vendredi 26 avril 2013

المقدس ومدلول الصراع حول الذاكرة الجماعية

















تشكّل مسألة الذاكرة الجماعية احدى المفاتيح الهامة التي يُسهم تدقيق مدلولها حاضرا في مزيد فهم سرعة نسق الحراك الاجتماعي ومحاذير حالة المخاض التي نعيش.
ويبدو من المفيد التنويه بحضور ثلاثة تناقضات أساسية بخصوص تمثل تلك الذاكرة، وهي تناقضات يغيّر الذهول عنها كثيرا من تناسق ألوان اللوحة التي نسعى إلى تحديد ملامحها الواقعية، وهي على التوالي:
- التفريق بين الذاكرة والتاريخ
- بين الوطن والأمة
- بين النجاح في رفع القداسة عن الفعل السياسي ومأزق إعادة الاعتبار للحياة الروحية.
يندس ما وسم بالذاكرة الجماعية عميقا في الحاضر، مشكّلا قراءة وجدانية لا تفتقر إلى موضوعيتها الخاصة. فهي تُعلي وتلفق وتقصي ما تقوم بتناقله من أخبار حول منجز الأجيال التي سبقتها، معيدة ترتيب أحداث الماضي من وجهة نظر حاجياتها الحاضرة، تلك التي يختلط ضمنها الموضوعي بالذاتي والشخصي بالعام.
أما التاريخ فهو محصلة لعمل المؤرخين، الذين يتصدّرون لإنتاجه وفقا لتقنيات معرفية ومهنية مضبوطة، تتعامل مع مخلفات الماضي بالمسافة، وتعالجها بشكل بارد يحاول قصار جهده تفادي جميع أشكال الانطباعية والانحياز.
ترتبط الذاكرة بالماضي - لا بالتاريخ -، لذلك يتعين تفاديا للخلط، الكفّ عن الحديث عن الذاكرة التاريخية، لأن في ذلك لغط يحيل على شيء لا يوجد في الواقع، تماما مثل الحديث عن ذاكرة وطنية في غياب استبطان عميق لمعنى الدولة-الوطن وامتلاكٍ لأخلاق المواطنة.  
وهو أمر يدعونا إلى الاعتبار بالفارق بين الأمة والوطن، حتى وإن كنّا على بيّنة، ومن وجهة نظر المعرفة التاريخية، أن لهذا الخلط ما يسنده ضمن خصوصيات العلاقة التي أنشأتها الدولة الوطنية أو دولة الاستقلال تونسيا مع هذين المدلولين، واللبس المقصود الذي اعترى مشروعها السياسي والمجتمعي والثقافي أيضا.
لسنا من دعاة القطع، وبعد أكثر من نصف قرن من تحقيق البلاد لاستقلالها السياسي، مع مفهوم الدولة-الوطن، بصرف النظر طبعا عن الحاجة الأكيدة إلى تعهّد مسار تشكّل تلك المنشأة بالتقييم الموضوعي المستمر.
ضمن هذا الإطار تحديدا، تتنزل دعوتنا الملحّة للنأي بالدولة عن الصراع حول السلطة. فمسيرة تحرير البلاد من الاستعمار قد خضعت تاريخيا لتداخل مقصود بين مدلولي الوطن والأمة، تونسية كانت وفقا لمنطوق خطاب الدستوريين، أم عربية  إسلامية كما يراها جانب من مناكفيهم. وهو لَبْسٌ لم يُحسم بشكل يسعف الدولة في بُعدها المؤسساتي في عملية تجاوز الارتهان السلبي لوجهة نظر من آلت إليهم تاريخيا مقاليد السلطة.
التناقض الثالث والأخير يندرج فيما لا نزال بصدد التفاعل معه كمجموعة تمتلك تمثّل للسيادة شكّله مشتركها الآني وخلفيتها التاريخية من وجهة نظر انتسابها إلى وطن يخصّها. فقد نجح المشروع الفارق الذي هو بصدد التشكّل حاضرا بَعْدُ في رفع كل قداسة عن الفعل السياسي واسترداده ممن استبدوا بتصريفه، متهيبا من تغوّل الدولة من جديد ومغبة الانزلاق مجدّدا في مساوي ملاحقة المعارضين وإذلالهم أو التنكيل بهم. فقد شكل الاهتمام بالشأن العام جرعة لم يعد بوسع التونسيين حاضرا –وإذا ما تجاوزنا شعورهم بالحرمان وحتى بالسأم أحيانا - التفريط فيها. غير أن توازن ما يأتونه والحرص على أداؤه بشكل صحي مرتهن فيما نعتقد بإعادة تشكيل الضابط الاجتماعي من خلال رطبه بسجل قيم ينسجم مع ما وسمناه برد الاعتبار للروحي. ونقصد القطع نهائيا مع جميع أشكال الوصاية الفكرية والعقدية على الأفراد بوصفهم مشاريع مواطنين فعليين، لا يتعارض انتسابهم إلى مجال سيادة مشترك مع احترام جميعهم لحريات بعضهم البعض الشخصية. فالروحي يتخطي التظاهر بالشعيرة، دافعا باتجاه الإقلاع عن الانزلاق مجددا في الإقصاء بالتعويل على التكفير ونفي توفّر من يختلف معنا مظهرا أو فكرا على حياة روحية توازي بل وتفوق أحيانا تلك التي لا يزال الاعتقاد جاريا (تماما مثلما كان عليه واقع ممارسة الفعل السياسي) بأنها حكر على المتدينين دون سواهم. وهو انزياح غير واعي يشرّع الرجم بالغيب من خلال قسر امتلاك الفضيلة على المتظاهرين بالشعيرة أو المتشددين في تطبيق قواعد الدين.
وهكذا فأن كل دعوة إلى التيقظ يُفترض أن تشغل حاضرا ما درجنا على اعتباره حقائق بديهية، على غرار أخذ التاريخ بشبهة الذاكرة، وتسلّل مدلول الأمة لمفهوم الوطن وارتهان صورته لمآخذ الماسكين بمقاليد السلطة، وحاجة رفع القداسة عن ممارسة الحكم إلى تَمَثُّلٍ مفارق للفضيلة يُسعف الضابط الأخلاقي ذاك الذي يفترض أن تعكسه الأحكام القانونية في أداء دوره المتمثل في حماية الحياة الروحية للأفراد من جميع أشكال الوصاية وجبروتها.
والاعتقاد عندنا أننا نعيش اليوم حالة تجاذب وصراع قويين بين ثلاث أنماط متراكمة تحيل على ذاكرتنا الجماعية، سواء ما اتصل منها بمرحلة ما قبل تأسيس الدولة-الوطن، أو تلك التي تحيل على حدود تلك الذاكرة كما شكّلتها الدولة الوطنية، في حين لازال الحدث الفارق الذي عشناه منذ سنتين أو أكثر بقليل بصدد إعادة صياغة تلك الذاكرة من وجهة نظر حاجيات الزمن الراهن.
تتمثل المواضع المعلّمة للذاكرة الروحية المتصلة بسياق مرحلة ما قبل تأسيس الدولة-الوطن في هيمنة المزارات والأضرحة والزوايا على المشهد المتصل بجغرافية البلاد التونسية الثقافية. ويعود ذلك إلى جملة من الأسباب الموضوعية شكّلت آليات التكافل والاندماج الاجتماعيين، وأساليب مواجهة صعوبات المعاش، وكذلك المستوى العام للذهنيات ومحوريّة ضمان الخلاص في الآخرة أبرزها.
لم يجاف الإسلام منذ انتشاره بمجال المغارب عامة هذه التوجهات الثقافية والروحية، بل عمل على تأطيرها بما يخدم مصلحة الجماعة المسلمة وتوسيع مجال مراقبة الدولة، وذلك على مدى قرون من الزمن. لوّن هذا الواقع المشهد الجغرافي الحضري حيث تداخل بشكل لافت في ذاكرة تأسيس المدن أو تعهّد تلك الذاكرة دوريا بإعادة التأسيس، وهو ما تشي به مدونات المناقب المخصّصة لسير أرباب الصلاح الذين علّمت أـضرحتهم أو مزاراتهم وزواياهم المجال الحضري. في حين أسعف التزوي في إعادة تنظيم حياة الفصائل القبلية بمختلف البوادي القريبة أو البعيدة عن تلك المسوّرات، مُسْهِمًا بشكل لافت في تمازج أعراقها وضع الفصائل البدوية تدريجيا حدا لتورّطها في ممارسة العنف بعد انقطاعها إلى ممارسة الأنشطة المستقرة.
اكتسب المشهد الثقافي اعتبارا لتلك المواصفات، مدلولا سميائيا ورمزيا توفّر على نظام للقيم وعلى هوية مخصوصة تداولها مختلف الفاعلون الذين عادت لهم مسؤولية تنشيطه. فقد شدّدت البحوث الميدانية التي اهتمت بالمجال التونسي، الاجتماعية من بينها أو الأنتروبولوجية، على توافق مختلف الأنشطة الاقتصادية التي تولاها أولئك الفاعلون من بين سكان المدن أو البوادي، سواء فيما يتصل بروزنامة توزيع الأوقات ونسق إنجاز الأشغال الزراعية اليومية منها والموسمية، مع جملة من العادات والممارسات تحيل على أزمنة سابقة لحضور الإسلام، مُجمعة على أولوية المشفوه قياسا للمكتوب وعلى الموقع الذي احتله المسكوت عنه ضمن حقلي التعيين الاجتماعي والسياسي، إلى حد تشكيله لجدار اجتماعي غير قابل للاختراق.
إن تعريف دوركهايم وموس وإلياد للمقدس باعتباره عنصرا محدّدا ضمن بنية الوعي البشري لا مرحلة عابرة من مراحله، يدفع إلى الاعتبار بالدور الذي لعبه في تنظيم المجال الجغرافي، والتدقيق في كيفية نشأة الضابط القانوني والأخلاقي والاجتماعي وبناء الهوية المشتركة التي تمثل ثمرة للتلاقح بين حساسيات دينية راكمها مجال مشترك.
تميزت تلك الهوية المجالية ضمن وطن التونسيين بمشهد ثقافي عَلَّمَت جميع مواضعه بما في ذلك الأكثر انعزالا من بينها، أضرحة الأولياء والجوامع والزوايا. كما أثبت تاريخ التعمير أهمية إنشاء مراكز للتبادل التجاري ضمن النُوى الحضارية الأصلية، حيث أسهمت عملية تأمين مسالك العبور والسيطرة على مختلف مظاهر الفوضى والعنف، في فرض العافية. كما سهّل تضافر مختلف تلك الآليات فضلا عن الدفع باتجاه جلب المنفعة والتقريب بين الأعراف القبلية والأحكام الشرعية ذات الاتصال، إمكانيات الالتقاء بين العناصر القبلية والملّية ذات الانتماءات المتباينة، حيث شكّل "الحرم" وهو موضع مقدس لا يطوله التدنيس، نموذجا للاستقرار واستتباب الأمن بامتياز. كما ساهم حضور العافية في انتشار المواسم، وهي تجمعات احتفالية روحية شكّلت مناسبات لزيارة أضرحة الأولياء وتحريك عجلة التبادل وإعادة تملّك المجال من خلال تعدّد المزارات، وتنتظم الخروج إليها دوريا في شكل ديني احتفالي. فانقسمت الخريطة الروحية للبلاد إلى برّ القيروان وسواحله ومجال مدينة تونس ومحارسها  وواحات البلاد وصحاريها.
نوّهت كرامات الأولياء في إطار هذه الجغرافيا الروحية بتدخلاتهم بغرض حماية  حرمة الزوايا والمتصرفين في اقتصادها وورثتهم وخدمهم والمحتمين بهم ومن جاورهم، والتغطية تبعا لذلك على ضعف انتشار المؤسسة الأمنية أو عدم قدرتها على تنفيذ الأحكام الشرعية، والاقتصاص من الخارجين عن القانون غير الآبهين بالضابط الاجتماعي والأخلاقي، أو المُتعدين على الحرمات، حتى وإن لم يطل مدلول ذلك القصاص غير التعبير عن الازدراء أو اللفظ الاجتماعي.
غير أن مختلف الايجابيات المتصلة بانتشار تلك المزارات لا ينفي حضور نوع من الالتباس اتصل في تصوّرنا بالتوجه نجو تسييج ظاهرة التصوّف من طرف ممثلي الإسلام السني المالكي، الذين أُقحمت تراجمهم أو سيرهم ضمن مناقب أهل الصلاح، وخاصة من بينهم أولئك الذين أظهروا بسالة في الذب عن مذهب الجماعة والسنة، الشيء الذي ترتب عليه تداخل مقصود بين ضيق أشكال التدين الرسمي والطبيعة المفتوحة لأشكال أو أساليب الترقي الروحي.
اتخذت حركة التحرّر الوطني ثم الدولة الوطنية من بعدها مسافة من الممارسات المتصلة بمجال التصوّف، معتبرة بتورّط جانب من مؤسساته مع الإدارة الاستعمارية. وحتى وإن لم تخل مواقفها تلك من توظيف لافت لجانب من تلك المزارات أو "المواسم" بغرض نشر خطابها وتوسيع قاعدة أنشطتها كي تشمل الفئات الشعبية بأرباض الحواضر وبالأرياف المتصلة بها، فإن قرار إلغاء نظام الزوايا الصادر في 17 جويلية 1957 قد أثبت تبنيها لتوجه يتعامل مع المقدس بوصفه مرحلة من مراحل الوعي البشري ولا يرى في التزوي إلا مظهرا مزريا بالدولة الجديدة، يُحيل على أزمنة التواكل والانحطاط. 
عولت ذاكرة الدولة-الوطن على الاستثمار في الإرث الإصلاحي وزخم حركة التحرّر الوطني ومقاومة الاستعمار سواء على مستوى الخطاب السياسي أو مناهج تعليم وتثقيف الناشئة، وهو ما ترتب عليه موضوعيا تبخيس مقصود للشأنين الديني والروحي. فحتى وإن لم تعمد الدولة إلى القضاء على مزارات الصلحاء بشكل بات وشامل، مفضّلة التعامل معها بكثير من النفعية عبر تحويل العديد منها إلى مقرات تابعة للحزب الحاكم أو إلى مراكز للرعاية الصحية، ونوادي للأطفال، ومراكز للنشاط الثقافي وأروقة للعروض التشكيلية، وغيرها من المؤسسات والمنظمات والجمعيات الدائرة في فلك السلطة أو الرافدة لمشروعها السياسي والمجتمعي، فإنها لم تنجح في بناء بديل تربوي وثقافي يُسعف الأفراد بصفتهم مواطنين في تشكيل ذائقة جديدة قادرة على فصل التقليد عن المحافظة والتحديث عن التغريب والتبعية، في حين بدا تعامل مؤسسات البحث الجامعي مع نفس تلك الظواهر معليا لتوجهات وضعية ومنحازا للتصوّرات الرسمية، مفضلا ركن المسألة الروحية جانبا والتركيز على الملفات السياسية والتركيبات الاجتماعية والشواغل الاقتصادية وخاصة التنموية من بينها، على أن يتم التعامل مع الملفين الديني والروحي من وجهة نظر انتقائية لم تُفلح وفي تقديرنا الخاص في إدراك المعنى الدقيق للظواهر المدروسة في كلياتها.  
أثّرت عناصرهذه المحصلة في حالة التجاذب القوي الذي تعيشه الساحة التونسية حاضرا. ونستشف ذلك من خلال صعوبة التوافق حول مقترح يوازن بين رفع القداسة عن الفعل السياسي بوصفه مجال للصراع بين تصوّرات فكرية وأيديولوجية متباينة، ورد الاعتبار للروحي من بوابة إعادة تشكيل الضابط الأخلاقي أو تقصّي الفضيلة، بما يساهم في اكتساب شروط المواطنة الفعلية وتجاوز التبئير المرضي حول الوصول إلى الحكم. هناك في ذاكرة المرحلة الانتقالية التي ترتبت على واقع ما بعد هزة الرابع عشر من جانفي إفراط في الطهرانية يحتمي  بمدلول فضفاض للفضيلة، تعكسه سياسيا المزايدة حول هوية المجتمع التونسي، ودينيا التظاهر بالشعيرة من خلال ربط أدائها بأشكال قيافة واجتماع صادمة مستنبتة في غير تربتها. مما يؤكد لكل ذي عين بصيرة الفارق بين التقليد والمحافظة، تلك التي اتخذت بَعْدُ شكلا يقايس المسافة الفاصلة بين التحرّر الحقيقي للأفراد وحداثتهم المعلنة.         


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire