mercredi 7 mars 2018

حول مضمون الخطة الاستراتيجية المستقبلية للحفاظ على التراث الوطني التونسي غير المادي: ملاحظات أولية
















       تنخرط ملامح الخطة المستقبلية للتراث الوطني التونسي غير المادي ضمن ما أقرته بنود اتفاقية منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) بخصوص حماية التراث الثقافي اللامادي وطنيا ودوليا. وهي خطة أقرّت كما هو معروف في الـ 17 من شهر أكتوبر من سنة 2003، ودخلت حيز التنفيذ الفعلي بداية من سنة 2006 بعد المصادقة عليها من طرف ثلاثين دولة من بين الدول الأعضاء، قبل أن تتوسع المصادقة على تلك الاتفاقية الدولية لتشمل 163 دولة عضوا في حدود سنة 2015.
ويَعتبِر الفصل الثاني من هذه الاتفاقية أن: "جميع الممارسات والتصوّرات الفكرية والتعبيرات الفنيّة والمعارف والمَلَكَاتِ (وما ينتظم في سلكها من أدوات ومنتجات وفضاءات ثقافية...) تعتقد التجمّعات البشرية أو المجموعات وكذلك الأفراد ذاتهم في صلتها الوثيقة بتراثها الثقافي، يتعين إدراجها ضمن التراث الثقافي غير المادي."
ويخضع هذا المخزون الثقافي الذي تم توارثه جيلا بعد جيل ووفقا لما أقرته نفس الاتفاقية، إلى عمليات إحياء مستديمة من قبل من يمارسونه، وذلك في تناغم مع تحولات الوسط الذي يعيشون فيه ومقتضياته الطبيعية والتاريخية، مما يُفضي إلى شعور أولئك أن ذلك المخزون يشكل عنصرا ناظما لهويتهم الجماعية، بل وشرطا من شروط استدامتها أو اتساقها.
ويبرز ذلك بالخصوص في العديد من المجالات المتصلة بالتقاليد والتعبيرات الشفوية وفنون الفرجة والممارسات الاجتماعية والطقوس المتصلة بإحياء المراسم الاحتفالية والمعارف التقليدية والمعتقدات التي تحيل على تمثل خاص للعلاقات البشرية والظواهر الطبيعة. كما يحيل على مختلف المَلَكَاتِ التي تحتاجها الفنون الحرفية التقليدية والعديد من الفنون المستظرفة.
ويتمثل الهدف المنشود من وراء صياغة هذه الاتفاقية والمصادقة عليها من قبل الدول الأعضاء بالمنظمة في الحفاظ على التراث الثقافي غير المادي، وذلك بالتعويل على مجموعة من الإجراءات ينُجم عن الالتزام بها وتجسيمها على أرض الواقع ضمان للحدّ المطلوب من النجاعة أو الجدوى.
ويتصل الأمر إجمالا بالاستكشاف والاحصاء والتوثيق والدراسة والبحث وتوفير جميع الأليات الكفيلة بالحماية ونقل المعارف التراثية إلى الأجيال الجديدة، سواء عن طريق مؤسسات التحصيل والتكوين، أو بالتعويل على المصاحبة والمحاكاة والتدرّب الذي توفره المسالك المهنية المتكفّلة بنقل المعارف أو التجارب التراثية بشكل متقن، مع العمل على تطوير منتجها الثقافي وتجويد محصلتها وإحيائها.
وتحتاج الخطة الاستراتيجية الوطنية التي يتعين رسمها لمباشرة تطبيق مختلف البنود الواردة ضمن الاتفاقية الدولية الخاصة بحماية التراث الثقافي غير المادي إلى مأسسة شراكة وثيقة ومنتجة بين السلط العمومية المشرفة على قطاع الثقافة ونظيرتها المؤتمنة على نقل المعارف العلمية من ناحية، ومختلف المتدخّلين المهنيين والفاعلين الثقافيين الحاضنين لتلك الممارسات أو/ والمدافعين عن حضورها واتساقها ضمن المشهدين الثقافيين الوطني والدولي، وكذا المحسوبين على جميع أطياف المجتمع ومؤسساته المدنيّة، تلك التي تكتسي تدخلاتها الثقافية وأنشطتها التحسيسية أيضا والتفافها حول المجالات التي سيتم الاشتغال عليها بغرض إدراجها ضمن عناصر الخطة الوطنية، مصداقية عالية.
لذلك تكتسي التعبئة حول أهمية الحفاظ على التراث الثقافي غير المادي والاستثمار فيه خصوصا حساسية بالغة، بالنظر إلى تواضع وعي معظم الفعلين السياسيين والاقتصاديين التونسيين بأهمية هذه المسائل وحاجة جميعهم الملحة إلى جهود تحسيسية مبتكرة وموجّهة تعيد لهم الشعور بجذوة الانتساب - من وجهة نظر مدنيّة مسؤولة - لمختلف مكوّنات تراثهم غير المادي والتعامل مع ذلك الموروث بوصفه عنصرا "مُعلِّما" لما قد يستقيم نعته بـ"الجينوم الثقافي للتونسي marqueur du génome culturel du tunisien". 
كما يتعين على السلطة المعنية ونقصد بذلك وزارة الشؤون الثقافة تحديدا التفكير جدّيا، وبعد إعادة العمل "للإدارة العامة للتراث" وتطوير صلاحياتها ومزيد تنسيق أعمال المعهد الوطني للتراث والوكالة الوطنية لإحياء التراث والتنمية الثقافية وتجويد أدائهما، التفكير جدّيا في بعث "إدارة عامة لقيادة البحث والسياسة العلمية للدولة في مجال التراثDépartement de pilotage de la recherche et de politique scientifique du gouvernement en matière de patrimoine "، يتفرع عنه مركزان مختصّان Centres spécialisés في تكييف برامج الإحياء والمحافظة والترسيم أو التسجيل وإكسابها مضمون عملي سواء على الصعيد الوطني أو الدولي تساوقا مع ما أقرته اتفاقية اليونسكو للمحافظة على التراثين المادي وغير المادي. وهو جهد لا يمكن الاكتفاء ضمنه بالدور الذي تلعبه مختلف هياكل الوزارة على جسامة ما هو موكول لها وأهميته، بل يتعين أن تنخرط ضمنه بشكل مدروس وعبر الامضاء على اتفاقيات شراكة علمية وتمويل حسب الأهداف، مع تقصّي السرعة في الإنجاز والنجاعة في إتمام المشاريع وتجويد المضامين. وتُعقد تلك الاتفاقيات بين هياكل الوزارة وإداراتها العامة وتمثيلياتها الجهوية (أو مندوبياتها) من ناحية، ومؤسسات البحث الجامعية التي تتوفر على مؤهلات ابتكارية ومعرفية ونقدية structures disposant d’une masse critique conséquente  تنتظم في شكل وحدات ومخابر بحث ومدارس دكتوراه، مع الاستئناس في جميع ذلك بالمهنيين والعارفين أو المتبحرين érudits قصد تكييف المضامين المعرفية بشكل يضمن تحويلها أو نقلها من مجالها المعرفي الصرف إلى عروض تطبيقية تتسم - وعلى اتصافها بالتجديد واتساع الخيال- بمستوى عالي من الإجرائية.
وضمن هكذا إطار وبالاستناد إلى مجالات التسجيل التي حدّدتها منظمة اليونسكو بخصوص التراث الثقافي غير المادي (الموسيقى والفنون التراثية، ومهن التراث، وثقافة المائدة، والآداب والفنون المستظرفة التي تحيل على الحكايات والأمثال والأزجال والخواطر والحكم...) يمكن أن نقترح وضمن عناصر الخطة الاستراتيجية المستقبلية للتراث الوطني غير المادي، تكليف مثل ذلك القسم الراعي للبحوث بإنجاز أربعة مشاريع ملفات قابلة للحماية أو/ والتسجيل وفقا للشروط التي ضبطتها اتفاقية منظمة اليونسكو وملحقاتها الإجرائية وهي في تصوّرنا الشخصي:
-       إعداد ملف لتسجيل "الجمعية الرشيدية التونسية" باعتبارها مؤسسة موسيقية وفنية وطنية تُعنى بالتراث الموسيقي التقليدي، أُسست في أواسط ثلاثينات القرن الماضي بالتوازي مع بروز الدستوريين الجديد بزعامة مؤسس الدولة الوطنية التونسية الحبيب بورقية وبدفع خاص من بقية الزعماء الوطنيين مثل الطاهر صفر بهدف حفظ الموروث الموسيقي التونسي الأصيل وجمع وترقيم "نوبات" المالوف الثلاثة عشر. غير أنه وبالرغم عن مكانتها التاريخية فإن ما تعيشه هذه الجمعية حاضرا من تراجع واكتناف وهوان، يقتضي التعجيل بتدارك الأمر قبل اندثار هذه المؤسسة العريقة بالكامل. لذلك ينبغي الاهتمام بها بشكل مركّز والاسهام في انقاذها والحفاظ على الرصيد التراثي الذي تمثله بالنسبة لذاكرة التونسيين الجماعية، وذلك عبر وضع خطة محكّمة تمكّن من إعداد ملف مستوفي ودقيق يسمح بتسجيلها ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي الذي يحتاج إلى حماية مؤكدة وحشد جميع الإمكانيات والتمويلات اللازمة لإعادة تنظيمها بشكل يستقيم معه اتساق أدائها وتواصله باعتبارها منارة للموسيقى التونسية ومؤسسة تُعنى بحفظ طبوعنا التقليدية التي تحيل وفي جزء كبير منها على فنون الموسيقى التقليدية أو الكلاسيكية التونسية.
-       إعداد ملف لتسجيل "معجون الهريسة" بوصفه عنصرا مميّزا للمائدة التونسية قياسا لما سواها. ونحتاج في إعداد هذا الملف إلى كِفَيات وقدرات متنوعة تستطيع توضيح الدور الذي يلعبه هذا المنتج ولا يزال في إعداد أفضل الوجبات الشعبية التونسية، فضلا عن تشكيله لرابط مهم بين جهات الساحل التونسي (من نابل إلى المهدية) والجهات الداخلية بالوسط الشرقي والغربي (القيروان وسيدي بوزيد والقصرين) وجهات الجنوب الغربي التونسي معقل "الفلفل الشمسي أو الجريدي"، وهو ما يضفى على مختلف أطباق المائدة التونسية عامة مذاقا مميز يحيل على فنون التبزير وخلط البهارات.
-       إعداد ثلاثة ملفات تتصل بالفنون والصناعات التقليدية وخاصة "الخزف البربري" الذي يحيل على الفنون الساذجة arts naïfs بجهة سجنان بولاية بنزرت بالساحل الشمالي التونسي، أو/ وعلى صناعة قفص الزينة المحسوب على قرية جبل المنارة بسيدي أبي سعيد. وهي ضرب من الفن التقليدي يتضمن مشاكلة طريفة لعدّة عناصر تتصل بأنماط هندسية تعود إلى الفنون الحرفية التقليدية بالقيروان وعلى شكل تنظيم الإيوان الأندلسي وزخرفة تشبيك المواد المعدنية التي تحيل من جانبها على فنون التطريز المحسوبة على بعض قرى الوطن القبلي ومنطقة رفراف بجهة بنزرت على الساحل الشمالي للبلاد التونسية. ولعل تلك الخصوصيات هي التي حوّلت تلك الصناعة التقليدية إلى نسيج وحده لازم منذ الاستقلال جميع حملات الاشهار والتعريف التي أقيمت للنهوض بقطاع السياحة والصناعات التقليدية سواء بداخل البلاد أو بخارجها.
كما يمكن أيضا إفراد ملف خاص بتقنيات الصيد بـ"الشرفيّة" بجزر قرقنة وجربة وعند ساحل مدينة صفاقس، وهي تقنيات انكفأت على نفسها حاضرا، لا نستبعد - إذا ما تواصل إهمالها- انقطاع العارفين بفنونها بعد رحيل جيل النصف الثاني من القرن العشرين.
-       إعداد ملف لتسجيل الحكايات والمأثورات والأمثال الشعبية والأزجال والحكم وهي عناصر تحتاج إلى الحفظ باعتبار اندثار العديد من المرويات تماما، بل وعدم قدرة جانب واسع من التونسيين على تناقلها أو تداولها بشكل دقيق بين الأجيال. وهو ما يتطلب الاستنجاد بما تحتفظ به البلاد من خبرات والاستفادة من اطّلاعها الواسع على ضروب من التراث غير المادي، وتضافر ذلك مع جهود هياكل البحث الميداني والتوثيق السمعي البصري وما يحتفظ به العارفون بطقوسها وأفانين حفظها، حتى تتمكن الأجيال الجديدة من إعادة تملّكها والتوفّق في تجديد وظائفها من خلال ربطها بمختلف أوجه الذكاء الافتراضي قصد تصوّر التطبيقات الاعلامية الترفيهية والتعليمية (startup ou concepteurs d’applications culturelles ludiques et éducationnelles) توثيقا للصلة بينها وبين الابتكار التخيّلي المبدع في ميدان الإنتاج الثقافي[1]./.










[1]    Voir article de Abdellatif Mrabit « PCI de Tunisie vers une sortie du tunnel », paru dans Kapitalis, sur le lien suivant :  http://kapitalis.com/tunisie/2018/01/18/patrimoine-culturel-immateriel-de-tunisie-vers-sortie-tunnel/


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire