dimanche 5 août 2012

بشارة: "هناك حياة قبل الموت"



  

لما التقينا بأندري كونت سبونفيل André Comte-sponville  بباريس استرعى انتباهنا شيء مهم، فعلى الرغم من إلحاده المعلن فإن هذا الفيلسوف يُبدي عناية كبيرة بالروحانيات. فكتابه الأخير الذي يحمل عنوان "في البحث عن روحانية من دون إله A la recherche d’une spiritualité sans Dieu  " هو عبارة عن رواية لمنعطفات مغامرة شخصية ذات منحى روحيا شفافا.
سألناه أولا: يتراءى للعديد منّا أن الانفصال عن الكنيسة والقطع مع الإيمان بالله هو التوجه نحو عالم لا يتسع لأي روحانية. هل لمثل هذا السبب يزداد الاهتمام بتوجهاتك الفكرية التي تعتبر، وعلى نقيض ذلك، أنه بوسع الفرد أن يعيش روحانية عميقة من دون أن يكون مضطرا بالضرورة على الاعتقاد في وجود الله؟
- أنجزت هذا العمل لأثبت أنه حال انعدام اعتقادنا في الدين لسنا محكومين بالضرورة بالعدمية، فأنت تعلم أن المدلول اللاتيني للعدم يعنى "اللاشيء"، حيث يتصوّر البعض أنه إذا انعدم الاعتقاد في الله لا يبقى أي شيء. وأن العدم سقوط في الفراغ الروحي، وهو ما لست مواقفا عليه كليّة. لأنه إذا تغيّب الإيمان بالله يحتفظ الفرد بالأخلاق وهو ما أسميه بالإخلاص، مثلما يحتفظ بالروحانية. فأنا من بين أولئك الذين يعتقدون في إمكانية، بل وفي ضرورة وجود روحانية من دون حاجة لوجود الله.
لو تكرمت بتحديد ملامح هكذا روحانية؟
- الروحانية في التعريف العام هي حياة الفكر وانتعاش الروح، ومن منظوري الشخصي لا يستقيم القول بأن من اختاروا عدم الإيمان بالله يتوفّرون على قدرات فكرية أدنى من غيرهم. فلماذا يصرّ البعض على اعتبارهم أقل روحانية من غيرهم؟ ولماذا نفترض أنهم يبدون أقل اهتمام بالشواغل الروحية؟ كما أن الروحانية من منظور تفصيلي دقيق، هي حياة الفكر عامة وعلاقتها تخصيصا باللانهائي بالسرمدي بالمطلق، أي بطريقة أخرى فإنه يمكن اعتبار حياتنا الروحية انعكاسا لعلاقة النهائي باللانهائي، علاقة المحكوم بالزمن بما لا يتحكم فيه أي زمان،  علاقة النسبي بكل ما هو مطلق. فأن أكون مؤمنا بالله أو لا، فإن ذلك لن يحول بيني وبين رفع رأسي إلى السماء ومشاهده نجومها المتلألئة ليلا كي أتبيّن أننا في قلب الوجود في قلب الغموض في قلب اللانهائي. كما أن عدم الإيمان بالله لا يعفي من العيش في علاقة بالزمن، في علاقة بالأبدية ونقصد العلاقة بالحاضر ذاك الذي يبقى حاضرا على الدوام وبالمطلق في آن. وهكذا تتوفر الإنسانية مع حضور الله من عدمه على هبة التفكير في الروحانيات، لذلك من المؤسف حقا فصلها عن مثل هذا البعد. فليس من الموجب لأني ملحد، أن أعمد إلى التنازل على مثل هذا البعد المهم، مُتفصّيا من كل حياة روحية.
أتفهم جيّدا وجهة نظركم. لكن لماذا تقومون بإدراج مدلول كثيرا ما تصورنا أنه مقصورا على إطار التدين، ونقصد به الغموض ضمن ذهنية الإلحاد؟ فهل نحتفظ بنفس ذلك الشعور مع الالحاد؟
-    تماما، فبعكس ما نظن يتوفر تفكير الملحد على جرعة أكبر من الغموض قياسا لما يتوفر عليه تفكير المتدين. لأن الغموض الحقيقي هو غموض الوجود، تساوقا مع أحرج أسئلة ليبنيتز Leibnitz الميتافيزيقية : "لماذا يوجد شيء عوض عن العدم؟" لماذا الوجود؟ لماذا العالم؟ وهذا سؤال لا يتوفر على أيه إجابة ممكنة. لأنه في حالة ما أجبتني على سؤال الوجود بالانفجار الكبير الذي أنشأ الكون أو "البيغ بونغ"، فإنني سأسلك عندها مباشرة لماذا الانفجار الكبير؟ وإذا ما فعلت ذلك فإنك لا تجيب في الحقيقة عن السؤال، بل تقوم بزحزحته عن موضعه فحسب. وإذا ما سألتك لماذا "البيغ بونغ" وأجبتني بأن الله هو من قدّره حتى يتمّم خلق العالم، فإنك هنا أيضا لم تجب عن سؤالي ولم تقم عمليا إلا بنفس الزحزحة. أي أن سؤال الوجود "لماذا هناك شيء ما عوضا عن العدم؟" سؤال لا يحتمل أية إجابة ممكنة، وأن الوجود تبعا هو ما نسميه بالغموض. وهكذا فنحن في قلب الوجود، في قلب الغموض. فالمتدين يفضّل وضع اسما على هذا المدلول بإحالته على الذات الإلهية فيصبح بذلك أقل غموضا، بينما لا يستطيع الملحد ربط ذلك الغموض بأية تسمية، مفضّلا مواجهة مصيره ووجوده الغامض. وهو ما لا يشكّل في حقه عملية استئصال بالضرورة، بل إننا ممن يعتقد أن ذلك الأمر يحيل على مصير جمّاع البشر.
دعني أذكر هاهنا بما كنت بصدد التعرض له بخصوص تجربة التأمل البسيطة والممتلئة في السماء. لنحاول أن نخصّص هزيعا من الليل حال صفاء الجو للغوص في السماء المتلألئة بالنجوم، سنشعر عندها ونحن في هذا الكون المترامي الذي يحيط بنا، أننا في قلب الوجود ولم أقول في وسطه، نحن في قلب الغموض واللانهائي والأبدي والمطلق. هذا ما معنى الإنسان وهذا ما نسميه روحا فكرية، فالإنسان هو كائن نهائي مفتوح على اللانهاية، كائن له وجود مرتبط بزمان مفتوح على اللازمان، وهو كائن نسبي مفتوح على المطلق. لذلك فإن اختياري الإلحاد لا يدفعني إلى التنازل بالضرورة على هذا الانفتاح الذي يجعل مني إنسانا، ويمكنني من شعور بالامتلاء بذاتي الروحية.
ألا يسعفك ذات الأمر في أن تعيش أيضا؟ فعندما تعرض إلى مثل هذه القناعات، أجد نفسي أنا الذي يعتقد أن الإيمان ليس حكرا على الديانات، وأن رغبتها في احتكار الإيمان هي مجرد ادعاء واهم، أن التدين غير كاف لحصول الاعتقاد، لأن مسألة الإيمان تتوافق عمليا مع ما تفضّلت بطرحه، وأن حياتي لها مدلول ضمن شيء يتجاوزني، مع القبول بأن ليس بمقدوري تقديم جواب على مختلف الأسئلة الوجودية الكبرى. فعندما أقبل أن الإجابة عن معنى الوجود هي غير ممكنة، فإنني أضع نفسي على ما قدّرتم في الزمن الحاضر، معتبرا أن حياتي لها معنى حقيقي الآن وهنا،
لذلك يتعين عليّ أن أتجاوز تصوّر وجود شيئا آخر بعد ذلك. فلّ أحيها الآن وكفى.
-    نعم هذا ما سميته بروحانية الزمان الحاضر، فالحكمة وفقا لما قدره الإغريق هي أن نعيش الحاضر، أن نعيش أبدية الحاضر. فأنا أعتقد على غرار سبينوزا Spinoza   - وهذا ما قمت بتوضيحه مطولا طي كتابي - الذي أورد ضمن كتاب "الاثيقا Ethique": أننا "نشعر ونجرب أنّنا أبديون". وهذا لا يعني أننا سنكون على تلك الشاكلة بعد موتنا - وهو ما لم يكن سبينوزا من معتقديه ولا أنا أيضا- ولكن نحن نشعر ونجرّب كذلك أننا أزليون الآن وهنا، أبديون. وهذا ما يعني أن الروحانية هي أن نحي روح الحاضر، أن نحي الأبد حاضرا.
لكن هذا لا يعني أيضا أن ليس في الأمر سوى هذا، فأنا ممن يعتبر أن هناك ثلاثة أبعاد ناظمة للوجود البشري:
الأخلاق، وهنا كان للأديان دور مهم سبق وأن وسمته بـ"الإخلاص".
الروحانية وأقصد بها تجربة البحث الروحي، والانفتاح على اللانهائي وعلى المطلق وعلى الأبدية.
أما بخصوص معنى الحياة أو قيمة الحياة أو تذوّق الوجود، فأنت تعلم أن ما يُعطي معنى أو قيمة للحياة، هو بالأساس المحبة. فالأخلاق وحدها لا تكفي، والتجربة الروحية أيضا. وهنا دعني أشدّد على بُعد أساسي يحيل على إخلاصي الشخصي للقيم اليهودية المسيحية، بل وللقيم المسيحية تحديدا ولرسالة الأناجيل. فالمسيح هو أفضل من عبّر إنسانيا على فكرة أن الحب قيمة القيم، لأنه يُكسب الوجود قيمة ويسمح بتذوق الحياة. فليس لأنني ملحدا يتعين أن أتغاضى على إدراك عظمة رسالة على هذه الدرجة من السمو !
فأنا لم أخط هذا الكتاب قصد التشهير بالتديّن وبالمتدينين، وضعته من أجل مقاومة الدغمائية والسلفية والظلامية والتحجر، وفي تقديري الخاص لا يقع الحدّ أو "خط النار" كما يقال بين المتدينين وغير المتدينين، بل بين أصحاب الفكر الحر المتسامح من جانب، والظلامية والتحجر من جانب مقابل. المتدينون وغير المتدينين يتوفرون على تلك الخصال وعلى نقيضها طبعا، لذلك فأنني أعتبر هذا الكتاب عملا نضاليا ودعوة إلى السلم في آن. فهو صرخة ضد الأصولية والتحجر والظلامية، وهو في نفس المقام نداء للمسالمة موجّه لجميع أصحاب الفكر الحرّ من المتدينين ومن غير المتدينين الذين تتسم تصرفاتهم بالحرية والتفتح والتسامح. وهو في كلمة كتاب لنشر ثقافة السلم بين جميع أصحاب الفكر الحرّ وضد جميع أشكال التطرّف والمباغضة.
سؤال أخير أنتم الإنسان الملحد، حتى وإن كنتم "ملحدا يحمل أطيب النوايا"، بماذا تشعرون إزاء موتكم الشخصي؟ هل ينتابكم إحساس بعدم الطمأنينة والاضطراب، أم أنكم تنعمون بطيب الخاطر حال تفكيركم في هذا الموضوع؟
-    أنا أعيش هانئا مطمئنا من أجل حاضري، لكنني لا أدّعي أن تلك الطمأنينة سترافقني إذا ما صادف وأعلمني الأطباء مثلا أن أيامي على هذه البسيطة أصبحت معدودة.
بالمناسبة لمحت عرضا في يوم من الأيام مكتوبا على حائط من حيطان باريس الشعار الرائق التالي: "هناك حياة قبل الموت"، وهذه بشارة هامة لشخص ملحد مثلي.
أن توجد حياة بعد الموت، فذلك ما لا يعلمه أحد حتى وإن كنت أشك شخصيا في ذلك، لكنها لبشارة فارقة حقا أن "تكون هناك حياة قبل الموت"، لذلك يتوجّب على الجميع أن لا يتلهى بأي شاغل سواها مستندا إلى أن هادم اللذات سيجعلنا نفارقها يوما ما. ما يؤرقني على الحقيقة هو ليس نهايني المحتومة، بل موت الأقربين وأكثر من ذلك هو إمكانية الشعور بالألم وإمكانية شعور أقاربي بالأسى. أصدقك أنني رجل محتار ذو مزاج قلق. لن ألعب أمامك دور الحكيم، فأنا رجل منزعج. لكن ما يزعجني ليس التفكير في نهايتي أو انتقالي إلى عدم، فهناك شيء يتجاوز الموت والعدم ذاتهما، إنه الألم. فقد عرّف مونتاني الحكمة في جملة واحدة صافية وبسيطة كانفلاق النور: "أُحب الحياة". ومحبة الحياة تعني أن نتذكر أنها فانية، لذلك يجدر بنا أن ننعم بها، أن نجهد النفس في تواصلها بأفضل الطرق المتاحة الممكنة، وذلك عبر مقاومة الألم والحزن أو الأسى كما الجور والتعدي. وهو ما من شأنه أن يضفي معنى عميقا على وجودنا، ويسعفنا في تذوق نبع الحياة الصافي. 

                                                   

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire