samedi 11 mai 2013

البحث عن محي الدين










               

-1-

       حضرت مساء الخميس وبدعوة كريمة من مؤسسة ابن رشد للديمقراطية والتقدم عرض شريط ناصر خمير الجديد  "البحث عن محي الدين". وهو عمل سينمائي روائي توثيقي حاول موقعة تأملات الشيخ الأكبر كونيا، متوسّلا في ذلك رحلة صوفية شخصية مقصدها التدبّر والسياحة الروحية على نهج أرباب التصوّف والسلوك. فقد استشعر مخرج الشريط حاجته إلى ذلك بعد أن فارقته والدته، وعبّر رؤية والده الذي تصوّر له مناما كي يستحثه على تبليغ الأمانة متمثلًة في التعريف بتأملات الشيخ ومدلول تجربة الهداية لديه. 
ما من شك في أنشداد صاحب الشريط إلى عالم التعبير الجمالي لمختلف الرؤى التي لازمت مساره الفني، فقد شكّل هذا التمشي مدخلا أساسيا ضمن مختلف إبداعاته التشكيلية في الرسم المسندي أو في الكتابة التصويرية.
ويمثل شريطه الأخير تواصلا مع هذا المنزع الجمالي الذي مكّن ناصر خمير من التموقع بشكل لافت ضمن الحركة الابداعية التصويرية التونسية. 

-2-

        ناصر خمير فنان التأمل والسكينة الروحية بامتياز. فجميع تجاربه تنزع نحو إدراك مدلول التوازن ضمن المتباين والمتصارع والمختلف والمفارق، فقد شكّل الحفر في جمالية  الصورة شاهدا على كمال الذات المتأملة، الرافضة لفصل الواقع المعيش عن شهود عالم الحلم المندس عميقا في تمثلنا للكون وما ورائه، للحياة وما بعدها. 
استغرقت رحلة الفرجة ثلاث ساعات أو تزيد، حوصلت جهدا كشْفيا استغرق أربع سنوات من البحث بالتمام والكمال. رحلة انطلقت من مقام أبي الحسن الشاذلي المصاقب لمقبرة الجلاز المشرف على نقطة الفصل والوصل بين عالم الأحياء والأموات، متنقلة بين جبل المنارة (حيث ضريح شيخ أبي الحسن الشاذلي، أبا سعيد الباجي) وجبل البكاء (مُعتزل عبد العزيز المهدوي، شيخ هداية ابن عربي)، مقتفية أثر العارفين بفكره المتأملين في منزعه الإيماني من خلال مجموعة من المقامات، استحضرت عيّنات من آثاره وجوانب من مساره تواتر صدها بين زمرة من المنقطعين لتأويل تأملاته الصوفية، تنقل مخرج الشريط للاستماع لوجهات نظرهم وتقليب النظر في آرائهم حول إشراقات ابن عربي بين لندن وباريس وفاس ومرسية وغرناطة وقونيا ونيويورك وبلاد الحجاز وصنعاء عند بلاد اليمن السعيد. 
حوصل تقاطع وجهات النظر المستجلبة الخائضة في العشق الإلهي ومدلول المحبة والكشف والفتح الرباني والعلم اللدني ووحدة الوجود ورحلة السلوك ومعنى الهداية وشهود الكون في كمال كتاب الذات، جملة من المسائل الشائكة طاف السالك من أجل تدبّر معانيها بين حواضر الغرب والشرق، مُستمعا في خشوع وإجلال لمحدثيه من مشايخ الصوفية وأرباب المواجد وجِلّة الباحثين في هذا الضرب من المعرفة الذوقية المتبحرين في أمزجتها وجزئياتها المتشعّبة. أثمرت رحلة الهداية والتدبّر سكينة السلام والإسلام، المُسعِفَة في قطع المقامات وشهود التجليات، حيث شكّلت الشخصية الملتحفة ببرنس من الصوف المغربي -على ما بدا لنا- رمزا لتشظي الذات وتدرّجها في عملية الانسلاخ خلاقا جديدا مُنعتقا من التيه بلطف خفيّ من العناية الربانية.

-3-

        جميلة هي المشاهد التي صوّرها لنا ناصر خمير وأحكم تركيبها بتدبّر ومقدرة سينمائية لافتة، ثلاث ساعات من المتعة الخالصة لم تكدرها في تقديرنا الشخصي غير هنتين لابد من التنويه بهما : 
- أولاهما سيطرة المشغل الذاتي أو الشخصي عما سواه، وتعارضه الصارخ مع الطابع التوثيقي للشريط قياسا للجانب الروائي، وهو  شاغل بدا لنا هزيلا وغير ذي مدلول. فقد اختار المخرج الذي لعب دور بطل الشريط، حضورا سلبيا تمثّل في تصوير تنقلاته بين الأمكنة وهو يجر أمتعته الشخصية، على شاكلة السائحين من السالكين الذين يحملون متاعهم (مرقعة وعصا وركوة) في تطوافهم بحثا عن شيخ هدايتهم أو كبريتهم الأحمر، الذي يشكل العثور عليه تقويما لاعوجاجهم، بينما يترتب على عدم الاهتداء إليه مضيعة لوقتهم تماما مثل الضرب في الحديد البارد.
يبدو مخرج الشريط مفتونا بكسبه الروحي، لكأنه يُصرّ على إشراكنا في مباهج التطواف بين الأمكنة الذي أثمر في حقه إيمانا صادقا واقرا في عميق الفؤاد. غير أن غبطتنا بما أصابه من كشف روحي ومعرفة لدنية، لا تلغي تساؤلنا بخصوص الحاجة لفصل رحلته الكشفية التي أعيانا البحث عنها في خطاب مُستَجْوَبِيه، والمضمون التوثيقي لشريطه الذي استمرأته تهويماته أو شطحاته الصامتة. 
- ثاني الصعوبات التي يطرحها الشريط هو اختزال الحجة في البحث عن محي الدين في مضمون آثاره مع جوانب من رحلة سلوكه ، دون ايلاء اعتبار للقراءة السياقية وأخذ مسافة صحيّة من المنجز التأملي، فضلا عن السقوط وفي العديد من المشاهد في هنة الإشادة بتدقيقات الفقهاء السنيين وعلى ألسنة مخاطبيه بخصوص أحوال أهل التصوّف الذوقي. ينبري محي الدين في بحث ناصر خمير عنه عاريا عن كل سياق تاريخي، مكتفيا بتجلياته عمّا سواها، فلا حضور لشيوخ حركة المريدين الأندلسيين كابن العريف وابن برجان وابن قسي وغيرهم في تجربته، ولا فائدة من ربطها بالتصوّف المساري لشيوخ المغرب على شاكلة أبا مدين الغوث البجائي دفين تلمسان، وليس هناك من موجب لوضعها في سياق معركة التيار المذهبي الموحدي مع التسنّن المالكي مغربا.
اختار ناصر خمير رفع حجة إسلام التصوّف من بوابة فلسفة الإشراق دون سواها، جاعلا من مختلف مخاطبيه حجة قطع في استعادة التجربة التأملية للشيخ الأكبر من بوابة الحاجيات الإثيقية والجمالية السامقة التي تتخذ من الذائقة الغربية أُسًّا ، والحال أن القراءة السياقية تقتضي التوقّف عند توافق الشواغل وتعارضها غربا وشرقا، تحاشيا للسقوط في عروض استشراقية فجة ومبذولة، كما هو الحال عند الانغماس في تصوير أسواق حواضر الشرق وجوامعها وأضرحتها ومزاراتها ومحاجها. أو الافتتان بالتجارب الروحية الشخصية للباحثين في الشأن الصوفي، بل واعتبار أصحابها أدلة قطع في نجاح تجربة سلوك المخرج وعثوره أخيرا على مُحي دينه!


               

  ناصر خمير: مخرج ومؤلّف ورسّام تونسي. في رصيده " تاريخ بلاد الربّ"1975 و"معالم الصحراء" وطوق الحمامة المفقود" ، مرورا بـ"شهرزاد و"بابا عزيز" و"الكلمة ضدّ الموت" 2011 مع اندري ميكال، ثمّ" البحث عن محيي الدين" 2012.
http://www.essahafa.info.tn/index.php?id=59&tx_ttnews[tt_news]=45396&tx_ttnews[backPid]=12&cHash=7dbc3c6eb7

       

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire