vendredi 4 novembre 2011

أن نكون تونسيين: خطاب الذاكرة خطاب التاريخ




لو تجاوزنا لبرهة المدلول الاصطلاحي في انتساب الأفراد إلى أوطان تتوفر على سيادة حقيقية ينشأ عنها استقلال تام تجاه الغير وتقاسم لعملية أخذ القرار، ما الذي يعنيه حاضرا أن يعتبر الفرد منّا أنه تونسي؟ وما مدلول أن يعتز كل واحد بتلك الجنسية معتبرا أن الولاء لها سابق لجميع ما سواه؟
ما من شك في تعقّد الموروث العرقي لهذه النسبة، تلك التي قد يدفع بنا تجانسها الراهن إلى الاعتقاد في أزلية العناصر المشكلة لسكانها، والحال أن عمليات تركيبها لم تحصل دفعة بل امتدت على مدى قرون من الزمن. على أن الإقرار بهذه الوضعية لا يتعين أن يحجب عن أنظارنا قدرة ذلك المجال على صهر مختلف العناصر الوافدة، معوّلا على خصوصيات العلاقات الاجتماعية التي تحيل على محورية القرابة الأسرية وفاعلية التضامن الاجتماعي، في انتظار توسّع الصبغة التعاقدية للعلاقات المهنية حاضرا.
ولئن تحوّلت صورة البلاد التونسية القريبة من عقل التونسيين ووجدانهم إلى مسلّمة بديهية لا تثير أي نوع من الغموض، فإن مدلولها الملموس لم يكن بتلك الدقة طوال مراحل ممتدة من تاريخ البلاد الطويل. فالراجح أن انبثاق الدولة الترابية الذي عاينته البلاد بشكل جد متقدم (المرحلة الوسيطة المتأخرة والفترة الحديثة) هو الذي مكّن مجتمع المدن، تساوقا مع ما عاينته المجالات الأوروبية بالتزامن، من لعب دور أساسي في تشكيل الهوية الترابية التونسية، تلك التي أضحت في ذائقة التونسيين جميعا مجرد حقيقة بديهية.
وتنهض كيفية صياغة الخبر التاريخي، حجّة على ربط الشرعية الحاكمة بمدى نجاحها في فرض التبعيّة ومدّ الدولة لسلطة قهرها على مجال ترابي محدود. وينم ابتسار عامة كتاب الخبر لمدلول الشرعية في البعد السياسي على ما سمّته بعض الأبحاث التاريخية بـ"الاكتفاء المجالي"، مبرهنا عن محورية الجغرافية السياسية في انبعاث أو قل في "اختراع تونس الحديثة" وقبول جميع التونسيين بمجال ترابي متواضع، مقارنة مع امتدد الحيز الترابي لبقية الكيانات السياسية المجاورة.
هذا على صعيد العلاقة بالجغرافيا الطبيعية والبشرية، لكن لو تساءلنا الآن عن مضمون التونسة في الثقافة المادية وما تعنيه على صعيد القيافة والغذاء مثلا؟ ما الذي يجعل من تاريخ اللّباس وكيفية إعداد الأطعمة وتحضيرها والاحتفاظ بها، مؤشرا بليغا على حضور ثقافة مادية تشفّ عن توفّر المجتمع التونسي على معرفة عمليّة محسوسة بالوسط الطبيعي، ومقدرة على الاستفادة من خصوصياته تفاديا لجميع مظاهر الإسراف وطلبا لحسن التصرّف والتدبير؟
ما يمكن التأكيد عليه بهذا الصدد هو قلة اختلاف العادات المتّصلة بفنون الملبس والمأكل تونسيا على نظيراتها المنتشرة بباقي بلاد البحر الأبيض المتوسط، حتى وإن توفّرت جغرافية البلاد وتاريخ تعميرها على مفردات تحيل على قيافة مخصوصة ونظام تغذية متميّز. فقد استفاد التونسيون من مهارات كثيرة وتكونت لديهم ملكات يدوية متشعّبة تحيل على مختلف الحضارات التي مرت بها البلاد. (الفينيقيين والرومان والعرب والأتراك والأوروبيين)، أولئك الذين أثّروا في قيافة سكانها كما في أصناف مآكلهم وتوظيب موائدهم في آن.
ونستطيع القول أن تعامل أهل المغارب مع "آداب الجسد" قد اتسم عامة بالحرص على التغطية والستر وهو ما يؤشر عليه التعويل على الصوف وتفضيل البياض الذي يرمز إلى النظافة والنقاء فضلا عن تحقيق الخلاص في الآخرة. كما أنه لا مراء في استفادة المطبخ التونسي ذي الأصول البربرية المعوّلة في التغذية على الحبوب، وعبر مختلف المراحل التاريخية التي مرّ بها، من خبرات العديد من الشعوب الوافدة على البلاد. فقد أثرت في أصنافه بشكل لافت حضارات الشرق على غرار الفينيقيين وحضارات الغرب على إثر مجيء المورسكيين المطرودين من الأندلس. ولا يعترينا شك في حقيقة ارتكاز المعاش تونسيا على التقشف وحسن التدبير، مما قد يفسر حفاظ العائلة التونسية على دورها المحوري كمربع المظلة الآمنة على الدوام، محدّدا في تصوّرنا الحاجة إلى البقاء في دائرتها حتى وإن اتسمت تصرفات أربابها بالوصاية أكثر من الاحترام، مع التمسّك بتقليدها والتهيب من الانقلاب عليها.
على أن الحديث عن "التونسة" من بوابة علاقاتها بالفعل الإبداعي يدفعنا من ناحيته إلى إثارة جملة من المصاعب، لا تحيل بالضرورة على نقص في الحسّ الجمالي أو حضور عائق نفسي يحول دون القدرة على التعبير عن الشواغل اليومية المتقاسمة بشكل متسامي يعيد صياغة العادي من بوابة الإلهام الفني المجدّد والمتفرّد، بل على عوامل موازية أشّرت ولا تزال على تهيّبٍ من تجاوز الإجماع وخشية من تشغيل الجماعة لآليات الزجر ضد جميع من تُشتم منه رائحة السعي إلى "الانقلابية" - وهي لب العمل الإبداعي على الحقيقة- بصرف النظر عن المجهود الجمالي المبذول بغرض مجادلة السائد والرغبة في الارتقاء به أو تثويره.
والبيّن بهذا الصدد أن العلاقة بالحداثة ببلدان العالم الإسلامي عامة قد طغى عليها التشنج، إذ غالبا ما تم اعتبار ذلك التوجّه مُسقطا من فوق، فرضه الغزو الخارجي ولم ينبع مطلقا عن حراك الفاعلين الداخليين، لذلك كثيرا ما أخذت مبادرات "الحداثيين" في تصوّر غالبية التونسيين شكلا تغريبيا، مُؤججة الخلافات، مُفضية إلى تضخيم الضغائن بين من وُسموا بـ"المتغربين" ومن تمسّكوا بمواقف محافظة غلبت عليها المغالاة في التعبير عن "الوطنية" أو في التمسك بـ"العروبة" أو في المزايدة على العقيدة والانتساب إلى الإسلام. وإذا ما اعتبارنا أن الحداثة فكر يتسم بعدم الاكتمال، يقبل عن طواعية تسرّب الشك إليه والخضوع إلى النقد على الدوام مع نزوع باتجاه الخلق والقطيعة المعلنة مع جميع التوجهات الفكرية والنظريات المستندة على التقليد الذي يجعل من القديم مرجعا ومن التصوّرات المدرسية قاعدة، فإنه يحق لنا التساؤل بخصوص مستوى انخراط الفعل الفني والإبداعي تونسيا ضمن هذه التصورات حتى ندرك مدى نجاح ذلك الفعل أو فشله في إعادة تملّك الحداثة من زاوية رفع القداسة عن القديم بعد قتله معرفة، ثم الإقبال ذوقيا وفي مرحلة لاحقة على الانقلاب عليه وتعليم طريق سالكة باتجاه التماهي مع الحداثة قولا وفعلا، تطلّعا لاكتساب شروط الحرية والانخراط حقيقة في الكونية.
المرقد المفترض للقائد القرطاجي حنبعل بتركيا

2 commentaires:

  1. سعيد جدًا بوجود مدونة بهذا المستوى المُتميز في عالمنا الافتراضي التونسي الذي هو في حاجة لمزيد الإثراء و التخصيب
    تحياتي أستاذ لطفي
    حسام

    RépondreSupprimer
  2. شكرا حسام. أرجو لك التوفيق في إنجاز عروض أطروحك التي ننتظر منها الكثير

    RépondreSupprimer