vendredi 2 octobre 2015

لماذا لم يعد بوسع علوم الإنسان والمجتمع أن تلعب دورها التقليدي بوصفها سلطة مضادة؟











  
إذا ما قُدر للباحثين في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية التنازل عن دورهم المتمثل في تحليل المعطيات وترك ذلك لمحركات البحث الرقمي على غرار "غوغل Google" وشبكات الاتصال الاجتماعية وفي مقدمتها "فيس بوكFace book "، فإن هؤلاء ليسوا بمأمن من التعرّض وفي المدى المنظور إلى الانفصال بالكامل عن تخصصاتهم. ذاك ما أعرب عنه "دومينيك بوليي Dominique Boullier" أستاذ الاجتماعيات، والباحث في المجال الرقمي ضمن مخبر التواصل Médialab بمعهد العلوم السياسية بباريس ومسؤول البرنامج الدولي فورس كاست Forccast منذ سنة 2012،  وهو برنامج يهدف إلى تهيئة الظروف المساعدة على صياغة مشاريع تربوية رقمية مجدِّدَة، وذلك ضمن الحوار الذي أجرته معه صحيفة لوموند Le Monde الفرنسية ونشر بتاريخ الأحد 6 سبتمبر 2015.  

إذا ما قدّر لشبكة التواصل الاجتماعي "فيس بوك" أن تتحوّل إلى بلد ما، فإن أعضاء تلك الشبكة المقدَّر عددهم بـمليار وأربع مائة ألف سيشكلون بلد يفوق سكانه عدد سكان الصين، فالشركة المؤتمنة على تصريف شؤون تلك الشبكة قد أعربت بعد، على أن أهدافها المستقبليّة لا تتمثل في "ربط جميع المجالات الواقعة على الكرة الأرضية فحسب، بل في الدفع قُدما باتجاه مزيد إدراك مدلول التحولات السريعة التي يعيشها العالم حاضرا. " فهل يتعيّن على الباحث في الإنسانيات والحال على ما أوضحنا أن يتوجّه رأسا إلى "فيس بوك" إذا ما رام إتمام أبحاثه الاجتماعيّة؟

تقوم القواعد الرقمية الضخمة لتجميع المعطيات على غرار محرك البحث "غوغل" والشبكة الاجتماعية "فايس بوك" بانتداب أعداد كبيرة من ذوي المؤهلات المتنوعة (الأنظمة الإعلامية، الاقتصاد، العلوم السياسية، وحتى الأنثروبولوجية)، وذلك بغرض إتمام تحليل تلك المعطيات والاستفادة منها. ويشهد الإقبال على هذه الخطّط الوظيفية، بل والحلم بالالتحاق بتلك المؤسسات العالية الصيت انتشارا مطردا بين المنتسبين إلى الشرائح العمريّة الشبابية. إلا أن ما يقوم به أولئك على الحقيقة لا يتمثل في تحليل الواقع المجتمعي أو التبصّر بوجهات نظر المنخرطين أو المستعملين لتلك المحركات والشبكات، بل في تعقّب البصمات الرقمية التي خلّفوها مثل تدويناتهم، وتغريداتهم، وتعليقاتهم، وتفضيلاتهم...، متابعين الروابط التي تصل تلك البصمات تحديدا ببعضها البعض، فليس هناك من حاجة إلى صياغة فرضيات نظريّة كي نستطيع تشغيل مثل تلك الآلة الحسابية الضخمة. وتعمد تلك الشركات إلى بيع ما تم تصنيفه من معطيات، تساعد الاستنتاجات الناتجة عنها في توجيه الرأي العام.

هل حصل من وجهة نظركم إذن، تجاوزا فعليّا تمكنت من تحقيقه تقنيات القيس الكمي للمعطيات الرقمية على حساب مختلف أدوات التحليل التقليدية المتصلة بالعلوم الاجتماعية ؟

نحن نعيش حاضرا ضمن مجتمعات متقدّمة تخضع لمستويات انتظام وتردّد عالي لنفس المتتاليات. وهو وضع تسهل ملاحظته من خلال الوزن الذي اتخذه القطاع المالي ضمن التحاليل الاقتصادية مثلا، وكذلك في جميع أشكال التنظيم المقترحة. فالمالية قد تحولت بَعْدُ إلى ما يشبه الآلية الضخمة للاستنتاج أو للاستباق على المدى القصير جدا. هذا النسق الذي فرض نفسه بعد على جميع الجوانب المتصلة بأخذ القرار، لم يكن بوسعه أن يهيمن على تلك الشاكلة لولا السند التي ما فتئ يقدمه له الكمّ الهائل من المعطيات المحلّلة رقميا، سامحا لجميع الفاعلين بالحصلول على المعلومة المبتغاة وبسرعة غير مسبوقة.
إزاء هذا الترفيع في نسق الحصول على المعلومة، يبدو الباحثون في العلوم الاجتماعية وكأنهم معزولين في برجهم العاجي، لكأنهم قد أعرضوا عن البحث عن المعطيات الجديدة والمحيّنة بخصوص تحوّلات المجتمعات التي يدرسونها، معتبرين ما تعيشه مجتمعاتهم من تحولات فارقة وسريعة مجرد ظواهر سطحية ليس لها كبير تأثير على الواقع المعاش، وهو ما ينهض حجة على أن مختلف العلوم الاجتماعية تعيش اليوم حالة من الانقطاع التام عن واقعها، مما لا يؤهّلها لأن تلعب دورها المعهود بوصفها سلطة مضادة، لذلك فضلت العديد من الشرائح الشابة الابتعاد على هذه التخصّصات والتوجّه نحو معارف جديدة بدت لها أفضل مواكبة وتغصينا.
إن ما تعيشه البحوث في العلوم الاجتماعية من تراجع وانحسار سبق وأن عاينته التخصصات الألسنية وكذلك الدراسات الجغرافية. فقد تمت الاستعاضة عن مجهود هؤلاء المعرفي في فهرسة المعطيات اللغوية والصوتية ودراستها وتحليل المعطيات ومنذ بضع سنوات، بما ينجزه العارفون بأنظمة التحكّم الرقمية الأوتوماتكية. فالبيّن حاضرا أن مهمّة تحليل المعطيات المتصلة بالمجتمع، تلك التي أضحت توفّرها وسائل الاتصال الحديثة، قد تولى انجازها بشكل واسع الأخصائيون في علوم الإحصاء والإعلامية والرياضيات.

كيف لكم أن نفسروا مثل هذا الانقلاب في مجالات المعرفة؟

إن ما ترتّب عن توسّع قدرتنا على تخزين مثل ذلك الكمّ الهائل من المعطيات وتحليله، هو ما يفرض علينا اليوم التفكير في تجديد مناهج عملنا، وذلك من خلال ربطها بثلاثة شروط أساسية هي: كيفية التحكّم في حجم المعطيات وتنوّعها وإبداء مزيد من المرونة في التعامل مع سرعة تغيّرها. لذلك فإن التحدّي الحقيقي الذي تعيشه العلوم الاجتماعية حاضرا هو استنباط مناهج عمل جديدة تسمح للمحسوبين عليها بمتابعة هطول المعطيات بذلك النسق الجنوني، مع توفر القدر المطلوب من الناجعة في إتمام تحليل البيانات في الإبان. وهو أمر لم يكن أحد يتصوّر حصوله بتلك الكيفية، الشيء الذي أحدث انقلابا تاما في المقاييس الزمنية وأشكال تصرّف جديدة في المعارف الاجتماعية تتوافق مع حجم المعطيات المتوفرة.
فقد اتصلت مختلف الأبحاث الاجتماعية المموّلة من قبل الدولة منذ موفى القرن التاسع عشر بصياغة تصوّرات تتعلق بما يمكن أن يحصل على المدى الطويل. ومكّنت تلك البحوث من دراسة التطوّرات التي طالت الهياكل الاجتماعية كما النماذج الثقافية الكبرى، على غرار الديانات والتقاليد أو غيرها من الظواهر الاجتماعية مثل الانتحار. وساهمت المعدّات الإحصائية الجديدة واكتشاف آلة الحساب التي تحمل اسم المهندس الأمريكي هولريث Hollerith (1860-1929) الميكانوغرافية، تلك التي نسلت عنها بداية من سنة 1924 شركة بيع أنظمة حواسيب I.B.M أو International Business Machines Corporation  في الحصول على رؤية كمية مرقّمة حول واقع المجتمع وتحولاته، بينما شكّلت نتائج بحوثها مرجعا معرفيا يعتدّ به علميّا باعتبار دقة المعطيات الإحصائية التي استندت عليها.
تطورات مختلف هذه المناهج الجديدة لتساهم في صياغة فكر إميل دوركهايم Emile Durkheim  (1858 - 1917) وماكس فيبر Max Weber (1864 - 1920)، وهما مؤسسا علم الاجتماع الحديث بدون منازع. وواصلت العلوم الاجتماعية مقاربة الآماد الزمنية الطويلة بالتعويل على المعدّات الرقمية لتحليل المعطيات الإحصائية، غير أن نوعا جديدا من الدراسات الإحصائية قد أخذ في البروز أمريكيا بداية من سنة 1936 على يد عالم الإحصاء جورج غالوب George Gallup (1901 - 1984) الذي تمكن من فتح أفق دراسة تحولات الرأي العام على المدى المتوسط، أي خلال فترة زمنية لا تتجاوز أربع أو خمس سنوات. وهي المدة التي تتوافق مع المواعيد الدورية للانتخابات ومع العمر الافتراضي لعدد كبير من البضائع المعروضة في الأسواق أيضا. وتمثل الهدف من ذلك في مزيد فهم أشكال الاقتراع وجميع الجوانب المتصلة بالقدرة الشرائية وبأذواق وممارسات المستهلكين أيضا. وقامت الشركات الكبرى والمؤسسات الإعلامية والتواصلية بتمويل تلك الدراسات، التي وظّفت مزيدا من الأدوات التكنولوجية الحديثة على غرار الهواتف التي تم استعمالها في إجراء عمليات سبر الآراء، في حين ساهمت المحطات الإذاعية من جانبها في توسيع انتشار الحملات الإشهارية أو الانتخابية.

ما هي نتائج التسريع في نسق الزمن على دراسة مختلف الظواهر الاجتماعية؟

يمكن أن نعتبر إجماليا أن حصول مثل تلك الثورة الرقمية في تحليل المعطيات قد ساهم قطعا في قراءة الواقع المجتمعي وفقا ثلاثة أنساق أو آماد هي: الطويل والمتوسط والقصير. وتمكّن القواعد الإعلامية المموّلة بالتعويل على حملات الإشهار من تحليل المعطيات المتّصلة بالأزمنة القصيرة، فجميع العلامات أو "الماركات" التجارية الكبرى باتت تتنافس وبشراسة لا حدّ لها للحصول على القوائم الاجتماعية social listening والإنصات في الإبان لكي تتعرّف على طبيعة رغبات المستهلك ومعالجة ما خلّفه من بصمات بمختلف القواعد الإعلامية والشبكات الاجتماعية، عاملة قصارى جهدها على التصرّف في صورتها وتغييرها في الإبّان واللحظة. وهكذا فإنه لم يعد هناك من موجب لإتمام المقاربات المتّصلة بالآماد الطويلة، فبمجرد ظهور مؤشر عن حضور علاقة ترابط بين أمرين يتعيّن أخذ الأمر بجدّية واستباق ردّ فعل المستهلكين أو الناخبين، والاستعانة بقواعد المعلومات التي توفّرها محركات البحث وشبكات التواصل الاجتماعية. وتحمل مثل هذه الاستراتيجيات الواسعة الانتشار حاضرا تصوّراتها المخصوصة حول المجتمع، وهي تصورات يبدي  الباحثون في علوم الاجتماع تجاهها كثيرا من الريبة والشكّ.

كيف تنظرون أنتم شخصيا لنتائج هذا النوع من القيس الإحصائي ؟

يتعين أن نبدي مزيدا من الحذر، فجميع هذه المعطيات يتم إنتاجها من قبل قواعد إعلامية عملاقة ومن أجل مصلحة تلك القواعد أو الشبكات أيضا، لذلك تبدو في جانب كبير منها وكأن سندها لا يتجاوز ذاتها. إلا أن النجاح الذي عرفته علامة التفضيل أو هشتاق hashtag على غرار "أنا شارلي Jesuischarlie" مثلا بعد العملية الارهابية التي استهدفت الصحيفة الهزلية الحاملة لنفس الاسم، قد شكل صدى لشيء مهمّا عاينه الواقع الاجتماعي، فلا يمكن أن نُنكر أن سرعة اقتسام المعلومة على الشبكات الاجتماعية أو ما ينعت بالطنين اللافت للانتباه أو "بوز buzz" لا تشكّل معطى يستوجب التمعّن والدراسة. وتتمثل المشكلة هنا في محاذير التضخيم، بحيث تتمكن ظاهرة لافتة للانتباه وبسرعة مذهلة إلى احتكار جميع لأضواء، مدّعية  القدرة على التعبير عن حصول أمر فارق يمكن أن يكون له تأثير بالغ على الرأي العام، والحال أن مثل هذا المجال المتصل بما يوسم بحالات "التردد العالي haute fréquence" لا يتعين أن يتحوّل إلى سند أساسي في فهم ما نحن إزائه من تحولات اجتماعية متسارعة. فمن الخطير أن تهيمن على تفكيرنا وبعد حصول موجة من التغريدات مثلا، الرغبة في البحث عن طبيعة العلاقات التي تتيحها الحسابات الإحصائية الآلية، بالاستناد على القوة الضاربة للشبكات الاجتماعية ومحركات البحث الإعلامية. فمثل هذا التصرّف يشبه إلى حدّ كبير قيام الدولة وبعد رحيل دوركهايم بانتداب عدد كبير من الباحثين في علم الاجتماع كيّ ينتجوا لها إحصاءات تتصل بإشكالية مهمة مثل التشغيل من دون دعوتهم إلى التعويل على مختلف النظريات والمساجلات المنهجيّة والمعرفيّة المتصلة بنفس تلك الاشكالية.

ما الذي تدعونا إليه تحديدا؟ وما المشروع الذي تفكرون في إحداثه بشكل عملي؟

قليل هم الباحثين في العلوم الاجتماعية ممن يبدون وعيّا كبيرا بأن غيرهم من العاملين في حقول معرفيّة محايثة قد انخرطوا بعد في التعويل في تحاليلهم للمجتمع على رصد نتائج العلاقات المتداخلة corrélations، مركزين وضمن نفس الإطار دائما على طلبات مؤسسات الدولة حول ما يعتقدون اتصاله بشكل وثيق بالواقع الاجتماعي. فأنا آسف صدقا لتمسكهم بتركيز جهودهم البحثيّة بشكل يكاد يكون مطلقا على النتائج المترتبة على فعل الآماد الزمنية الطويلة في الواقع المجتمعي، والحال أنه يتعين عليهم إبداء عناية أكبر بدراسة الترددات السريعة "vibrations" أي دراسة الظواهر المتصلة بالتحوّلات السريعة وبمختلف تكنولوجيات التحليل التي تسمح بالوقوف على دلالاتها. فأنا من بين أولئك الذين ينادون بتطوير الجيل الثالث من المعارف الاجتماعية، التي تعوّل في أدائها على إعادة تأهيل مختلف وسائل المعالجة الجديدة، كي تتواءم مع شروط المعرفة العالمة ومقتضياتها، لأنه يجدر بنا حاضرا استنباط مصطلحات ومعدّات بحث وحدود جديدة للتثبت من المستوى العلمي لدراسة الظواهر المختبرة بعد التوصّل إلى جمع وترتيب مختلف البصمات التي يعسر الحصول عليها باستعمال أشكال البحث القديمة أو التقليدية. فقد سبق لـعالم الاجتماع الفرنسي "غابريال تارد Gabriel Tarde " التفكير فيما نحن بصدد الوقوف عليه حاضرا، وذلك ضمن مؤلفه المشهور "قوانين التقليد Les lois de l’imitation" الصادر منذ سنة 1890. فقد قام هذا الباحث المتخصّص في دراسة الحقوق وعلم الاجتماع والفلسفة بالتنظير لمسألة انتشار الأفكار أو التصوّرات الجديدة من خلال عناصر بثّ متعددة، داعيا في هذا الصدد إلى اختراع ما سمّاه بـ"آلة قيس الحظوة أو الصيت gloriomètre وهو ما يقابل قيس مستوى شدّ أو لفت الانتباه  "بوز buzz "، حتى وإن لم نكن نتوّفر عندها على الأدوات الضرورية لقيس مثل تلك الظواهر. وهو ما نمتلكه اليوم، بل ونستطيع قيسه بشكل دقيق.
فأنا أناضل راهنا من أجل إنشاء تخصّص جديد يمكن أن نطلق عليه اسم "الدراسات العلمية الاجتماعية المرقمنة social data sciences "، يمكّن تدريسها من الحصول على شهادة تقدمها معاهد العلوم الإنسانية والاجتماعية والسياسية. ويختلف هذا التخصّص على ما تم نعته بـ "الإنسانيات المرقمنة digital humanities"، التي يركّز العاملون ضمن مجالاتها على التجديد الرقمي لمدؤسسات التدريس أو الكليات المختصّة في المعارف الإنسانية والاجتماعية. فالمقصود هو تكوين باحثين يتوفّرون على قدر من الهجانة chercheurs hybrides وذلك من خلال استقطاب المتميزين في علوم الإحصاء وفي الرياضيات أو "الألغورتمات" وفي العلوم الاجتماعية، وهو أمر يختلف تماما عن المقاربة التي تجمع بين المختصين في الرياضيات والإعلامية والإحصاء، دون مراعاة لقدراتهم وتقييم رصيدهم المعرفي في الإنسانيات والاجتماعيات.
فقد سبق لعالم الاجتماع والإحصاء والمؤرخ "آلان ديروزيار Alain Desrosières" (1940 - 2013) أن شدّد على ضرورة التفكير في الدور الذي أضحت تلعبه أنساق القيس الكمي في تغيير التصوّرات المتصلة بدراسة مختلف الظواهر الاجتماعية، لأن ثقافة القيس الكمي quantification لا تحمل مضمونا مشابها للثّقافة المعوّلة على تاريخ الإحصاء histoire des statistiques.                                     

حوار أجرته لور بيلو Laure Belot مع دومينيك بولّيي  Dominique Boullier وصدر بصحيفة لوموند Le Monde بتاريخ الأحد 6 سبتمبر 2015 .  




Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire