هل
يستقيم ومن منظور التدقيق في المدلول الغائم للكرامة أن نقبل بتعريفها من زاوية
أنها قيمة أخلاقية رُسخت في أذهان المحسوبين على الشرائح الاجتماعية الفقيرة أو المعدومة،
تعزية لهم عن واقع الاحتياج الذي تردوا فيه"، حتى وإن لم يتم ذلك إلا على سبيل
التهكّم الأسود أو التنفيس عن الغم والكمد؟
لا يمكن طبعا الانسياق وراء مثل هذه التصوّرات المغالية،
حتى وإن تعيّن التدقيق في مدلول تلك الكرامة الذي لا يمكن تعقّل وجدودها خارج
المجالات القادرة على توفير الظروف الموضوعية التي تسمح بادعاء تكريسها على أرض
الواقع قولا وفعلا.
فهناك من وجهة نظر القانون غموض في سحب مدلول دقيق على
هذا المصطلح بوسعه التأليف بين الدلالات اللغوية والمقاصد الدينية والفلسفية
والقانونية المتداخلة ضمنه. كما بينت السياقات الحادثة (على غرار نموذج الثورة
التونسية) أهمية الربط بين الكرامة والحرية، حتى وإن تعين أن لا يلهينا الحرص على
حضور مثل ذلك التكامل عن وجود نوازع هيمنة متخفّية وراء تدخل الدولة تحت غطاء
توفير الشروط الدنيا الضامنة لاتخاذ الأفراد لقراراتهم بكامل الحرية. كما ينمّ تمثل
شرائح واسعة من التونسيين لمدلول الكرامة عن لبس حقيقي كشفت عنه بشكل جلي السجالات
الحادة التي خاضوها طوال الثلاث سنوات المنقضية والتي أفرغت لدى جميعهم كل رغبة في رسم أفق يضمن تعايشهم بشكل صحي وسليم. على أن نتائج الاستحقاقات
الانتخابية لسنة 2011 قد أفضت من ناحيتها إلى فتح أعينهم على حقيقة تورّطهم في
إعادة إنتاج نفس الممارسات التي عاشوه خلال مرحلة الاستبداد، وغياب الحد المطلوب
من الحريات، حيث لا نستبعد أن تكون لذات تلك التصرفات نفس النتائج السلبية حال
توجه هؤلاء قريبا لاختيار حكامهم بالنسبة للخمس سنوات المقبلة.
غموض التعريف القانوني لمدلول الكرامة:
يمثل مبدأ كرامة الذات البشرية إطارا قانونيا يحول تفعيله
دون التعامل مع الأشخاص بوصفهم أشياء أو أدوات لا تتوفر على قيمة في ذاتها. بل
يقتضى حضور مثل تلك القيمة المعيارية والأخلاقية الرفيعة النظر إليهم باعتبارهم
جديرين بكامل الاحترام، بصرف النظر عن سنهم أو جنسهم أو سلامتهم الصحية والعقلية، أو
ظروفهم الاجتماعية أو ديانتهم أو أصولهم العرقية، وذلك توافقا مع ما تضمنته ديباجة
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر سنة 1948 من إشارة صريحة إلى أن "كل
البشر يتوفّرون في ذاتهم على ما يحفظ كرامتهم"، وتنصيص الفصل الأول من نفس
الإعلان على أن جميع الناس "يولدون أحرارا ومتساوون في الحقوق".
نميّز إجماليا بين مدلولين أساسيين للكرامة البشرية،
يركز الأول على اعتبارها أثرة متقاسمة بالتساوي بين جميع الذوات البشرية، في حين
يلحّ المدلول الثاني على أن توفر عنصر الذاتية في اتخاذ الشخص لقراره، هو ما يحدّد
على الحقيقة حضور كرامة الأفراد من عدمها.
غالبا ما يدفع التقابل الجلي بين هذين المدلولين حال
مباشرتنا للواقع، إلى الإقرار بحضور جملة من الممارسات تحدّ من الحريات الشخصية،
أو تناضل على عكس ذلك من أجل توسيعها، مما يؤشر على تعمّد اللجوء إلى نوع من الغموض
في تعريف مدلول الكرامة قانونيا، وتعارض ذلك أيضا مع التصوّرات التي صاغها العديد من
الفلاسفة حولها.
يندرج مدلول احترام الكرامة
البشرية في القانون المقارن ضمن الفصل الأول من الدستور الألماني، في حين يضمن
القانون البلجيكي وفقا لما نص عليه دستور البلاد وضمن فصله 23 الحق في العيش وفق
مقتضيات الكرامة البشرية. أما بالنسبة للقانون الفرنسي فقد أعلى المجلس الدستوري من
مكانة الكرامة معتبرا أنها " مبدأ يتوفر على قيمة دستورية".
ومهما يكن من أمر القوانين
والدساتير الناظمة للحياة الجماعية في مختلف البلدان النامية من بينها أو
المتقدمة، فقد شدّد العديد من العارفين بفقه حقوق الإنسان على الطبيعة الشكلية
الفضفاضة والملتبسة لهذا المصطلح مع افتقار تعريفه القانوني للحد المطلوب من الدقة،
بحيث يكون من السهل توظيفه بأشكال متباينة وجد متناقضة، الشيء الذي يحول عمليّا دون
صياغة نظرية متكاملة للعدالة بالاستناد على مدلول الكرامة. فقد سبق وأن تم اللجوء إلى
هذا المدلول الغامض قصد المنافحة مثلا بخصوص حق المصاب بمرض فقدان الذاكرة مثلا في
الإعراض عن أخذ الدواء و"تقبل مصيره المحتوم بكرامة"، أو الاستناد على
ذات المدلول لنقض مثل ذلك التصوّر والعمل على وإرغام المصاب على متابعة العلاج،
لأن البقاء على قيد الحياة يتوفر في حد ذاته على مقصد الكرامة.
وهكذا يتبين لنا أن مدلول الكرامة
باعتبارها خاصية محدّدة للحياة البشرية، توافقا مع ما نص عليه الإعلان العالمي
لحقوق الإنسان الصادر سنة 1948 بخصوص "تساوي الجميع في حق الحياة
بكرامة"، يتعارض مع تمثل ذلك المدلول تحديدا باعتباره سندا لحق كل ذات بشرية
في صون ذاتيتها كلما تعلّق الأمر بتحديد قرارها المتوافق مع مصلحتها الخاصة أو
الفردية، من جميع أشكال الوصاية المعلنة من بينها أو الخفيّة.
في
ضرورة معاضدة الكرامة لممارسة التونسيين لحرياتهم:
يتضمن
الفصل 23 من الدستور التونسي الجديد الذي تمت المصادقة عليه في 26 من شهر جانفي
2014 التزام الدولة بصون كرامة جميع مواطنيها والدفاع عن حرمتهم الجسديّة. إلا أن
تمتع الأفراد بحريتهم وفقا لما حدده القانون لا يمكن أن يلهينا واقعيا عن تعدّد الحالات
الاجتماعية التي يصعب إزائها إدعاء القدرة على التصرّف في الاختيارات بشكل حرّ أو مستقل.
وهو ما يتساوق مع ما شدّد عليه كارل ماركس بخصوص ضرورة الربط بين ما تمنحه
الدساتير أو القوانين من حريات سياسية وبين الظروف المادية لمن يتمتعون بتلك
الحريات. مما يدفع إلى التبصّر بقيمة الكرامة كشعار أساسي في الحراك الاجتماعي
الذي أحدثته ثورة "الحرية والكرامة" تونسيا.
فإذ
لم يكن أمام الفرد حتى يضمن لقمة عيشه، غير القبول بالإذلال والتعنيف، فإن الإصرار
على اتسام تصرفاته بقدر معقول من الحرية أو الكرامة أمر غير ذي مدلول. يستقيم
تماما تسمية هذه الحالة التي يتحوّل ضمنها حضور الكرامة إلى شرط توجيهي في ممارسة
الحرية بالوضعيات (كـ - ح).
وحتى
وإن تقلص منسوب الحرية ضمن مثل هذه الحالات قياسا لما سواها، فأن ذلك لا ينبغي أن يدفعنا
إلى القول بحضور تناظر بينها وبين الوضعيات التي تتدخل فيها السُلط العمومية لتأمين
حد معقول من كرامة الفرد (كـ)، لأن القول بتماثل الوضعيتين يتعارض مع قدرة الأشخاص
المحسوبين على الحالات من صنف الأول على التعبير عن حرياتهم والذود عن حقهم في
ممارستها.
وهكذا
فإن كل تدخل لتلك السلطة لا ينبغي أن يتعامل مع الأشخاص الذين يعيشون وضعيات
اجتماعية صعبة من زاوية قصورهم القانوني، بل يتعين عليها أن تضمن لجميع الأشخاص حدا
أدنى من الدخل غالبا ما نسمه بـ"عتبة الكرامة"، كي يتمكنوا من اتخاذ
قراراتهم بمعزل عن كل وصاية، تجاوزا لجميع الشعارات السياسية الفضفاضة ونوايا
أصحابها المعلنة أو المبيّتة أيضا.
تختلف
تلك العتبة المشار إليها تساوقا مع الظروف المادية لكل مجتمع على حدة، غير أن ذلك
الاختلاف لا يلغي الإقرار بأن الإجابة المثلى عن غياب شرط الكرامة لا يمكن أن تصيب
هدفها خارج قدرة الدولة على توفير حد أدنى للدخل، وتأمين الخدمات الموجهة لدعم
الأفراد الذين يعيشون الخصاصة نفسيّا، باعتبار أن ممارسة الحرية تقتضي التوّفر على
حد أدنى من التوازن النفسي أو السيكولوجي.
يفيد
استعراضنا لمختلف هذه الوضعيات كثيرا في فهم المنافحة الشديدة التي تلاقيها عملية "أهلنة"
القيم الكونية في العديد من المجالات النامية، وهو ما يمكن تفهّمه اعتبارا لطغيان الهيمنة
على السياسات المعتمدة من قبل الدول المتقدّمة. فما دامت الدول الغربية لا تري
حرجا في أن تشرّع لنفسها تواصل التعامل مع من دونها من زاوية الهيمنة أو الوصاية،
فإن المحسوبين على تلك المجالات لا يمكنهم التخلي عن النضال من أجل وضع حد لتناقض
الغرب بل و"كلبيته" السافرة في تبني القيم الكونية أو التخلي عنها وفقا
لما تقتضيه مصالحه دون سواها.
فهل
بوسعنا النجاح مستقبلا في "أهلنة" الكوني وإكسابه طبعا تونسيا في ما يعنينا؟ ثم هل يستقيم أن نقرّ يوم ما بازدواج انتسابنا للثقافة
الإسلامية وللقيم الكونية؟ تشكّل الإجابة عن مختلف هذه التساؤلات وغيرها إطارا
ناظما للتفكير حل استحضار حدث الثورة بوصفه حدثا فارقا، وخاصة عندما نصرّ على رفض
كل اعتقاد في قدرة التوجهات المتشدّدة أو المنغلقة على تكييف علاقتنا بالإرث
الثقافي الإسلامي. فجميعنا مسلمون بالاعتقاد أو بالانتساب الثقافي، إلا أن تونسيتنا ليست عربية صرفة، بل تتجاذبها انتماءات متعددة إفريقية شبه صحراوية، ومتوسطية وشرقية وغربية أيضا.
كما
إننا عندما نعيد التفكير بخصوص مسألة تنوع الانتماءات الثقافية المتصلة بمدلول "التَوْنَسَةِ"
مثلا، فإنما نحن نعيد بذلك تركيب هويتنا من بوابة التنوّع وإثراء مشتركنا الثقافي الذي
يعطي لجذورنا اللوبية أهمية بالغة باعتبار اتصالها بلغة تخاطبنا وحضورها ضمن أشكال
عيشنا اليومي وتراثنا اللامادي أيضا.
التباس مدلول الكرامة
في تونس خلال مرحلة ما بعد الثورة:
ما
هو المدلول العميق للحداثة في ظل الحرج الذي يتسم به الانتصار لمبادئها ضمن
المشهدين السياسي والثقافي التونسي حاضرا، وتحوّله بَعْدُ إلى وسيلة سهلة للتهجم
على جميع الداعين إلى حسم مسألة انخراط البلاد في مسار الحداثة منذ انطلاقها مع التجربة
الإصلاحية لأواخر القرن التاسع عشر، إي منذ قرن ونصف على الأقل؟
إن
شعارات الثورة المتّصلة بالحرية والكرامة لا يمكن فصلها عن ممارسة المواطنة
والاحتكام إلى التعاقد والالتزام بالقوانين، وجميعها توجهات تنخرط ضمن صيرورة
الحداثة. غير أن المستغرب هو أن للدفاع عن مكاسب الدولة المدنيّة قد أصبح يجابه
بمزيد من التحفظ والارتكاس، بل ويؤًوَّلُ من قبل شرائح واسعة تنتسب إلى المجتمع
التونسي باتجاه ربطه بنزوع إلى الانطواء والعدوانية تجاه المدافعين على مدنية
الدولة!
فنحن
نلاحظ حضور مزايدات بخصوص الخطاب الحداثي مع عدم التحفّظ عن وصم دعاته
بـ"الزنادقة" وتكفيرهم عنتا، بل والتحريض على تهميشهم والتشفي منهم، مما
يثبت الاختلاف الصارخ داخل المجتمع التونسي في ما يتعلق بتأويل ما قد يصح وسمه
حاضرا بـ"عودة الديني أو التبئير حول الطقسية الروحية".
فالسمة
الغالبة على خطاب التيارات السياسية الدينية هي الانتقائية وانحسار المعرفة بمصادر
إصلاح التفكير الديني نفسها. فحال إشادة الإسلاميين التونسيين مثلا بدور محمد
الطاهر بن عاشور في تجديد الفكر الديني، يعتّم هؤلاء على التوجهات المتفتحة لابنه
الفاضل، معتبرين أحفاد ذلك العلم أبناء غير شرعيين لذات العائلة، شوّهوا إرثها بل وتورطوا
في مسخه بالرمّة، موضحين في هذا الصدد أن التجديد الحقيقي للفكر الديني يتعيّن أن
ينهل - بزعمهم طبعا - من توجهات مفكري السلف، وإقرار مبدأ "التدافع
الاجتماعي" كآلية في تجاوز الاختلافات الفكرية، مع العمل على "أسلمة
الدولة من الأسفل". وهو ما يتعارض بالكامل مع ضرورة اتخاذ الدولة موقع
الحياد، ويكشف أيضا عن النوايا الحقيقية للتيار المحافظ الـمُقحم للدولة ضمن
التجاذب السياسي، غير المكترث على الحقيقة بفصل الدين عن السياسة.
على
أنه يتعين التأكيد في الصف المقابل على شدة تأثير النموذج الفكري الفرنسي على التصوّرات
التحديثية التونسية إلى حدّ يستقيم معه التساؤل بخصوص مدى صحة حضور نزوع من قبل
العائلات الفكرية والسياسية الموسومة بالتقدمية تونسيا، إلى حالة من الاحتضان بل
والاتكال أحيانا ساهمت في سجنها ضمن تصوّرات مغرقة في الأحادية جعلت من عملية "أهلنة"
القيم الكونية مغامرة عسيرة الولادة غير مأمونة العواقب. فتاريخ
التوجهات التقدمية كونيا يشي بتنوّع منابعها ذات الروافد الأنجلوساكسونية
والإيطالية وحتى اليابانية في مراحل متأخرة، قياسا لكونية قيم الثورة الفرنسية.
على
أن نتائج انتخابات المجلس التأسيسي التي أُجريت في 23 من شهر
أكتوبر 2011 قد بينت من ناحيتها أن العامل الحاسم في تلك الاستحقاقات
السياسية قد تمثّل في حضور قدرة على الانضباط ورصّ الصفوف لدى التيارات المحافظة
قياسا لتشرذم التيارات المنتسبة إلى العائلة التقدمية الموسّعة. فالفارق الذي
أحدثه تيار "العريضة الشعبية" على سبيل المثال على حساب مناضلي القطب
الحداثي المدافعين على المطالب المتّصلة بالحق في الشغل والصحة والتعليم والسكن
ضمن ما سمي بـــــ " Dignity act " يبدو
جد جليا في الأحياء الفقيرة لتونس العاصمة وبالجهات الداخلية أساسا، وفقا لما
أسفرت عليه نتائج تلك الانتخابات. فقد
وظّفت التيارات المنتصرة في تلك الاستحقاقات آليات بسيطة شددت في المقام الأول على
إمعان المنتسبين للعائلة التقدمية والمحسوبين على النخب الحضرية المتعلِّمة في
التعالي وضرب قيم البداوة وتهميش الفئات الفقيرة والحطّ من قيمتها من خلال الإسراف
في تشغيل آليات ما وسم بـ"الحُقْرَة"، والنجاح تباعا لذلك في دغدغة
العواطف المحتدمة وشحذ أساليب التفكير التي لا تزال تعوّل على نظام الثنائيات
(متديّن / ملحد) (مسلم / كافر ). هذا بالإضافة إلى الطبيعة المفتوحة لتلك الآليات
التي أصبحت تشتغل حاضرا وفقا لمنطق خارجي يتعامل بكثير من الدُونية مع ذاته وحقيقة
أوضاعه المحليّة.
وفي المحصلة يمكن أن نعتبر أن إشكالية الكرامة ضمن سياق ما بعد الثورة تونسيا تحيل في البعض من دلالاتها على مدى قدرة المجتمع على
تجاوز نوازع الوصاية ورسم طريق سالكة تُسعف في القبول بمنطق التعايش والاعتراف
بحقيقة تنوّعنا الثقافي تجاوزا لجميع أشكال الانطواء ودواعي الإقصاء، وهي وضعية
ليس لنا أي حظ في تخطيها ما دامت معرفتنا
بالتاريخ في وجهيه التعليمي والتخصّصي حبيسة خطاب سياسي مسطح وثقافة مسرفة في
التمركز حول ذاتها، أضحى من أوكد مهام العارفين بالشأن التاريخي حاضرا الخروج
نهائيا من ضيقها تجاوزا لقصور نظرنا، وتشوّفا إلى كتابة جديدة تتسم بتعدّديتها
ونقديتها وانفتاحها، توسيعا لفضولنا وقطعا مع تركيزنا المشطّ على الحفر في مربع
الوطن الضيق الذي ينحسر أسهامه في توسيع أفق غربتّين القريبة أو
الأليفة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire