vendredi 31 mars 2017

صناعة الخبر الرواية واستعاراتها












        ليس من السهل توضيح طبيعة العلاقات المعقّدة التي تربط ولا تزال ما يوسم بالرواية الوطنية الرسمية وتشكل حاضنة لمختلف توجهاتها، وبين التحفظات التي طالت تلك الحكاية الجماعية. فتطوّر الفكر التونسي لم ينتج عن نضج سياسي جماعي بقدر ما عبّر عن تصوّرات نُخبه، لذلك أخفى مشروع الاستقلال فجوة عميقة بين الدولة التي قامت ببنائها تلك النُخب السياسية المتشيّعة لقيم الحداثة الغربية، والمجتمع الذي افتقر أفراده إلى نفس تلك الدرجة من النضج. لذلك كانت الدولة ولا تزال موضع صراع رغم تعدّد إخفاقاتها، بحيث يتيه المتأمل في مثل هذه المسألة في مفارقات غريبة نظرا للعلاقة المقلوبة التي حكمت نتاجنا المتصل بالفكر السياسي، فضلا عن هاجس التلفيق الذي طبع التوجهات الثقافية للدولة الوطنية بوصفها مشروعا حاول المزج بين التقليد والتحديث معوّلا في جميع ذلك على الحيل السياسية. 
اصطبغ تركيب القراءة التاريخية الرسمية بالتشديد على التوجهات الإصلاحية، وهو ما يستوجب توضيح ما سبق وأن سمته بعض الأبحاث بـ"استعمالات مفهوم الإصلاح تونسيا"[i]، سواء حال حصول البلاد على استقلالها أو خلال فترة ما بعد إبعاد باني الدولة الوطنية الحبيب بورقيبة بما في ذلك الواقع الجدّ متقلّب للسنوات التي علّمت مسار مرحلة "الانتقال الديمقراطي"، وذلك من خلال التوقّف عند كيفية انزلاق مدلول الإصلاح من الدفع باتجاه تصويب التاريخ الوطني والتصالح مع الحداثة، إلى مجرد توظيف سياسي غرضه البقاء في السلطة.
اختراع الرواية الإصلاحية:   
لئن شكلت تونس همزة الوصل بين الشرق والغرب واتّسم مسارها التاريخي بالانفتاح، فإن الدعوة إلى الاجتهاد قد تم توجيهها نحو ملائمة الاحكام الشرعية مع مقتضيات الحداثة، حتى وإن انشغل خطاب الدولة الوطنية على الحقيقة بتوجهات عقلانية غربية لا تخطئها كل عين بصيرة. كما عملت المقالات المنشورة بالصحف على إدراج مسار باني الدولة الوطنية ضمن التوجهات الإصلاحية وعدم التهيب من اعتباره مصلح فذّا بل وواحدا من بين أعظم ما عرف التاريخ المعاصر من المصلحين. وبالتدرّج تحوّل التبئير حول مضمون الإصلاح إلى خطاب مشترك بين مختلف الحركات السياسية للمجتمع التونسي، فحتى أولئك الذين اشتهروا بمناوئتهم الصريحة لسياسة بورقيبة قد اعترفوا له بالدور الإصلاحي الكبير الذي لعبه في التأسيس للدولة التونسية العصرية، مُتبنين معجمه الإصلاحي بعد تعديل مضمونه أو محتواه حتى يواءم قيم الإسلام وتوجهاته، سواء تم ذلك باسم التصوّرات "التقليدية الدستورية والديمقراطية" أو بالتعويل على الشعارات الوحدوية العربية أو/ وبالتعويل على مقصد "الأخوّة في الإسلام" أيضا.
يستقي الفكر الإصلاحي التونسي أصوله من الموروثين العثماني والاستعماري الفرنسي، مازجا بين توجّهات إصلاحية مترابطة التقت نتائجها على أكثر من صعيد. فقد شغل التركيز على ضرورة إصلاح مؤسسات الدولة واحد من أكثر عناصر الترابط بين التقليدين. حيث اعتبر حكام دولة الاستقلال أن تطوير تلك المؤسسة من أعز الغايات وأوثقها صلة بعقلنة الممارسة السياسية وتجسيم مختلف الإصلاحات القادرة على النهوض بجميع شرائح المجتمع، حيث شكّل تطوير مؤسسات الدولة أصدق تعبير عن الانتساب إلى الحداثة.
والمربك أن مختلف القيم والشعارات السامية المتّصلة بمسار الإصلاح لم تقف عند حدود المدلول اللفظي، فقد سعت دولة الاستقلال إلى تملّك مختلف التشريعات الاستعمارية المتأثرة بمنظومة القوانين الوضعية التي تحيل على النظام الجمهوري الفرنسي، سواء على صعيد إنتاج الضوابط أو فيما يتصل بتنظيم تدخّل الفاعلين، معتبرة نفسها وريثة شرعية لتوجّهات مصلحي القرن التاسع عشر وخاصة مواثيق عهد الأمان ودستور 1861.
بين التوظيف السياسي و"التلفيق" الروائي:   
إن افتراض نزوع الدولة باتجاه توظيف مبادئ الإيديولوجية أو "التقليد الإصلاحي" مسألة ليس من المجدي في شيء إنكارها. فقد عكست الإحالة على مدلول الإصلاح كثيرا من الغموض، الشيء الذي مكّن من استنباط صلة وثيقة ومباشرة بين الإرث الإصلاحي للقرن التاسع عشر والتوجّهات التي دافعت عنها دولة الاستقلال، وذلك بغية استنباط ما تم التواضع على تسميته بـ"التقليد الإصلاحي التونسي"، حيث خضعت الرواية الإصلاحية للتبسيط واختصار مضمون الوقائع التاريخية والخلط بين المنجز وأشكال التعبير عنه، أو بين التمثلات والوقائع، مع ذهول تام عن السياقات التاريخية والصراعات التي جدّت بين الفئات الاجتماعية ذات المصالح المتباينة، فضلا عن حضور نوازع توظيف وتعبئة مفضوحة. وهو ما يدعو إلى الاعتبار بإخضاع تلك الرواية إلى التعتيم المقصود على السياقات التاريخية المميّزة لمختلف الحركات الإصلاحية التي عرفها تاريخ التونسيين المعاصر.
وتضمّن هذا الترميق الأدبي bricolage littéraire للرواية الإصلاحية التونسية أو "تلفيقها" ثلاث مراحل مترابطة يمكن اختزالها في:  
-       ادعاء توفّر تجربة الإصلاح التونسية على نفس تحرّري ديمقراطي وفصّلها عن جذورها التوفيقية العروبية والإسلامية وإخراجها عن توجهاتها الوطنية الثورية وتكييفها بغرض خدمة مصالح الزعيم والحزب. فقد عكس الخطاب المعادي للحضور الاستعماري الفرنسي سواء لدى الداعين إلى سن القوانين التشاركية أو إلى الرابطة الإسلامية، لدى الوطنيين الشبان كما لدى المصلحين التقليدين، نفسا سياسيا إصلاحيا تواضع على اعتبار حركة الإصلاح التي عاينها النصف الثاني من القرن التاسع عشر تونسيا تقدّما في اتجاه تكريس الديمقراطية، والحال أن تنظيم الدولة وأساليب اشتغالها لم يتم توجيهها مطلقا وجهة سياسية ديمقراطية، لأن التمثيلية لم يكن من الممكن تصوّرها لغير المحسوبين على نخب السلطة. ويتصل ذلك التلفيق أيضا بالتأكيد على أن تونس قد عاينت أول دستور ليبرالي في العالم العربي وهو توجه انطلق منذ أواسط عشرينات القرن الماضي وتلازم مع الحاجيات الاستراتيجية والتكتيكية لحزب الدستور (بشقيه القديم والجديد)، ذاك الذي عتّم عمدا على حقيقة تنوّع التجارب الإصلاحية وتعدّد التيارات الفكرية وصراع التوجهات السياسية بين مختلف مصلحي القرن التاسع عشر، فضلا عن الاعتراف بحقيقة التأثير الذي سلطته الدولة العثمانية وحضور ضغوط أجنبية أوروبية أجبرت حكّام "إيالة تونس" على تحرير بنود عهد الأمان.
-       توظيف الرواية الإصلاحية زمن الاستقلال والتعتيم على البعد الديني للحركة الإصلاحية التونسية، بالاستناد على استراتيجية فسخت حضور اختلافات أو تناقضات بين ممثلي تلك التصوّرات فكرا وممارسة، بحيث اتسمت تصرفات الزعيم بورقيبة تجاه منافسيه السياسيين بالقسوة وعدم التسامح. كما تم الحرص على إعادة كتابة السياق التاريخي للمواجهة الحاصلة تاريخيا بين الدستوريين الجدد والدستوريين القدامى، واعتبار البورقيبيين الأجدر بالانتساب إلى الحداثة مع تجريد التيارين اليوسفي والعروبي من كل شرعية نضالية وطنية خدمة للتوجهات الاصلاحية للدولة الناشئة.
-       ومع حلول سبعينات القرن الماضي تم تكييف الرواية التاريخية الإصلاحية تزامنا مع أفول المشاعر القومية وتراجع الأيديولوجية الوطنية. فقد حلّت التمثّلات المتخيّلة للإصلاح محل تلك المتّصلة بالقراءة الوطنية، ورُدّ الاعتبار لعدد من الأبعاد التي حاولت الدولة الوطنية تفادي الخوض فيها أو إرجائه، على غرار الاعتراف بالمشاعر الدينية. وتلازم ذلك مع انقطاع الفكر التحرري الثوري المتكئ على مبادئ الفكر الغربي والمنفتح على أبواب المستقبل والذي اعتقد أن التقدّم والنماء أمران ممكنان يندسّان بقوة ضمن الممارسات السياسية ويعتملان في فكر القائمين على السلطة والممانعين ضدها أيضا. لكن عوامل التهرئة الناتجة عن التحوّلات السياسية التي طالت المجتمع التونسي هي ما دفع على الحقيقة باتجاه إعادة الاعتبار للبعد الديني ضمن معجم الخطاب السياسي، وذلك بصرف النظر عن مضمون التحوّلات الفارقة التي عرفتها الساحة الدولية أيضا.
وتفاقم التوظيف السياسي على أيام حكم الرئيس الثاني للدولة الوطنية زين العابدين بن علي حيث تم التعويل على مروية "التقليد الإصلاحي" تجاوزا لضعف شرعيته التاريخية، لذلك لم يبق سوى الانخراط في قراءة تاريخية توسّلت بالأمد الطويل لكي تمنح سياسة الحاكم الجديد حدّا من الشرعية من خلال نسبها للتوجهات التي قادت مختلف زعماء الإصلاح تونسيا.
والبيّن بعد جميع هذا أن حدث الثورة قد انفتح خلال سنوات الانتقال الديمقراطي الست على حقيقة تنوّع القراءات بل وتضاربها المحيّر، لذلك فإن الاشتغال بهدوء على مسألة "التقليد الإصلاحي التونسي" والاعتراف بتباعد التصوّرات حولها دون السقوط في تحريف الاستعارة الجمعية المتصلة بحكاية التونسيين الجماعية، يشكّل مرحلة ضروريّة في مسار فهمنا لماضينا القريب، كي يذهب في حال سبيله ولا يواصل اندساسه المرضي في حاضرنا المعقّد./.                



[i]        Hibou (Béatrice), « Le réformisme, grand récit politique de la Tunisie contemporaine », dans Revue d’histoire moderne et contemporaine, 5/2009 (n° 56-4bis), p. 14-39.








Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire