).
ويشمل التدافع من منظور العارفين بمعناه مفهوما واسعا، إذ يتضمن معاني فكرية وسياسية وفلسفية. فهو إما أن يأخذ شكل المناكفات "الخفيفة"، محيلا على الحوار والتعايش، أو أن يتحوّل إلى صراع تدافعي يحيل على صدام بين رؤى ثقافية أو حضارية متباينة، كما قد يتم وفق عمليات فجائية غير مقدرة مسبقا، تحيل على الصدمة.
ويشكّل التدافع العنيف وفق هذا المنظور دائما صراعا للحضارات، آخذا مدلول المواجهات المسلحة بين الأمم والحضارات، وهو ما يطبع إذا ما تعقبنا ذات المنظور الصراع الدائر حاضرا بمختلف بقاع العالم. فالإدارة الأمريكية على سبيل المثال تعتمد سياسة العصا الغليظة في مواقع متعددة من العالم. وهي خطة يُنَظِّرُ لضرورة إنجازها خبراء إستراتيجيون يعضدهم جواسيس منتشرون بجميع بلدان العالم ويدير رحاها جنرالات "البنتاغون"، لذلك تعنّف الإدارة الأمريكية وتنادي بالحوار، تستعمر وتطالب بإلقاء السلاح، مما يجعل وضمن سياق نفس التصوّر من "سلاح العقيدة أداة فعّالة بيد المغلوبين على أمرهم بغرض تنظيم المقاومة والمقاطعة والرفض."
ويعتقد أصحاب هذه النظرية في حضور جميع مظاهر التدافع الحضاري، فهناك الحوار وهناك الصدام، وهناك الصراع، وهناك الحرب الحضارية، وجميعها موجود وموظف بصيغة من الصيغ، لكنهم يميلون إلى الاعتبار بتفضيل الإدارة الأمريكية لاستعمال القوة العسكرية، بغرض تحقيق مآرب حضارية واقتصادية وسياسية، والتعويل في ربح الوقت على تشجيع الفلاسفة والمفكرين المحلقين في مثالية رثة مفصولة عن الواقع على تنظيم الحوار وتعهّده قصد التلهّى بذلك والسجال حوله، خدمة لأهدافها الإستراتيجية على المدى البعيد.
يُنزّل المدافعون على وجاهة القول بالتدافع الحضاري رؤيتهم في إطار مرحلة ما بعد حرب الخليج الثانية واستتباعاتها خلال تسعينات القرن الماضي. أي بعد انتهاء مرحلة القطبية الثنائية بسقوط جدار برلين وتغوّل الغرب على حساب دول الجنوب واستهدافه للحضارات الشرقية من خلال تحويل المجال الإسلامي إلى رقعة تصويب بعد شيطنته على قاعدة تجييش الجموع ودفعها نحو الاستعاضة عن المقاومة بالإرهاب الممنهج، كما تشفّ عن ذلك نظريات "نهاية التاريخ" و"صراع الحضارات". لذلك يقترح المنافحين عن هذه التصوّرات، ومن منظور إسلامي دائما، "التدافع الحضاري" كبديل عن الصراع، مشدّدين على الطبيعة الإنسانية لطرحهم الحضاري في مقابل توحشّ الغرب المصاب بالانحطاط المضيّع لإنسانيته بالكامل لما فرّط في الاحتكام إلى احترام الخصوصية والتعامل بمسؤولية مع الغيريات وفق منطوق العدل والنديّة.
فالثوابت القرآنية تحث جميعها على أن الاختلاف سنّة من سنن الله مصداقا لما حمله الذكر الحكيم: "وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون" (يونس 19) أو "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين" (هود 128 ). لذلك يُعلي هؤلاء من قيم التعارف والتعاون على النهج الذي ارتضاه الإسلام في مواجهة ما طرحه الغرب من حتمية للصراع. فـ"ساحة الحياة الغاصة بالناس تؤكد [حقيقة] التدافع والتسابق والزحام نحو الغايات...ومن وراء جميعها يد حكيمة مدبرة تمسك بخيوط اللعبة جميعها وتقود الموكب المتزاحم المتصارع المتسابق...[ولولا حكمة من ربك لـ]"أسنت الحياة وتعفّنت لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، ولولا أن طبيعة الناس التي فطرهم الله عليها تعارض في مصالحهم واتجاهاتهم الظاهرية القريبة [فـ] الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع [فـ]...تنفض عنها الكسل والخمول مستنبطة لذخائر الأرض ومستخدمة قواها وأسرارها الدفينة [حتى] يكون الصلاح والخير والنماء".
هذا في اختزال وتبسيط شديدين مدلول نظرية "التدافع الحضاري" وفقا لمنطوق من أبانوا عليها أصلا، وهو مدلول يعوّل كما بات جليّا على التأويل المقاصدي لآي القرآن بغرض إثبات توافقها مع السياق التاريخي. ولئن لم تكن بنا أية رغبة في مجادلة هذا الفهم المستعيض عن الصراع حضاريا بما وسم بـ"التدافع"، فإننا نودّ التوقف بعض الشيء عند إعادة تملّك مثل هذه التصوّرات الفكرية المتّصلة في أُسها بالمسألة الحضارية من وجهة نظر الإسلام السياسي تونسيا، والتعويل عليها من خلال اعتبار "التدافع" قانونا اجتماعيا مُكتفيا بذاته، قام خطاب كبار القادة السياسيين لحركة النهضة بتسويقه من زاوية اعتباره بديلا للصراع الاجتماعي، وهو أصل في بناء التوافق التعاقدي في تصوّرات من لا يتبنون الطرح الإسلامي في تنظيم الساحة الاجتماعية ولا يقرؤون جلب المصالح ودرئ المفاسد من زاوية العناية الربانية المتعالية بل يعتبرون أن التوافق لا يمكن أن يُبنى خارج إطار التعاقد الحرّ المستند على احترام سلطة القوانين.
إن ما يزعج حقا في هذه الزحزحة الفكرية لنظرية قامت على السجال الحضاري بين منظورين متعارضين للكونية، هو التنويه بقدرتها على تصريف السجال القائم حاضرا بين التونسيين في ما يتصل بنظرتهم للنموذج المجتمعي المرتقب من تحرير بنود الدستور الجديد. فالبيّن، وليس هذا من باب الرجم بالغيب أو القراءة في النوايا، أن تشريع التدافع كقانون ناظم للخلاف داخل المجتمع تعتيم صارخ على دور الدولة المفصلي كضامنة لحريات الجميع، وهو ما لا يمكن تصوّره خارج إطار الاعتراف بوجود الصراع الناجم عن التباين الفكري والعقدي والاجتماعي، والاعتبار تبعا بأن التوافق هو الآلية الوحيدة لتجاوز تلك التباينات عبر التعويل على التعاقد بين فرقاء السياسية والاقتصاد والمجتمع أحرارا متساوين أمام القانون.
كم يبدو لنا طرح على هذه الشاكلة من قبيل خلع الأبواب المشرعة، غير أن إقدامنا على تكراره هو من قبيل الإصداع في وجه جميع من يدعون ضمنيا إلى التخلي عنه وإحلال "التدافع الاجتماعي" محله. لذلك يتخذ استحضاره واستذكاره في تقديرنا الخاص بعدا نضاليا ومدنيا معلنا. فالإقدام على تغييبه هو بمثابة التعتيم موضوعيا على طبيعة الدور الذي يمكن أن يلعبه جهاز الدولة في تصريفه للشأن العام وتنظيم للصراع بين الفرقاء داخل المجتمع خارج إطار الاعتراف بحضور المناكفة الـمُفضية إلى التوافق التعاقدي الحرّ؟ وليس بعيدا أن يكون هذا الفهم المبتسر لحقيقة الصراع الاجتماعي الذي يشكمه التعاقد وتضمنه القوانين، مدعاة للمواجهة المضمرة عبر التأويل التقريبي أو الموجّه لمنطوق "نظرية التدافع الاجتماعي". فما ضرّ أن نتدافع إذن حتى نفرض وجهات نظرنا أو تصوّراتنا الخاصة أو نعلي مصلحتنا على حساب غيرنا؟ أخشى ما نخشاه هو أن يضعنا هذا النوع من التبسيط إزاء مأزق واقعي خطير، أشرت على بوادره بعدُ عدة وقائع مزرية ومتواترة عاينتها الساحة العامة (الغليان والاحتقان والاحتساب ضد الفعل الإبداعي الحرّ، والمناكفة داخل المؤسسات العمومية أو احتكار الساحة العامة باسم الدفاع عن المقدسات وفرض الاختيارات الشخصية). فلكل منا طريقته الخاصة في فكّ شفرة هذا النوع من الخطاب الغائم الذي يفيد الشيء ونقيضه، متوسّعا من دائرة الممكّن دون إخضاعه لضوابط معلنة وصريحة تكفل حرية الفرد إزاء تغوّل منطق "لا تجتمع أمتي على ضلالة".

2 commentaires:

  1. حفر ذكي في المفاهيم حتى وإن نسيت أصولها او حملت على غير
    محاملها الحقيقيّة

    فللغة ذاكرتها . تحياتي سي لطفي

    RépondreSupprimer
  2. أرجو حقيقة أن أكون مخطئا فيما قدرت، وإلا فالأمر على قدر كبير من الأهمية لـكل من ألقى السمع وهو شهيد.
    مع خالص مودتي

    RépondreSupprimer