dimanche 1 juillet 2012

"كطفل برئ يمشي مطمئنّا، في طريق رسمتها أُمّ قلقة"








وَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. (الأنعام  122 ).  

يعرض المؤرخ الفرنسي المولود بمدينة قسنطينة الجزائرية سنة 1922 بعفوية ودودة وعين ثاقبة يسندها إحساس عارم بالإسهام في التأسيس لمسيرة المعرفة العالمة بتونس المستقلة، إلى ذكريات سنوات إلحاقه كمتعاون فرنسي لتدريس التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة تونس مع مفتتح السنة الجامعية 1959 – 1960 وإلى ديناميكية ذلك الفعل واستثنائية ما أشترك في نحته مع غيره من زملائه الفرنسيين (كصباغ Sebag وغنياج Gagnage  وريمون Raymond  ومنتران Mantran  ومورن Maurin  ونيكولي Nicolet  وليزين Lézine  وباري Paret ...) فضلا عن كبار المستعربين الذين وسّعت أبحاثهم نطاق المعرفة العالمة حول حضارة العرب والمسلمين على غرار ماسينيون Massignon  وبلاشير Blachère  وبيرك Berque ، وذلك إلى حدود صائفة 1964 موعد إلحاقه رسميا بجامعة نيس Nice الفرنسية.
استكشف نوشي وهو القادم من الجزائر التي درّس بمعاهدها الثانوية وبإعدادياتها لسنوات، وعرف جامعتها التي لم تكن تختلف في شيء عن نظيراتها الفرنسية حال وصوله إلى تونس. جامعة تأسست بُعيد الاستقلال في بلد عربي مسلم يحذق المتعلمون فيه لغة فولتير ويعيدون تملّكها ترفّقا بسجاياهم. جامعة صاقبت مركز الحكم واحتلت مبنى توحي هندسته بالتدبير المقتصد والانضباط شُيّدت بشارع خلّد أسمه زكي دماء التونسيين النازفة برصاص المستعمر في التاسع من شهر  أفريل من سنة 1938.
تعود الذاكرة بنوشي إلى لقائه الأول بنائب رئيس الجامعة أحمد عبد السلام، راسما لنا صورة عن سمته ولون نظراته الداكن ودماثة خلقه وتمسّكه برسوم الوقار والاحترام. احتفظ نوشي عن ذلك اللقاء الأول بتشديد مخاطبه على أن غلبة العنصر التونسي بين الطلبة المرسّمين بالجامعة الناشئة لا ينبغي أن يتخذ مظنة للتفريق بينهم في ما كانوا يحصلون عليه من معارف وبين نظرائهم الدارسين بجامعة الصربون البارسية. كما تحيّن المتحدث الفرصة للوقوف عند صعوبات الإعداد للعودة الجامعية إبان حلوله بتونس، وطبيعة الدروس المبرمجة بالجامعة، فضلا عن المؤزرة التي قدّمها له زميله أندري ريمون André Raymond في مقابل ما عاينته تصرفات منسق قسم التاريخ آنذاك جون غانياج Jean Gagnage  المشوبة بالغرور والشمم الكاذب والدسيسة وتوظيف قرابته لمؤرخ المغرب المعاصر "شارل أندري جوليان" قصد الالتحاق بجامعة الصوربون، ونوازع العنصرية في معاملاته مع عموم الطلبة.
أثبتت الحصص الأولى سهولة تواصل المدرس الجديد مع طلبته التونسيين الذين تقاطروا على الجامعة الجديدة من جنوب البلاد وساحلها، حُضر عاصمتها و"بلْديتها" ومن قارنهم من الوافدين من أقاصي الدواخل وغيرهم من الحاملين للجنسية الفرنسية.  "قمر" زوجة المناضل الجزائري عمّار بلخوجة كانت من بين طلبته، تماما مثل جوزيت علياء زوجة الطبيب بن براهم تلك التي ستعرف لاحقا بمقالتها الناقدة الصادرة بصحيفة الملاحظ L’Observateur.
اصطدم نوشي منذ أيامه الأولى بتونس بحساسيّة مسألة النضال من أجل التحرّر الوطني وعاين وقع حرب الجزائر على الجمهورية الناشئة، حال تصدّره  للحديث بمدرج ابن خلدون عن تبعات المواجهات العسكرية بين الطرفين على النساء الجزائريات، مقدّرا في مداخلته تحمّلهن لمسؤولية أثقل وأوسع. استحضر نوشي لدى حديثه عن تلك المحاضرة التصرّف المغالي الذي أبدته السيدة "فانون Fanon" تلك التي وصمته تجنّيا بأنه صنيعة للرئيس ديغول وواحد من أعوان المكتب الخامس، معتبرة فضاء مدينة تونس ذاك الذي تفصله عن ساحة المواجهات 250 كم، امتدادا مباشرا لجبهة القتال بالجزائر.      
 تستعيد ذاكرة نوشي واقع قسم التاريخ ومختلف المنتسبين إليه وطبيعة المعارف التي تخصّصوا في تدريسها، كالتاريخ الروماني والإغريقي وتاريخ الحضارات الشرقية وعلوم الآثار الإسلامية،  فضلا عن التاريخ البيزنطي والعثماني وتاريخ الغرب الحديث والمعاصر وصعوبات تحويل وقائع تاريخ المرحلة الاستعمارية العكرة إلى معرفة عالمة معافاة من مزالق الإثارة ورخيص التوظيف. كما يفتح نافذة على امتحانات آخر السنة التي شكّلت لعدة سنوات مناسبة لوفود أساتذة جامعة الصوربون وأساطين الاستشراق الفرنسي كـ"ريجيس بلاشير" و"جاك بيرك"، الذين غطّت شهرتهما الآفاق وحفظت لهما نُخب العلم داخل الأوساط التقليدية فضل الأمانة ومنتهى التبحّر في تاريخ الإسلام وأهله، غير مُعْرِضة على تصنيفهم ضمن زمرة شيوخ علمها البارزين.               
لم يكن بوسع نوشي أن يُغفل ذكر زملاء تونسيين وفرنسيين آخرين صادفهم أيام التدريس بجامعة تونس الفتيّة على غرار طلبة جون دريش Jean Dresch من الجغرافيين، كمحمد العواني والحبيب عطيّة وحافظ ستهم الذين أدهشت توجهاتهم الملتزمة ودقّة تحاليلهم ناقل هذه الشهادة. أما بول صباّغ أو سباغ فقد أذهلت نوشي معرفته الواسعة بالواقع الاجتماعي التونسي واستفاد من الـ 5000 عنوان التي حفظتها مكتبة بيته المجاور لنزل "الدار الذهبية Maison dorée" بالمدينة الإفرنجية، مُـمْتَنًّا لصادق الصحبة التي ربطته بزوجته الايطالية "دينا غاليغو Dina Galligo" التي ضمّ أفراد عائلتها العديد من زعماء النضال ضد الفاشية.
يُلمع نوشي بوفاء إلى أسماء عدد من نابغ المدرسين الواعدين التونسيين ممن سيتحوّلون بالتقادم إلى آباء مؤسسين للجامعة التونسية وإلى شيوخ معارفها الإنسانية والاجتماعية والحضارية على غرار محمد الطالبي، وعبد الوهاب بوحديـبة، ولوسيت فالنسي، ومحمد الهادي الشريف، وصالح القرمادي وغيرهم كثيرون...متعرّضا إلى الدور الذي لعبته جمعية المدرسين الجامعيين التي أسهم في تحمّل أعباء إدارتها في تسهيل إطلاق سراح الأساتذة والطلبة الذين طالتهم يد التعسّف والإيقاف على خلفية النضال السياسي، مشيرا في هذا الصدد إلى اللقاء الذي جمعه بمعية رئيس الجمعية بالقائم على مسيرة التربية وإصلاح التعليم محمود المسعدي، واستنكارهما لما تعرّضت له حرمة الجامعة من تدنيس وترويع لآميها من قبل أعوان الشرطة، مع تذكيرهما بالدور الذي لعبه الجامعيون في مؤازرة الموقف الرسمي التونسي إبّان أحداث بنزرت وثناء بورقيبة على جميعهم، تونسيين ومتعاونين فرنسيين لدى استقباله لهم بالقصر الرئاسي بقرطاج في شهر ديسمبر من سنة 1961 . وهو ما عجّل - وفقا لما قدّره نوشي تخمينا- بإطلاق سراح جميع من شملهم الإيقاف.
يعرّج ناقل هذه الذكريات إلى الإفادة الجمّة التي حصلت له من خلال الدعوة التي وجهها لـ"رجيس بلاشير" الوافد على الجامعة في نهاية السنة الدراسية بغرض إجراء الامتحانات لتناول الفطور على مائدته، وإلى اللقاء الذي جمعه به وبشارل صوماني Charles Saumagne الكاتب العام لحكومة الإقامة العامة الفرنسية سابقا وأحد مهندسي استقلال تونس الذي ربطته بزعماء حزب الدستور وبالرئيس ببورقيبة تحديدا علاقات صحبة شخصية حميمة، مبيّنا سعة اطلاعهما على حقيقة أوضاع العالم العربي والإسلامي وعلى خصوصيات مختلف بلدانه الاجتماعية والسياسية والثقافية.
كما يعرض نوشي أيضا إلى الاستعدادات التي سبقت مشاركة الجامعة التونسية في مؤتمر ميونخ الدولي الذي خُصصت أعماله سنة 1963 للتدقيق في طبيعة "الإسهام الشعبي في حركات التحرّر الوطني"، مُلمعا بالخصوص إلى ثناء أرنست لابروس  Ernest Labrousseعلى قيمة مداخلته المخصّصة لـ"جذور الحزب الدستوري الجديد زمن أزمة الثلاثينات الاقتصادية"، مُتوقفا عند مساهمات "لوست فلانسي Lucette Valensi" ومحمد الهادي الشريف المتأثرة بتوجهات مدرسة الحوليات، ونماذج تحليل كبار منشطيها. كما يستعيد مضمون محاضرات من دعاهم من بين كبار الأساتذة الزائرين على غرار "روجي باستيد Roger Bastide" و"غرفتيش Gurvitch" و"لوروى غورهان Leroi-Gourhan" و"شارل أندري جوليان Charles andré Julein"و "رجيس بلاشير Régis Blachère" و"جاك بيرك Jacques Berque " ، مستحضرا الهالة التي أحاطت بشخصية هذا الأخير الذي غصّ مدّرج ابن خلدون بالحاضرين من أعيان المدينة ونخبة علماء جامعها الأكبر حال حضوره إلى تونس أولئك الذين استمعوا باهتمام بالغ لتحاليله حول "هندسة الفراغ في معمار البيت العربي الإسلامي"، مع أن تلك التحاليل قد أثارت استغراب عدد من الحاضرين بما فيهم نوشي نفسه، متسائلين دون الظفر بأية إجابة عن مدى معقولية أن يُتخذ من الفراغ مسكنا !؟
يعرض ناقل هذه الشهادة إلى استنجابه من قبل روبير منتران Robert Mantran الذي أشركه في تحرير مجلة الآداب والعلوم الإنسانية "الكراسات التونسية Les Cahiers de Tunisie  "، وريثة "المجلة التونسية La Revue Tunisienneمشدّدا في هذا الصدد على ما بذله من جهد وما صرفه من وقت بعد أن آلت إليه رئاسة تحريرها إثر نُقلة مانتران إلى جامعة آكس الفرنسية. ويستحضر المؤلف تأثّر خط تحرير المجلة بتوجهات أقطاب مدرسة الحوليات الفرنسية ودفعه باتجاه تنويع تلك التوجهات بغرض إكسابها لونا يتوافق مع شخصية البيئة المعرفيّة التونسية واحتياجاتها، مُقدّما جزيل الثناء على المساعدة التي قدمتها له سيدتان فاضلتان هما السيدة طمزلّي ذات الأصول الجزائرية، والسيدة دارمون Darmon قرينة المحامي الذائع الصيت تونسيا.
يستعيد نوشي ذكريات تردّده على مقر المجلة بساحة المدرسة الإسرائيلية، مشدّدا على القيمة العلمية للمقالات التي كانت تُرسل للمجلة، متوقّفا عند حادثة نشره لمقال قيّم حول انتفاضة بن غذاهم وافته به "بيس سلامة Bice Slama " وعند فحوى الرسالة الـمُغلظة والطافحة غيضا التي وجهها جون غنياج للقائمين على المجلة، شاجبا نشر هكذا مقال. مبيّنا تردده في نشر تلك الرسالة على صفحات المجلة خشية الدخول في سجال عقيم.
ودّع نوشي في صائفة 1964  تونس ميّمنا صوب فرنسا، تارك ورائه ما يدعو إلى الاعتزاز بالـمُنجز والافتخار بقيمة الجهد المبذول بسخاء ونكران ذات. جامعة تعجّ بالمجتهدين من طلبة ومنتسبين إلى مدرسة المعلمين العليا، ومدرّسين مجدّدين واعدين ومجتمع متفتّح وطلبة تحوّلوا بالتقادم إلى أصدقاء أوفياء وباحثين مجدّين بل وإلى مؤرخين ملهَمين ساهمت أبحاثهم في التعرف بشكل دقيق على مجالات عديدة ووقائع معلِّمة من تاريخ تونس الحافل والطويل.
يقدّر نوشي أن تلك السنوات التي قضاها متنقّلا بين جامعة لم تتعال على خدماته وضاحية وديعة مستحمّة في عافية الشمس وزرقة الماء والسماء عند موقع قرطاجة الأثير، كانت على الحقيقة أفضل سنوات حياته المهنية كأستاذ جامعي نظرا لتلقائيتها وسحرها غير المألوف، معترفا أن مشاهد تونس الطبيعية الأخاذة ولذيذ عيشها قد أوقعاه في غرامها والشعور باختلاف سكانها في كل شيء عن أهله بجزائر سنوات الصبى.
ولعل عشقه لتلك السنوات منغرس عميقا في إحساسه بالإسهام في مسيرة دولة شابه حُبلى بمستقبل واعد ملئه الانقطاع للعمل والمعرفة الجذلى والاحتكام لقيم الجدارة واحترام ذكاء التونسيين كل التونسيين، نساء ورجالا حتى يكون لتونس الصغيرة مساحة كبيرة تاريخا وحضارة في المتوسّط، عزاء ورجاء.  



   لم أجد أصدق للتعبير عن امتناني لمن وسم مسيرتي المتواضعة في البحث بهذه المقولة إلا اعتماد ما تلطّف به  عنوانا لما نقلته مختزلا ومُتصرّف فيه بمطلق الحرية لجوانب من محتوى مقال أندري نوشي حول "جامعة تونس في سنواتها الأولى" الصادر سنة 2010 بالمجلة التاريخية المغاربية، عدد 138 ص ص، 99 - 109.
  Nouschi (André), « L’université de Tunis sa vie », dans, Revue d'Histoire Maghrébine, n°138, février 2010, pp:99-109. 

André Nouschi, né à Constantine le 10 décembre 1922, est professeur émérite d'histoire contemporaine à l'université de Nice. Juif algérien, il est un spécialiste reconnu de l'histoire du XXe siècle et de l'Afrique du Nord. Il a publié de nombreux ouvrages dont La France de 1914 à 1940, L'Algérie amère (1914-1994), La France et le pétrole, La Méditerranée, La France et le monde arabe.


Combattant de la France libre, il est également l'auteur d'un livre sur le niveau de vie des populations rurales constantinoises durant la période coloniale jusqu'en 1919 (PUF, 1961). Ce livre, décisif, avait en son temps été salué par Ahmed Taoufik El Madani comme « la goutte d’eau qui s'offre au voyageur après la traversée du désert ». Il est aussi co-auteur de Algérie passé et présent avec Yves Lacoste et André Prenant. 

2 commentaires:

  1. مُمتعة، منعشة ذكريات هذا الطفل البريء، والريشة التي قدمتها لنا...
    تحياتي سي لطفي

    RépondreSupprimer
  2. Merci Houssem.
    C'est peut-être aussi ton goût de fin lecteur qui rejaillit avec éclat sur mes griffonnages...

    RépondreSupprimer