samedi 25 avril 2015

رحلة لمياء عبيدي في الفكر العاَلِم التونسي










          لعل ما شدّ انتباهنا حقا ضمن مختلف العروض المعرفية التي استلّتها لمياء عبيدي من بحث أطروحتها قصد عرضها على واسع القراء، هو توفّقها إلى درجة كبيرة في توضيح التناظر الذي حصل بين المسارات الفردية لعائلة حملت طيلة ما يناهز الثلاثة قرون صيت المعرفة الفقهية بوجُهَيْهَا التقليدي والمُحدث ونقصد "آل بن عاشور"، وما أنتجه المشهدين المعرفي والثقافي التونسيين منذ القرن السابع عشر، وذلك بطريقة سمحت بمتابعة الكيفية التي تطوّرت من خلالها النماذج الثقافية، والمخاض العسير لنسول الفقيه من رحم الولي ثم انسلاخ العالم من رحم الفقيه، وصولا إلى بروز المثقف الذي أورث موقعه للباحث الجامعي الملتزم مدنيا وسياسيا.
ماذا نقصد تحديدا بمصطلح عائلة عالمة أو عائلة مخزنية أو عائلة وجيهة ضمن واقع المجتمعات التقليدية؟ هل يفيد ذلك ضرورة أن جميع أفرادها علماء أو "مخازنية" أو وجهاء؟ ثم ما العدد الضروري للأفراد أو للأجيال حتى يستقيم تصنيف تلك العائلة ضمن هذه الخانة أو تلك؟ وإذا ما شكّلت الروابط الدموية عنصرا محدّدا في التواصل بين الأفراد، فأي نوع من العلاقات يمكن أن تجمع بين أفراد عائلة محسوبة على وجاهة القلم؟ هل هي رابطة النسب أو العلم أو السياسية أم غيرها؟
هذا ما حاولت لمياء العبيدي تتبعه بالرجوع إلى المصادر الأرشيفية ومدونات التراجم والأخبار وبالتعويل على نماذج بحث تنهل من المكتسبات المنهجية للتاريخ الثقافي وتاريخ التمثّلات. استغرقت عملية تتبع مسار عائلة "آل بن عاشور" داخل المدونة المصدرية أمدا زمنيا طويلا غطى الفترة الممتدة من أواسط القرن السابع عشر إلى سبعينات القرن العشرين، استغلته الباحثة لتفكيك مفهوم "العائلة العالمة"، متسائلة إلى أي حد بوسع ذلك المفهوم أن يحيلنا على تاريخ التمثلات؟ فتبين لها نَـأْيُهُ التام عن مجال المقاربة الأنتروبولوجية العلائقية، والتصاقه بمسألة تمثّل الخطاب، أي مساهمة التداخل بين المعرفة والخطاب في تشكيل الذاكرة العائلية.
تضعنا مسألة الاهتمام بالذاكرة العائلية للأفراد المحسوبين على آل بن عاشور إزاء تلازم مسار الأفراد مع صورة علماء الدين أو حرّاس أحكام الشريعة الإسلامية، وذلك إلى درجة لا يخرج معها تاريخ هذه العائلة وغيرها من العائلات المشابهة عن مثل تلك التصوّرات الاجتماعية. مثّــــل هذا الفهم التبسيطي مناسبة للتعامل مع المسار العائلي لآل بن عاشور وفق إستراتيجية تبتعد عن التصنيفات النظرية واتباع ذلك المسار كما تشكّل حقيقة، لا كما أرادت الذاكرين العائلية والجمعية تشكيله، لذلك تعقب البحث تباعا تجارب الولاية، فالمعرفة العالمة، فالالتزام السياسي والمدني.
وضّح لنا القسم الثاني من هذا البحث طبيعة تجربة الولاية لدى عدد من الشخصيات المنسوبة لعائلة "ابن عاشور" بوصف تلك التجربة إطارا لمرجعيات ذهنية أو ثقافية صبغت تاريخ العائلة منذ استقرارها بمدينة تونس خلال القرن السابع عشر وإلى حدود القرن العشرين، فقد عاين مسارها بروز شخصية "العالم الفقيه" الذي نجح في الخروج عن نموذج الولاية والصلاح قصد الانخراط في الجماعة العالمة بمدلولها الرسمي.
شكل البحث في الآليات الداخلية التي ساهمت في انحسار تجربة الصلاح وتراجع رصيدها الرمزي أو بريقها الاجتماعي محاولة لفهم الأرضيّة التي مهّدت الظروف لولادة "العالم الفقيه". فبعد أن رصدت المدونات الخاصة بالقرن السابع عشر سِيَّرَ الأفراد في انتسابهم لأهل الصلاح والولاية، قامت نظيرتها الخاصة بالقرن التاسع عشر بتقديم الوجه الآخر لا للعائلة فحسب، بل للمشهد الثقافي التونسي ككل، رابطة المسارات العائلية بسياق يتناسب مع الأطر الفكرية والذهنية للقرنين التاسع عشر والعشرين. غير أن اقتصار هذه التجربة على قرن من الزمن لا يعني بالضرورة عدم العثور على البعض من مظاهرها حال التكشف على مسار حياة العديد من الشخصيات المعلّمة لأسطورة العائلة، وذلك اعتبارا لاصطباغ إنتاجهم الفكري أو المعرفي منذ تجربة "محمد الطاهر بن عاشور الأول" بتوجهات صوفية غير خافية.
أما بالنسبة للقسمين الأخيرين من هذا البحث فقد تم إفرادهما لرصد مسار حياة كل من"محمد الطاهر بن عاشور الثاني" وابنه"محمد الفاضل بن عاشور" كنموذجين عبّرا بشكل لافت عمّا بلغه مسار العائلة خلال تلك المرحلة من وجاهة اجتماعية وصيت معرفي، هو نتاج ما توارثته الأجيال. ولا تعنى عملية التوارث الحفاظ بالضرورة على نفس الأفكار والتمثلات، وذلك اعتبارا بثنائية القطيعة والتواصل التي كيّفت مختلف المسارات المستجلبة. فقد نجح المسار العائلي رغم اختلاف التمثلات في إنتاج نماذج متباينة برهنت على كفاءة عالية في التعبير عن التوجهات الثقافية التي طبعت السياق التاريخي الذي عاشته، فأصبح عندها بالإمكان تعقّب التحولات التاريخية للمشهد الثقافي الذي عرفته البلاد التونسية منذ القرن السابع عشر وإلى حدود القرن العشرين.
فقد تم المرور من التمثلات الثقافية التي تحيل على صورة الولي، إلى نظيراتها المتصلة بصورة الفقيه، فالجامعي المتخصص والمثقف الملتزم، بحيث تساوقت النماذج التي تم إنتاجها مع تمثلات المجتمع حول "الإسلام" بطريقة سهّلت على الأفراد الانصهار في التوجهات الثقافية التي طبعت سياق كل مرحلة تاريخية ومدّ المجموعة بتصورات متجدّدة وذلك إلى حدود سبعينات القرن الماضي.
ومع نهاية الجيل الذي مثله "محمد الفاضل بن عاشور" أنتجت نفس تلك العائلة نماذج جديدة اتسمت بسيطرة التكوين الحقوقي والنضال السياسي والمدني والنسوي، بحيث لم يعد تملّي المسألة الدينية أو التفكير حول أحكام الإسلام يشكل نقطة ارتكاز محورية في رسم المسار المعرفي للأجيال المعاصرة.
لا يزيد عدد الشخصيات المقصودة بالتعيين الاجتماعي عن ثمانية مسارات فارقة على امتداد أربعة قرون، لذلك من المشروع التساؤل عن الدوافع الموضوعية التي تدعو إلى مواصلة ربط الوجاهة العلمية والدينية بالانتساب العائلي، ومحاولة فك لغز اللجوء إلى هذا التصوّر الذي تدل جميع القرائن بأنه قد لفّق بشكل متأخر عن مرحلة التأسيس والأصول.
تجسّمت هذه العلاقة في لحظتين هامتين:  أولاهما لحظة تأليف مدونة مصدرية هامة أو ما نعتته الباحثة بلحظة التملك appropriation ، في حين اتصلت اللحظة الثانية بما سمته بلحظة إعادة التملك  réappropriation تلك التي تحقّقت حال انخراط المنجز المعرفي ضمن مشروع مجتمعي شغل مرحلة ما بعد تصفية الاستعمار واستعادة البلاد لسيادتها.
حاولت لمياء العبيدي الرجوع لمختلف ما صنف من قبل "محمد الطاهر بن عاشور الثاني" و"محمد الفاضل بن عاشور"، مدقّقة في مختلف عمليات النشر والطباعة وتجميع المقالات المتفرقة ضمن آثار مُفردة، فتبين لها أن هذا المجهود قد تم ضمن نسق ثقافي التزم بالمبادئ التي قامت عليها دولة الاستقلال. فقد اقتضى السياق التاريخي ربط الشواغل المعرفية بـالمسألة الوطنية من خلال الانتصار للمشروع البورقيبي الذي شكّل الحاضنة الحقيقية للنمط المجتمعي التونسي الجديد، حتى وإن لم يترتب على ذلك بالضرورة فك للارتباط ببقية النماذج دينية كانت أم سياسية، وهو ما أشّر عن حدة المنافسة التي وضعت تلك النماذج الثقافية والمجتمعية في مواجهة بعضها البعض منذ مراحل تاريخية بعيدة سبقت حصول البلاد على استقلالها واستعادتها لسيادتها.
اقترن التمثّل الذي صِيغ حول "عائلة ابن عاشور" بهذا المعطى، وذلك من خلال ما عرفه هذا المسار وخاصة ضمن سيرتي "محمد الطاهر بن عاشور الثاني" وابنه "محمد الفاضل بن عاشور" من ارتباط بثلاث رهانات أساسية كشفت بشكل ملحوظ عن توجهاتهما الفكرية والثقافية. فقد اتصل الرهان الأول بالمؤسسة التي احتضنت هذه المسارات، ونقصد جامع الزيتونة طبعا، وذلك بطريقة تلازمت فيها الأبعاد الفردية مع الأبعاد العقدية والتعليمية. فقد شكّل الفضاء الزيتوني مجالا معرفيا تحركت داخله فئات متنوعة من النُخب المتعلمة طيلة النصف الأول من القرن العشرين.
وتجسد الرهان الثاني في كيفية التعامل مع النصوص المؤسسة للأُطر الثقافية والذهنية الإسلامية، ونقصد تحديدا التصدّر بكفاءة وألمعية لتأويل آي القرآن والاهتمام بسيرة نبي الإسلام وسننه، والدفع لإعادة امتلاك هذا المتقاسم الجمعي من خلال اقتراح قراءة مبتكرة للفكر الديني تدعو إلى مزيد الاعتبار بالمقاصد وتجاوز جميع نوازع التشدّد تواؤما مع مقتضيات التحديث.
تمثل الرهان الثالث - وهو الأكثر تعقيدا- في توضيح الدور الذي لعبته هذه النماذج ضمن مشروع "الدولة الوطنية"، وهو مشروع تلازم بطريقة لافتة للانتباه مع الفكر التحديثي البورقيبي، وذلك إلى درجة أصبح من الصعب معها الفصل بين ما أحدثه ذلك الفكر وبين ما يمكن اعتباره تطوّرا طبيعيا لنماذج فقدت أدورها ولم تعد تتلاءم مع الأطر الثقافية والفكرية والذهنية للمجتمع التونسي بعد تصفية الاستعمار، مع الاعتبار في كل ذلك بحزمة الإصلاحات التي عاينتها البلاد التونسية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والإقرار بأن ما حققته تجربة "خير الدين التونسي" قد شكّل واقعيا حجر الأساس في المدّ الإصلاحي الذي تحوّل إلى هاجس قار ضمن جميع السياسات الثقافية التي عاينتها البلاد فيما بعد.                   
شكّلت مختلف هذه الرهانات المباحث التي علّمت في تصوّرنا بحث لمياء العبيدي، حيث أُدرج المبحثين الأول والثاني ضمن دينامكية "التملّك"، في حين ارتبط الرهان الأخير بعملية "إعادة التملّك". ويعتبر الجمع بين الكتابة والتملّك دليلا على أن فعل الكتابة لا يعدو أن يكون مدّ للجسور مع الموروث المعرفي التقليدي، وإبداء نجابة حقيقية في قتله تفحّصا وتنقيبا بهدف الانتقال من تمثّل العلم كمنظومة عقدية إلى التعامل معه كمنظومة معرفيّة، والمرور تبعا لذلك من فهم الإسلام بوصفه مدوّنة أحكام شرعية إلى اعتباره منظومة تشريعية قادرة على التواؤم مع القوانين الوضعية. إن ما حصل حقيقة، لا يقتصر على الانتقال من سَمَتِ العالم الفقيه إلى هيئة المثقف وشواغله فالمسألة أكثر تعقيدا وتشعّبا، فما إن يتعلق الأمر بالحفر في سجل التمثلات حتى تصبح مجالات التعيين الاجتماعي والثقافي غير ثابتة وجد متحركة.
وفي جملة تبدو العروض التي صاغتها لمياء العبيدي طريفة، منتجة للمعنى بل ومجدّدة له بالخصوص. فقد تموقع منجزها المعرفي ضمن "المنعرج المنهجي في التاريخ الثقافي"، مبيّنا حسن توظيفها لنماذج منهجية قليلة الورود ضمن الإنتاج التاريخي المكتوب باللغة العربية، على غرار نقل المعرفة transmission وفهم التطورات الاجتماعية والثقافية من خلال معاينة التحولات التي طالت الأجيال المتعاقبة generations مما يَنِمّ عن مواكبة للتحولات الفارقة التي تعاينها المعارف التاريخية حاضرا ومحاولة جادة للانخراط ضمنها أيضا، لذلك لا يعترينا أدنى شكّ لا في قيمة الإسهام الذي يقدمه هذا البحث المعرفي ولا في النضج الذي اكتسبته من تصدرت بكثير من التوفيق لانجازه. 







Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire