dimanche 15 décembre 2013

عبارة طازجة خارجة لتوّها من تنور شهي الكلمات













   كتب ربيع جابر أولى روايات "سيد العتمة" وهو في العشرين من عمره. واستمد حكاية "دروز بلغراد حكاية حنا يعقوب" كما يحب ويجيد من التاريخ اللبناني، معيدا تركيب واقعة نفي 550 درزيا بعد المواجهات بين الدروز والمسيحيين من جبل لبنان إلى طرابلس الغرب ومنها إلى بلغراد سنة 1860. يسرد مؤلف الرواية بخط موازي قصة حنا بائع البيض المسيحي الذي وضعه حظه العاثر في المكان الخطأ وفي التوقيت الخطأ.

ينطلق ربيع جابر من هذه الواقعة التاريخية، جاعلا الوالي العثماني يعفو عن "سليمان" أحد الإخوة الخمسة المنتسبين لعائلة عز الدين غفار نزولا عند شفاعة والدهم السخيّة. حيث يعمد الجنود إلى إبدال الأخ الناجي من النفي بضحية سهلة مثّلها حنا يعقوب بائع البيض المسيحي الذي يأخذ مكان سليمان غفار عز الدين الدرزي ويتلبس باسمه على مدى مرحلة النفي التي استغرقت اثنتي عشرة سنة .
تقرّب ظروف النفي والحبس الصعبة ما لم تقدر أيام الحرية أن تنشئه من تحابب بين المسيحي والدرزي . فقد أولى الأخوة الخمسة حنا المسيحي عناية واهتماما حوّله على مر الرواية إلى أخيهم الخامس فعلا، يعود ذلك ربما إلى إحساسهم بالذنب تجاه هذا البريء الذي ربطوا بين كل مصيبة وقعت على رؤوسهم وإمعانهم في ظلمه واستغلاله اعتبارا لهامشية موقعه الاجتماعي.
مارس حنا مع المنفيين الأعمال الشاقة. شق الطرق وبنى الجدران والأسوار وقطف المحاصيل. تناقص عددهم خلال اثنتي عشر عاما بسبب قسوة السجن وتفشي الأمراض المعدية والبرد الشديد، والقصف العشوائي أثناء المعارك، والموت أثناء تطويفهم في البراري على يد قطّاع الطرق. يتحمّل حنا جميع تلك المآسي ليتمكن بالصدفة وبعد ما يزيد عن عشر سنوات من الأسر والمنفى من الفرار واللحاق بقافلة حج تأخذه لدمشق ومنها إلى "فشخة فالجبل" ليعود أخيرا وفي عتمة المساء إلى بيروت مرتعدا حيث يلحظ في بربارة ابنته الوحيدة وجه زوجته: "هذه هيلانة ، أنا في البيت... حضن زوجته وابنته وبكى. شهق وملأ رئتيه بالهواء." 
الوطن والطائفية :
"طلبوا خمرا وشربوا ضاحكين وهم يقضمون أجنحة الطيور المشوية والمتبلة ..."أنا مسلم أكثر منكم لا أذوق الخمر إلا وقت المناولة "... سكتوا ناظرين إلى أعماقه، سبروا باطنه واستغربوا كيف كرههم إلى هذه الدرجة في هذا الوقت القصير"... "نحن مسيحيون أكثر منك وندير الخد الأيسر..." 
هل هذه الرواية موجهة للبنانيين يغرض حضهم على نبذ الطائفية؟ ربما، لكأنا نستشعر بذلك ونحن نقلب الصفحات مشدودين في ذهول لما يحصل لحنا والدروز من مآسي. يسرّب ربيع جابر قيم إنسانية سامقة دون عناء أو كلفة زائدة، ومن دون حاجة لصعود منابر، أو سقوط في المبالغة والمثالية. القتلة من الدروز يتعاطفون مع أهل الكتاب من المسيحيين. يحملون حنا إذا ما أعيته الرحلة وهو المنغرس في فطرة مسيحيته، ينصت بخشوع إلى قرآن المسلمين ويذرف دمعا طهورا.. يصلي مع قافلة الحجّاج ويستمع لخطب الخطباء وحكايات وعّاظهم. يعلو الوطن في الغربة فوق كل طائفة، يمنح الحنين نفسا يطيل العمر اثنتي عشرة سنة بعذابتها وآلامها التي لا توصف.
"حنا يعقوب ابتهج مصغيا إلى النبرة الدافئة . كأنه لمح بيروت! سمع الحكي العربي وشعر بالصقيع يخرج من سلسلة ظهره ... نبحت كلاب حلب على الترك لكنها لم تنبح في وجهه  ... سمع اللغة الأليفة تسبح صوبه كي يسمعها ... ضحك معهم وتعجب لرؤية صاحبه الساكت الحاج سليمان ضاحك الوجه أيضا... من دون أن يسأله، أيقن أن هذه دياره."
يسرد ربيع جابر تفاصيل حكايته بلغة بسيطة عميقة بعيدة عن الحشو والتمحّك اللفظي أو الإبهام التصويري. يختزل الجملة في أبسط صورها اسمية كانت أو فعلية. كل كلمة قدت حتى تؤدي دورها بإتقان وبراعة ملهمة. يكفي أن تنطلق في القراءة حتى يشدك أسلوب مقتصد اللفظ عميق الدلالة. جمل قصيرة تنسج تفاصيل الحكاية. روايته تتألف من 98 وحدة سردية ، تحمل كل منها عنوان قد يتكرر بترقيم مختلف. ليس هذا الضرب من الكتابة فحسب ما يجعل الرواية أشبه بفيلم سينمائي مشوّق، فربيع جابر يستخدم مهارة الإخراج السينمائي في تركيز الضوء على جوانب معينة في مشاهده، تاركا للقارئ فرصة إكمال الصورة التي يرغب في اسحضارها. لكأننا وضمن المشهد الواحد نرى ونلمس ونشم كثيرا من الروائح، رائحة ابنته "بربارة" رقبتها، ملابسها، روائح الطعام الخارجة من النوافذ، البيض المسلوق، المرفأ والبحر، رائحة السجن والرطوبة والدم والموت. هواء الحرية ورائحة الأشجار والأعشاب النديّة، رائحة القمح الأخضر وزهور الرمان. رائحة اللحم المشوي والخبز والجبن والتفاح والقرفة والتوابل. تقلية السبانخ وحبوب البن المحمصة التي لم تطحن بعد. 
يملك ربيع جابر قدرة استثنائية على شدّ مشاعر القارئ وتشييد قصور خياله، حارصا حال استفاء الوحدة السردية على الاحتفاظ بالعبارة / المشهد حيا نابضا في الأذهان. "دخل أنفها أثر من رائحة حنا -تبغ وعرق وملح وحجارة- لكن رائحتها هي والطفلة ظلت طاغية على الفراش: الحليب والصابون وماء زهر الليمون وما يشبه الشحم الأبيض يذوب على نار خفيفة". "أرقدوه في القبر على جنبه بَاسِمَ المحيّ ظاهر العظم. أداروا وجهه إلى مكة. طمروه بلا حزن. بدوا في نور الصباح خالدين".
"طارت عصافير الدوري مزقزقة فوق الشرفة وعبرت المياه. تلاشت في سماء سملين ""ركض حتى رأى خرافا تطل من وراء تلة. كانت ساكتة، سمينة،  ذهبية الصوف . لمحته وارتفع ثغاؤها. "أوقف الخوف الرجل الهارب من الحبس ... عيون الأرانب الصفراء تأملت حنا وهو يبكي بلا صوت ."
أنهيت للتوّ قراءة رواية ربيع جابر "دروز بلغراد حكاية حنا يعقوب". لا أملك بصدق ما أقول، فظيع هذا الروائي... ندرك بعد الاستغراق في تفاصيل حكايته القاتمة والشاعرية في آن، أن فن الحكي نبع زلال خالص، عبارة طازجة خارجة لتوّها من تنور شهي الكلمات تجاوزا لسقم الثرثرة. ونخجل من صنيعنا لما ندّعي أن لما ننشيه آصرة بموفور الإبداع وخالصه.  

لنقرأ الآن في صمت :
  
"...أيقظني الهدير وارتجاج الأرض. أين أنا؟ في حبس الهرسك أم في قلعة بلغراد؟ القيود الحديد منعتني من النهوض لكنني أمد رقبتي ومن دون وعي أوشك أن أصيح كما في السنين البعيدة في بلدي البعيد: «بيض بيض، بيض مسلوق». أسمع ركضاً وصراخاً ثم خبطات مرعبة فوقي – على وجه الأرض – كأن حيوانات أسطورية عملاقة تتراكض وتقع وتموت. خوار فظيع يملأ الفضاء وأشم رائحة اللحم الذي يحترق. الرعب يخترق عقلي كحد السيف. عرق بارد كالثلج يبلّ جسمي. أتجمد كما يحدث في الكوابيس – كما في اللحظة التي تسبق فرقعة البواريد وسقوط قاسم مع إخوته على الرمل الرطب – عارفاً أنني قد لا أخرج من هنا. لماذا أموت في هذا المكان من دون أن أرى زوجتي وابنتي وبيتي مرة أخرى؟ خرجت في الصبح أبيع بيضاً والشمس لم تطلع من وراء جبل صنين بعد. قبل عشر سنوات، قبل 11 سنة، قبل 12 سنة. التراب يتساقط على رأسي. مكتوب لي في اللوح المحفوظ أنني أطمر حياً حبيساً بلا جرم في هذه الأرض الغريبة؟ أين العدل؟ كيف يُصنع بي هذا؟ وهيلانة؟ والصغيرة كم كبرت وأنا لا أراها ولا أسمع صوتها؟ النار والدخان. الضجة وراء الحيطان. الزعيق فوقي وتحتي. لم أكن متأكداً من قبل والآن أعرف: هناك محابيس تحتي أيضاً، طبقة أخرى تحت.
عقلي مقسوم نصفين. نصف مذعور يرى في الظلام الأيدي والأقدام تحاول عبثاً أن تتخلص من القيود، ونصف ساكن لا يهتم ويشرد إلى البعيد: إذا كانت هذه ساعتي الأخيرة فأنا أطلب أن أرى أمامي الوجوه القديمة التي أحبها لا هذه الوجوه. رموني هنا قبل سبعة أشهر وطوال هذه الفترة لم أصادق أحداً من المحابيس. قيّدوني إلى وتد يفتته الصدأ في الزاوية الفارغة حيث تنحدر الأرض ويتجمع الماء عند تساقط المطر. «لن تعطش»، قال الحارس الأحمر الشعر وهو يبتسم ويخرج بينما المفاتيح الكثيرة تطقطق على جنبه. «لكنك ستجوع»، قال صوت في الظلام، وامتلأ المكان ضحكاً يشبه الزعيق. سمعت صرير الأسنان وصليل السلاسل وكما يحدث في كل مرة أُنقل فيها فقدت السيطرة على بطني ووسخت نفسي. رفعت وجهي إلى فوق ولم أهتم بالآخرين لأن الظلمة كاملة. ظننت أنهم يتكلمون لغة الحراس في هذه الأقاليم – لغة تعلمت نتفاً منها في القلعة البيضاء. سألوني عن اسمي ومن أين أجيء ولماذا حبسوني. لم أجب لئلا يعرفوا من صوتي المخنوق أنني أبكي. في وقت الأكل انشق الباب ووضعوا أكلاً في القدر جنب الباب. بقيت بلا أكل لأنني مربوط في أبعد زاوية. عظامي ثقيلة في كيس جلدي وأحاول أن أرفعها. لكنني بلا قوة. أسمع ارتطام الأجسام والسلاسل والرؤوس – بعضها مقيد إلى بعض – ثم الصوت الحاد الذي يصرخ وينادي الحراس. الدخان يتسرب إلى هنا. أسعل وكذلك غيري وحين يرتطم أحدهم بي أستوعب أن النجاة ممكنة. أمد ذراعي وأقبض على ساق أو ذراع. طبيعة الصوت في القبو تتبدل وأنتبه أن الباب فتح لكن الظلام لم يتغير. لعله الليل في الخارج. تطرقني عظمة على وجهي وأقع إلى خلف وأصدم رأسي. الدم يملأ فمي وحلقي كما في مرفأ بيروت قبل 12 سنة. لا أدري من أين تأتي القدرة إلى بدني الجائع المحطم لكنني أمد أطرافي مرة أخرى ومثل حيوان لا يفهم أتشبث بالرجل المذعور الذي يحاول أن يهرب وأحفر أصابعي فيه. يضربني مرة أخرى وهذه المرة أستعمل أسناني. أغرزها في اللحم والعظم ولا أقبل أن أُترك كي أختنق. المفاتيح تطرطق، رائحتها قوية، وعلى ثياب الرجل أشم رائحة الخارج. يشدني أحدهم وأسقط. أعرف أنني ميت. حتى أسناني وقعت من لثتي المريضة. رأسي تراخى، مال عن رقبتي. ماء آسن ولج أنفي وعينيّ. في ثياب الرجل الذي فتح الباب رائحة خبز وسكر وتفاح. أبلع دمي وأرفع وجهي. رائحة التفاح تمنحني هذا. بلا أمل أفتح فمي وأقول: «أنا حنا يعقوب"

"هذه حكاية حنا يعقوب وزوجته هيلانة قسطنطين يعقوب وابنتهما بربارة، وفيها ما وقع للعائلة البيروتية الصغيرة من مصائب بسبب الحظ العاثر ووجود الرجل المتوسط القامة الحنطي الوجه الأسود الشعر والعينين بائع البيض في المكان الخطأ في الساعة الخطأ.
كانت هيلانة تخشى عليه من خروجه اليومي المبكر في تلك الفترة بسبب كثرة العساكر والغرباء في البلد. وقعت حرب أهلية في الجبل الذي يظلّل بيروت… عدوى القتل انتقلت على الألسنة وفي الهواء إلى مدينة دمشق… الناجون بجلودهم نزحوا إلى بيروت. انحدروا بين الصخور والأشواك كقطعان ماشية أفلتت من ذئاب وأحاطوا بأسوار المدينة القديمة ثم تدفقوا إلى قلبها. كانوا أكثر من سكان البلد وهيلانة خافت حين رأت أولاداً لم ترَ شبهاً لهم من قبل، طوالاً كالقصب، شبه عراة بعظام ناتئة من الجلد، يقفزون على الحائط وراء البيت ويدنون من قن الدجاج. أطلت برأسها فهربوا. قالت لزوجها عند رجوعه في المساء وهو سألها من أين بالضبط قفزوا. خرج في الصباح بلا سلة البيض وجلب حجارة ورفع الحائط أعلى. ساعدته في التعمير بينما بربارة تدب عند العتبة وتلعب مع الفراشات الملونة. كانت روائح الربيع تهب من البساتين مع النسائم لكنها في هذه السنة لم تكن طيبة. خرجت هيلانة إلى السوق كي تشتري ملحاً فوجدت الأزقة الضيقة المسقوفة بين كنيسة سيدة النورية وحارة اليهود مسدودة بعائلات منكوبة نائمة على الطريق. خافت وهي تحاول أن تجد موضعاً لقدمها
رجع حنا في المساء مبلولاً بالعرق وبينما يغتسل وهي تسكب له ماء أخبرها أن البوارج تسد المرفأ، وصلت من اسطنبول وباريس ولا أحد يعرف ماذا ستفعل. أخبرته عن نساء دمشقيات اللهجة رأتهن يتدافعن على قفة الخبز أمام الجامع العمري. قال «الربّ يرحم». استحى أن يخبرها كم سلة بيض باع في ذلك اليوم. من قبل كان يخبرها كم بيضة باع. لكن منذ عجّت البلد بالناس صار يخرج الى مزارع المصيطبة والرأس والأشرفية كي يشتري من هناك بيضاً. الدجاجات في القن وراء البيت لم تعد كافية. كانت سلة واحدة تكفي للنهار ومرات يرجع وهي نصف ملآنة.
لم يقبل من هيلانة وهو يقوم عنها وهي تتعلق برقبته وتطلب منه البقاء في الفراش في ذلك الفجر الأخير الأسود. قالت له رأيت في المنام أن السلة وقعت والبيضات تكسرت. ضحك كما يفعل في كل مرة تقول فيها «البيضات» بدلاً من «البيض» وقال لها لا تقلقي والبيض سلقته وإذا انكسر صار تقشيره أسهل. على عكسها كان منشرحاً ضاحك الوجه في ذلك الصباح الأخير وعندما رفع بظفر خنصره الطويل خصلة شعر عن وجهها سرى التيار الطيب منه إليها وطمر وسواسها. هكذا غادر البيت مع سلتي بيض وهو لا يعرف أنه لن يرجع."
"بائع البيض حنا يعقوب مرّ أمام جامع السراي سريع الخطوة وهو يرى بطرف العين القباقيب الخشب والمداسات الجلد السختيان متراصفة في المدخل. كانت السرج مضاءة في جوف الجامع ولحظة قيام المصلين من سجودهم تطاولت الظلال بغتة وبدا أنها تسابقه في الدرب المنحدرة إلى البحر. التقى باعة كعك وسحلب أسفل سوق القطن وبادلهم تحية الفجر ونصحهم أن يعجلوا. عادة يلتقيهم أمام جامع السراي. غذوا الخطى في الطلعة ورائحة السحلب الساخنة غمرت وجهه. بينما يعبر إمام جامع الدباغة رأى بائع القهوة منصور مراد يقفز إلى خلف ويرمي من يده فنجاناً أحرق أصابعه. ألقى عليه التحية وسمع صوتاً لا يعرفه يرد تحيته من داخل احد البيوت النائمة. قبل أن تكتمل البسمة على وجهه شتمه صوت آخر من وراء نافذة غارقة في الظلام. ردّ الشتيمة همساً وأسرع يقطع البقعة المتقعرة حيث الرائحة لا تطاق. من جهة المسلخ هجم خوار شديد وما يشبه الصراخ. في العتمة الخفيفة شعر بحركة إبل وحمير وراء صف الجميزات. انتبه لئلا يزلق على بلاط الزقاق وراء الخان البحري الجديد وقبل أن يخرج من تحت الأعقاد والقبب – هذا الزقاق يشبه قبواً مفتوحاً من الجهتين – سمع أنيناً أنثوياً حاراً وراء باب مشقق الخشب. تلكأ لحظة متسع العينين ثم خرج إلى ضوء المشاعل الأليف في مدخل الأرصفة. بات باب المرفأ مركزه الصباحي المفضل في الفترة الأخيرة. قبل أن يبلغ نقطته شعر بالحركة القوية وراء صف العنابر وسمع الأصوات. من دون أن يرى ساحة التحميل المحجوبة عنه بعنبر البصل والبطيخ أدرك أنه سيبيع ما في السلتين قبل حلول الظهيرة. رأى كومة من أكياس الطحين تتعالى منتفخة وثقيلة مثل جبل وأمامها ينتصب عسكري. كان الحارس الليلي مستقيماً كرمح، مستعداً تماماً، وبائع البيض استغرب ذلك لأن الوقت مبكر والضباط عموماً لم يخرجوا بعد. توقف عندما انتبه إلى بقعة دم أسود تتوسط الطريق المكسوة بغبار الطحين. في اللحظة ذاتها سمع صوتاً وراء ظهره. استدار فرأى بحارة فرنجة في ثياب غريبة. كلموه بالإشارات وحين أخرجوا قروشاً يعرفها بدأ يبيع. كان يقشر البيضة برمشة عين وتبقى القشرة كاملة بين أصابعه مثل بيضة فارغة. أدهشهم ذلك. كانوا سبعة بحارة واشتروا وأكلوا أكثر من نصف سلة وكلما نظروا إلى يده ضاحكين وجدوا بيضة جديدة مقشورة للتو تنتظر. هو أيضاً ضحك بينما أسنانهم تتلون بصفار البيض. في هذه الأثناء انتشر الضوء وبانت البواخر منتشرة على صفحة البحر. أحدهم ربت على كتفه مسروراً قبل أن يذهبوا. في لحظة انطفاء المشاعل في باب المرفأ رفع حنا يعقوب وجهه وأطلق صيحته الأولى: «بيض بيض، بيض مسلوق». شعر أنه صباح مبارك. مصّ أصابعه كأنه يمصّ عظمات عصفور ثم حرك لسانه منظفاً سقف حلقه وجوانب فمه من أثر البيض الدسم. بينما يمسح يده على قميصه ارتجف البحر وارتطمت المراكب الصغيرة بالسلسول الحجر. حمل السلتين من جديد وتقدم مطلقاً صيحته. وضع مسافة بينه وبين العسكري الجامد كفزاعة الغربان وعبر. حين أطلّ على ساحة التحميل جمّده المنظر المخيف في مكانه: رجال لا يقدر أن يحصيهم يركعون على الأرض في صف طويل وأيديهم مربوطة وراء ظهورهم. عرف أنهم دروز من ثيابهم ومن الطاقيات القطن البيضاء على الرؤوس. أحدهم كان يميل ثم يستقيم وينقل ركبتيه على الأرض كي يتوازن، وحين سقط إلى أمام وطرق بجبهته الرصيف مال معه آخرون واهتزوا وأوشكوا على السقوط مثله: كان مربوطاً إليهم.
بائع البيض أراد أن يستدير ويهرب إلى البيت. دبّ الرعب في أوصاله برؤية الجبليين هكذا، مربوطين بحبل كالحيوانات وراكعين على حافة البحر. حاول أن يحرك ساقيه لكن الذعر شلّ أطرافه. التفتت صوبه رؤوس ثم رأى جنوداً يقتربون منه. ورأى ضابطاً يتقي بكفٍ مرفوعة أشعة الشمس يبتسم له ويسأله عن اسمه.

"جئت في وقتك يا ابني يا حنا. لا تخف، هؤلاء محابيس حاربوا في الجبل وصدر الفرمان بنفيهم إلى بلاد الصرب وراء البحر. هذه السفينة هنا، انظر إلى الباخرة الكبيرة أم ثلاثة دواخين، هذه وصلت الليلة من إزمير كي تأخذهم. لكننا الآن ننتظر سعادة القنصل الفرنساوي كي يقوم من النوم ويأتي ويحصي الرؤوس. إذا كان العدد ناقصاً يظن أننا نسهل للمحابيس الهرب ويقدم اعتراضاً أمام الباشا. مهم جداً عدد الرؤوس. هل تعرف عكا؟ عظيم. عكا بلد حلو. من هنا إلى مرفأ عكا رحلة يومين أو أقل في هذه الباخرة. أتيت في أحسن وقت يا ابني يا حنا: كم ثمن هذا البيض الباقي معك؟ سأعطيك ضعف ثمنه وسأزيد على ذلك ثلاث ليرات ذهب تأخذها مني عندما ترجع من عكا. الباخرة تتوقف في عكا كي تتزود بالفحم الحجري. أنت تنزل منها هناك وترجع وهؤلاء يكملون الرحلة إلى بلغراد. حين يأتي القنصل الفرنساوي بعد قليل لا تفتح فمك وافعل مثل الباقين كي يظنك واحداً منهم. هذا سهل جداً وخذْ، البسْ هذه على رأسك. لا تتكلم إلا إذا سألك القنصل عن اسمك. احفظْ الاسم: سليمان غفار عز الدين. انظرْ هناك: هؤلاء الأربعة الذين ينظرون إلى هنا إخوتك. تصرفْ كأنهم إخوتك. تركع جنبهم الآن وتتوكل على ربّك وتزور عكا وترجع إلينا ونعطيك ثلاث عثمليات وأجرة الطريق. فهمت؟ احفظْ اسمك: سليمان غفار عز الدين."
"لم يشعر حنا يعقوب بالشمس التي تشوي رقبته بينما الضابط يتكلم. ظل ساكتاً مصعوقاً أمام الوجه الطويل المنقط بنمش شبه طفولي. تركهم يأخذون السلتين منه. أعطته يد نحيلة طاقية درزية كي يلبسها على رأسه فأخذها بحركة لاإرادية. سأله الصوت العجيب هل حفظ الاسم فلفظ الحروف بصوت مرتجف كأنه الآن يتعلم الحكي: «سليمان غفار عز الدين». دفعه الجنود صوب المحابيس وفي تلك اللحظة فقط خرج من الصدمة. استدار استدارة عنيفة وارتمى على قدمي الضابط: «أبوس رجلك يا باشا لا تفعل بي هذا، زوجتي صغيرة عمرها 17 سنة لا أحد عندها غيري وابنتي طفلة ما زالت ترضع، أبوس رجلك خذْ غيري أنا لا أقدر أن أذهب."
"سمع كلمة تركية ولم يفهم كيف صار في لحظة مطروحاً على ظهره مثبتاً إلى الأرض كأنهم دقوا أطرافه بالمسامير على صليب. ألم فظيع أحرق فمه وحتى بعد رؤية السكين لم يستوعب. كان الضابط يضربه بقبضة الخنجر لا بشفرته. ثم كلّمه بالعربية وأمره أن يفتح فمه ويمد لسانه. مال بوجهه وقال بسرعة: «قبلت قبلت» وأقفل فمه لئلا يقطعوا لسانه. نهض الضابط وهو يبتسم: «عفارم عفارم، وحين ترجع من عكا لك ثلاث ليرات ذهب."
"قيّدوه وشدّوا الحبل حتى خرج الدم من معصميه. في رمشة عين ابتلّت الطاقية على رأسه بالعرق. كان يتأرجح في ركوعه. الألم مزّق مفاصله. حين لاحظ قرفاً ظاهراً على وجوه غامضة قريبة أدرك أن البلل الحارق المباغت بين فخذيه ليس عرقاً. داخ وسبح في ضباب ومرّ عليه زمن أخرس غريب ثم تركز الحريق في كليتيه وفكر أنهم جرحوه وهو لم ينتبه. بعد ذلك رأى رجلاً شديد الشقرة أزرق العينين ينحني عليه ويقول شيئاً. في البدء لم يفهم. ثم، دفعة واحدة، بينما الرجل الأجنبي يبتعد، رجع إليه الإدراك واستعاد صفاء ذهنه. لن تسنح له فرصة ثانية: وحده هذا الرجل قد ينقذه، القنصل الفرنساوي. رفع حنا وجهه ومدّ رقبته وصرخ مثل غريق: أنا حنا يعقوب، مسيحي من بيروت، بيتي على حائط كنيسة مار الياس الكاثوليك. كان القنصل بعيداً الآن لكنه سمع الصرخة والتفت ونظر من فوق كتفه وسأل الترجمان ماذا يقول السجين؟ أجابه الترجمان بفرنسية ممتازة وبلا تردد: يقول أنا قتلت حنا يعقوب، مسيحي من بيروت، بيته على حائط كنيسة مار الياس الكاثوليك. بدا الغضب على القنصل واحتقن وجهه. اقترب ضابط الترحيل وقال: إذا شاء سعادتك نقطع لسانه. ردّ القنصل قالباً شفتيه: لا، لسنا برابرة، لكن اجعلوا المجرم يخرس. خطف الضابط بارودة من احد الجنود وطوح بها في الهواء مثل فأس وهشّم قبضتها الخشب على فك السجين. كان يمسك البارودة من قسطلها الحديد وقبل أن يردها هزّها كي يرى إلى أي حد تخلعت ثم مسح يده على ظهر الجندي."






ربيع جابر أديب وكاتب وصحفي لبناني ولد في بيروت سنة 1972. له شهادة في الفيزياء من الجامعة الأمريكية في بيروت. محرر الملحق الفكري والأدبي الأسبوعي “آفاق” في جريدة “الحياة” الصادرة في لندن. من مؤلفاته “بيروت39، الذي صدر بمناسبة بيروت العاصمة العالمية للكتاب سنة 2009. ويتضمن إبداعات لأدباء وشعراء تحت سن التاسعة والثلاثين في العالم العربي.
في سنة 2010 رشح جابر لنيل الجائزة العالمية للرواية العربية على كتابه “أمريكا” الذي اقتبس منه فيلم بذات الاسم. نال ربيع جابر الجائزة العالمية للرواية العربية لدورة عام 2012 عن روايته “دروز بلغراد”، وتمّ الإعلان عن ذلك في أبو ظبي يوم 27 مارس 2012.



2 commentaires:

  1. رواية فاتنة فعلا جديرة بالقراءة

    RépondreSupprimer
  2. .في انتظار أن تنشر رواية أبهجني كثيرا أن أكون واحدا من بين من قرأوا بمتعة المستزيد نسخة ما قبل طبعها

    RépondreSupprimer