vendredi 3 août 2012

بين المعارضة و"المعاضدة": ملاحظات أوّلية






في ضوء المتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تعيشها البلاد التونسية بعد طي المرحلة الانتقالية الأولى المفضية إلى انتخابات 23 أكتوبر 2011 وصعوبات تحديد ملامح المرحلة الانتقالية الثانية المؤدية إلى استكمال المسار الديمقراطي والخروج من الوضعية المؤقتة والحرجة التي تعيشها البلاد أجهزة ومجتمع، يستقيم التساؤل بخصوص "الحداثة المعلنة  modernisme autoproclamé " التي تصدر عنها مختلف الحساسيات والتيارات والعائلات السياسية الموسومة بالتقدمية، سواء تلك التي اختارت الانضمام إلى الحكم أو تلك الموجودة في "المعارضة"؟ والتشديد على أهمية تجذير مدلول الدولة المدنيّة من خلال السعي إلى الفصل بين الفضاء العام والانتماء العقائدي تجسيما لمدلول الحداثة وتواصلا مع الإرث الإصلاحي التونسي بمختلف حساسياته أو تعبيراته. علما أن الهدف من جميع ذلك هو القدرة على التعبير على الذات بشكل دقيق ومفارق بالخصوص، قياسا للطرح الفكري الذي تصدر عنه مختلف التيارات الموسومة بالمحافظة، دينية كانت أم مدنية.
كما يتعين الإلحاح على ضرورة توضيح القاسم المشترك للتيارات التقدمية مع بقية العائلات السياسية والحساسيات الفكرية تونسيا، وقدرة خطابها على التبليغ، مع التحديد الدقيق لطبيعة الإضافة التي يُنتظر أن تُشكل إسهاما خاصا لها في مسار إنضاج الثقافة السياسية وإكساب مشهدها الحالي، فهما دقيقا لمتغيرات الواقع المحلي والإقليمي والكوني. كما ينبغي الوعي بالتقاطعات التي تربط هذه التيارات بمختلف العائلات المناضلة، السياسية منها والنقابية والمدنية والثقافية. وهو ما يمكن اعتبره إسهاما في إعادة صياغة خصوصيات الهوية التونسية وإنضاجا لمدلول الحداثة، واستجابة للحاجة الملحّة التي يبديها "الرأي العام" حاضرا، وخاصة بالمناطق الداخلية، عبر التساؤل عمّا يربط هذه التيارات السياسية الموسومة بالتقدمية بمختلف الحساسيات المشكّلة للعائلات السياسية الأخرى، وما يميّزها عنها؟
لكن ما هو المدلول العميق للحداثة في ظل الحرج الذي يتسم به الانتصار لمبادئها ضمن المشهدين السياسي والثقافي التونسي حاضرا، وتحوّله بَعْدُ إلى وسيلة سهلة للتهجم على جميع الداعين إلى حسم مسألة انخراط البلاد في مسار الحداثة منذ انطلاقها مع بروز التجربة الإصلاحية عند أواخر القرن التاسع عشر، إي منذ قرن ونصف على الأقل؟
إن شعارات الثورة المتصلة بالحرية والكرامة لا يمكن فصلها عن ممارسة المواطنة والاحتكام إلى التعاقد والالتزام بالقوانين، وجميعها توجهات تنخرط تماما ضمن صيرورة الحداثة. على أن المستغرب هو أن كل محاولة للدفاع عن مكاسب الدولة المدنيّة أصبحت تجابه حاضرا بمزيد من التحفظ والارتكاس، وتُؤًوَّلُ من قبل شرائح واسعة داخل المجتمع التونسي باتجاه مدلول ضيق يحيل على نزوع إلى الانطواء بل وإلى العدوانية أيضا ! فنحن نلاحظ حضور مزايدات بخصوص الخطاب الحداثي مع عدم التحفّظ في وصم دعاته بـ"الزندقة" وتكفيرهم عنتا والتحريض على تهميشهم بل والتشفي منهم، مما يثبت الاختلاف الصارخ بين الدستوريين والنهصاويين في ما يتعلق بما يصح وسمه حاضرا بـ"عودة الديني أو التبئير حول الطقسية الروحية". ذلك أن السمة الطاغية على الخطاب الفكري الانتقائي للتيارات السياسية الدينية هي ضعف المعرفة بمصادر إصلاح الفكر الديني نفسها. فحال إشادة الإسلاميين التونسيين بدور محمد الطاهر بن عاشور في تجديد الفكر الديني مثلا، يعتّم هؤلاء على التوجهات المتفتحة لابنه الفاضل، معتبرين أحفاد ذلك العلم (على غرار سناء وعياض مثلا) أبناء غير شرعيين لذات العائلة، شوّهوا إرثها بل تورطوا في مسخه بالرمّة، موضحين في هذا الصدد أن التجديد الحقيقي للفكر الديني يتعين أن ينهل - بزعمهم طبعا - من توجهات مفكري السلف من أئمة السّنة على غرار بن قيم الجوزية الذي يشكّل يوسف القرضاوي وابن باز حاضرا تواصلا حقيقيا معها، وذلك تساوُقا مع ما صرّح به زعيم النهضة ومنظّرها راشد الغنوشي الداعي إلى إقرار مبدأ "التدافع الاجتماعي" كآلية في تجاوز الاختلافات الفكرية، مع العمل على "أسلمة الدولة من الأسفل". وهو ما يتعارض بالكامل مع ضرورة اتخاذ الدولة موقع الحياد، ويكشف عن النوايا الحقيقية للتيار المحافظ الـمُقحم للدولة ضمن التجاذبات السياسية، غير المكترث على الحقيقة بفصل الدين عن السياسة.
ومهما يكن من أمر هذه التوجهات المعادية للفكر الحداثي وللنموذج الاجتماعي الناسل عنه، فإنه يتعين التأكيد على شدة تأثير النموذج الفكري الفرنسي على الذائقة التحديثية التونسية إلى حدّ يستقيم معه التساؤل بخصوص صحة حضور نزوع من قبل العائلات الفكرية والسياسية التقدمية التونسية إلى حالة من الاتكال بل والحضانة أسهمت في سجنها ضمن تصورات أحادية جعلت من عملية إعادة تملّك القيم الكونية محلّيا مغامرة عسيرة الولادة غير مأمونة العواقب! والحال أن تاريخ التوجهات التقدمية كونيا يشي بتنوّع الحداثات ذات الروافد الأنحلوساكسونية والإيطالية بل واليابانية في مرحلة متأخرة، قياسا لكونية قيم الثورة الفرنسية. في حين أن الفارق بين التقليد والمحافظة لا يتمثل بالضرورة في القطيعة مع التاريخ بمقدر ما يجسّم نزوعا باتجاه حالة من الإسقاط يصرّ المنتصرون لها على رفض كل قراءة سياقية متوهمين القدرة على تكريس حالة من التساوق بين الواقع وبين ماضي مثالي موعود.
فقد بينت نتائج انتخابات المجلس التأسيسي التي أُجريت في 23 من شهر أكتوبر 2011 أن العامل الحاسم في تلك الاستحقاقات السياسية قد تمثل في حضور قدرة على التكاتف ورصّ الصفوف لدى التيارات المحافظة والشعبوية قياسا لتشرذم التيارات المنتسبة إلى العائلة التقدمية الموسعة. فالفارق الذي أحدثه تيار "العريضة الشعبية" مثلا على حساب مناضلي القطب الحداثي المدافعين على المطالب المتّصلة بالحق في الشغل والصحة والتعليم والسكن ضمن ما سمي بــــ "Dignity Act" يبدو جد جليا في الأحياء الفقيرة لتونس العاصمة وبالجهات الداخلية أساسا، وفقا لما أسفرت عليه نتائج تلك الانتخابات. فقد وظفت التيارات المنتصرة آليات بسيطة تتصل بكارثية إمعان المنتسبين للعائلة التقدمية من بين النخب الحضرية المتعلِّمة خاصة في التعالي وضرب قيم البداوة وتهميش الفئات الفقيرة والحطّ من قيمتها من خلال الإسراف في تشغيل آليات "الحُقْرَة"، مع النجاح في مسايرة أساليب التفكير داخل المجتمع التونسي التي لا تزال تعوّل بشكل فاضح على نظام الثنائيات (متديّن – ملحد – مسلم – كافر ). هذا بالإضافة إلى الطبيعة المفتوحة لتلك الآليات التي أصبحت تشتغل حاضرا وفقا لمنطق خارجي يتعامل بكثير من الدُونية مع ذاته وحقيقة واقعه المحلي.
ولعله من المفيد في هذا الصدد الاستدلال في توضيح بعض التحولات التي بدأت إرهاصاتها تبرز على الواقع التونسي من خلال مقارنتها بمختلف التطوّرات التي عاينتها الساحة السياسية المصرية، تلك التي حقّق داخلها "حزب النور" القريب من الطرح الأصولي الوهابي مثلا نجاحا كبيرا في الانتخابات لاعتبارات سوسيو-ديمغرافية تتصل بوجود قرابة 9 ملايين مصري تقريبا بالسعودية وببلدان الخليج. مع العلم أن ذلك الإسلام الوهابي السعودي المنتشر ببلدان الخليج هو الذي يصدر عنه فكر النهضة في تونس على الحقيقة، وهو إسلام قريب من الإسلام الأمريكي لا يعير أهمية وفي المقام الأول إلا لوضع اليد على مقدرات البلاد وربطها بشبكة مصالحه الشخصية المتشعبة والغامضة، لذلك لابد من التفطن إلى أن مُعلن الخطاب "الأخلاقوي" الذي يتسربل به حاضرا دعاة المحافظة تونسيا لا يجب أن يلهي معارضيهم عن توجهاتهم النفعية الصارخة حال ممارسة الفعل السياسي من منظور الاحتكام إلى منطق الربح والخسارة المادية في المقام الأول.

2 commentaires:

  1. Cet article pose une question délicate ; Si notre élite éclairée est toujours incapable de gagner la sympathie de la masse populaire, faut il dans ce cas que l’intellectuel ait le courage nécessaire pour proposer la solution du suffrage censitaire !?

    RépondreSupprimer
  2. ça aurait pu être le cas si nous avions eux à évoquer la question de la citoyenneté et de la démocratie dans les cités-Etat grecques, dans les provinces de l'empire romain ou dans les pays renaissants d'Europe occidentale; mais ces quelques observations préliminaires ne concernent exclusivement qu'un contexte spécifiquement oriental en l'occurrence celui de la réappropriation en devenir des valeurs démocratiques par le commun des "citoyens" tunisiens. A bon entendant salut.

    RépondreSupprimer