vendredi 9 mars 2018

بيداغوجية الانتماء إلى "الأمة التونسية" في كتاب "تونسنا تاريخنا ومستقبلنا" للراضي المؤدب Tunisie, Hommes et Patrimoines Sous la direction de Radhi Meddeb



















     تمّ نشر هذا "الكتيب" في صيغتيه العربية والفرنسية عن "جمعية عمل وتنمية متضامنة Association Action et Développement Solidaire" وصدرت الطبعتين العربيتين سنة 2012 في قرابة 100 صفحة، في حين ظهرت الطبعة الفرنسية لنفس الكتيب منقّحة ومعدّلة في 121 صفحة أواخر سنة 2017.
وتضمّن فهرس محتويات الكتاب في آخر طبعاته الموضوعة في اللغة الفرنسية، وهي طبعة تجاوزت في ما بدا لنا الأهداف البيداغوجية للصيغة الموضوعة في اللغة العربية، لا تكتفي بمخاطبة اليافعين من أطفال المدارس وتلاميذ الاعداديات متوجّهة إلى شرائح أوسع من القراء، عروض اتصلت بجغرافية البلاد التونسية وبالمفاصل الزمنية الكبرى التي عاينتها وبتوصيف شكل علمها ونشيدها الوطني وتقاطيع مائة شخصية مختارة من بين مناضلي حركتها الوطنية ورجال دولتها الناشئة ودساتير جمهوريتيها الأولى والثانية، ونبذة عن سياستها الخارجية ومقدّراتها الاقتصادية الفلاحية والصناعية والسياحية، فضلا عن توصيف مسارات عدد من الشخصيات الاعتبارية من بين كبار أطبائها ومبدعيها، أدبا وشعرا ورسما وطربا وتلحينا ومسرحة وكتابة سينمائية وتمثيلا وانتاجا ابداعيا ورياضة.
في بيداغوجية الانتماء إلى "الأمة التونسية":        
       يشير عنوان الكتاب إلى مفارقة غير معلنة شكّلت نوعا من اللَبْسِ الذي يحتاج إلى مزيد توضيح. فقد تم وَسْمُ العروض المقترحة في صيغتها العربية بـ "تونسنا تاريخنا ومستقبلنا اليد في اليد نبني تونس الغد"، في حين حملت الصيغة المترحمة إلى الفرنسية عنوان: "تونس، السكان والتراث Tunisie, Hommes et Patrimoines". ولئن راوحت العروض بين السرد التقريري ومنتخبات التراجم أو المسارات الفردية المعلِّمة لتاريخ التونسيين، فإن المحصلة قد أبانت على حضور نوع من التجاذب بين عدة اختيارات، بحيث بدا من الصعب على واضعي هذه العجالة المختصرة وعلى المُطّلعين على محتواها أيضا، الفصل بين مختلف الشواغل برد مجمل المعطيات المقترحة إلى مؤلَف تاريخي بحت أو تحويلها إلى مدونة تراجم un dictionnaire biographique.
ولا يتعين أن يذهب في الظن أن ما نحن بصدده يحيل على هوية العروض المقترحة أو على جنسها الأدبي، فالأثر الذي بين أيدينا ليس بكتاب تاريخ بالمدلول المتعارف عليه حتى وإن نهل من معين تلك المعارف، موظّفا غيرها على غرار الجغرافيا الطبيعية والسكانية والعلوم الاقتصادية والسياسية والدراسات الحضارية والتراثية والمتخفية قصد مدّ الأجيال الجديدة بصورة مكتملة ومختصَرة في آن عن المميزات الناظمة لمجال اعتباري تعايشت داخله ولا تزال مجموعة بشرية شكّلت بالتقادم "أمة une Nation" مستقلة بذاتها، تتوفّر على  ما يكفي من المميزات الخصوصية حتى يكون لها موطئ قدم بين بقية أمم العالم. لذلك وددنا لو عمل القائمون على هذا المُنجز المفيد ذي التوجّه البيداغوجي المُعلن على ربطه بإشكالية جليّة تفسر مقصده باعتباره "مختصرا مونوغرافي يتبسّط في توضيح مميزات البلاد التونسية un précis monographique dédié aux spécificités de la Tunisie" ويعرّف بالروابط التي تصل بين جمّاع التونسيين، لا بتاريخ تونس فحسب، ناقلا لقرائه صورة عن خصوصيات حضارتهم وطبيعة واقعهم الراهن ومحصّلة أيامهم وأعمالهم.
ويقتضي التذكير بعمق الانتماء المشترك بين جميع التونسيين الحذر من الانزلاق في إعادة انتاج المضامين "الحنينية" المنخرطة في نوع من الوطنية اليعقوبية un nationalisme jacobin"، وهي مضامين تحيل على خطاب ممجوج عاينته مرحلة بناء الدولة الوطنية من قبل حزب الدستور (الحرّ والاشتراكي والتجمعي الديمقراطي) الذي حكم بلا انقطاع على امتداد أكثر من نصف قرن، والقطع مع "أيديولوجية الإصلاح idéologie réformiste" التي انتهت إلى طريق مسدودة، مشرّعة لاقتراف فضيع التجاوزات التي ليس بالوسع تبرئة جانب كبير من الدستوريين وجميع من تشيّع لمشروعهم أيضا من التوّرط فيها[1]. فاستضلال دولة الاستقلال بشعارات النماء على تعدّد منجزاته (التعلق بقيم الحداثة ونشر التعليم على نطاق واسع والتدرّج في تحرير المرأة وتنظيم الأسرة)، لا يتعين أن يحجب عن أعيننا الفوارق بين أنساق التنمية بجهات الساحل مقابل ضمورها بالجهات الداخلية[2]، مع تعاظم الفوارق بين الفئات الاجتماعية، وحقيقة سقوط جانب من ممثلي النخب في مداراة السياسة الرسمية للدولة بتشريع منطق المغالطة المُستند إلى إعادة انتاج المواضعات الاجتماعية، رغما عن انتهاء فصلها وفشلها الذريع في رفع اكتناف التونسيين وتطوير مستوى ادماجهم الاجتماعي وتمكين الأجيال الشابة من خلال تطوير المؤهلات المهنية وتوسيع دائرة التشغيل والقطع مع جميع المظاهر السلبية لسياسة الاشهاد الجامعي المغشوشة، بعد تفاقم نسب العاطلين من بين الحاصلين على تلك الشهادات.
جولة في محتويات الكتاب:
       عالجت العروض المستجلبة ضمن الصيغتين العربية والفرنسية وباعتماد منهج بيداغوجي تثقيفي مُوَجّه إلى اليافعين من التونسيين وغيرهم من بين المنتسبين إلى الفئات العمرية الناضجة، جوانب مختصرة ومفيدة من تاريخ التونسيين ومشترك حياتهم اليومية المعاصرة، اتسمت بالتركيز على تقوية الاشتراك في الانتماء "للأمة التونسية la Nation tunisienne" باستذكار سير كبار المناضلين والمقاومين وبناة دولة الاستقلال ومضمون دساتيرها الأربعة وجمهوريتها الأولى والثانية، ومشاهر شخصياتها (كعليسة وحنبعل وعقبة وعزيزة عثمانة والكاهنة وخير الدين والمنصف باي)، وعلمائها (كابن الجزار وسحنون  وابن عرفة وابن خلدون ومحمد بيرم الخامس ومحمد الطهر بن عاشور)، وأطبائها (كمحمد الشريف الصقلي ومحمود الماطري والحبيب ثامر وتوحيدة بن الشيخ وصالح عزيز ومحمد الطيب القصاب والبشير حمزة)، وأدباءها (كابن رشيق والحصري والشابي والحداد والدعاجي والنقاش والمسعدي ومحمد الشرفي وعبد الوهاب المؤدّب)، ومناضلاتها النسويات (كزبيدة بشير وبشيرة بن مراد وراضية الحداد) وفنانيها (كالشيخ العفريت وحبيبة مسيكة وخميس الترنان ومحمد التريكي والهادي الجويني ومحمد الجموسي ورؤول جورنو وقدور الصرارفي، وعلي السريتي، وعلي الرياحي وصالح المهدي، وشافية رشدي وصليحة والشاذلي أنور وأنور براهم) وفكاهييها (كصالح الخميسي والهادي السملالي وحمادي الجزيري ولمين النهدي) ومبدعيها من المسرحيين والسينمائيين (كأحمد بوليمان وعلي بن عياد والزهرة فايزة وعمار الخليفي والمنصف السويسي ومُنى نور الدين وتوفيق الجبالي والنوري بوزيد وسلمى وجليلة بكار وفاضل الجعايبي)، وكبار منتجي أو مقدمي برامجها الاذاعية (كعبد العزيز العروي وتوفيق بوغدير وعليّة ببو ودليلة ثابت أو "فائقة" وإبراهيم المحواشي)، ورياضييها (كحسين بلخوجة المعروف بـ"زيزي" ومحمد القمودي و"عتوقة" أو الصادق ساسي والصادق كوكة وحبيبة الغريبي وأسامة الملّولي وسارة بسباس وأنس جابر) ورساميها (كيحيى التركي وعلي بن سالم وعمار فرحات ونيلو ليفي والهادي التركي وزبير التركي وصفية فرحات وعبد العزيز القرجي ونجا المهداوي وأحمد الحجري). ولم تغفل تلك العروض التعريف بأبرز المواقع الأثرية والمحميات الطبيعية والجزر والمدن التاريخية المسجّلة بقائمة التراث العالمي وتعداد أسماء المتاحف المتخصّصة الاثرية منها والحرفية والاتنوغرافية، مع التوقف عند حدث الثورة الذي خصّته الصحافة العالمية بالعديد من افتتاحياتها، وعند مدلول حصول تونس على جائزة نوبل للسلام لسنة 2015 بعد نجاح أعرق منظمات مجمعها المدني (أو "الرباعي الراعي للحوار") في تحقيق التوافق السياسي وإرساء ركائز الانتقال الديمقراطي. وأُردفت مجمل تلك العروض بمعطيات مقتصَدة حوصلت أهداف الطرف الناشر المتمثل في "جمعية عمل وتنمية متضامنة".
لا شأن للتونسيين بالحرية من دون اكتسابهم للكرامة:   
     يدعو تلخيص محتوى هذا الأثر القيّم في صيغتيه المبسّطة وتلك المعدّلة أو المزيدة والمنقّحة، إلى التفكير الهادئ والعميق في مدلول اللحظة الفارقة التي عاشتها البلاد عند أواخر سنة 2010 وبداية سنة 2011، وذلك بغرض مزيد فهم العلاقة التي ربطت بين شاغلي الحرية والكرامة ضمن الشعارات الاجتماعية المرفوعة، مع الدعوة إلى إعطاء مدلول واقعي لهما ضمن خصوصيات الحياة اليومية المشتركة للتونسيين. فقد بيّنت السياقات الخصوصية للثورة التونسية أهمية الوصل في تمثل معظم التونسيين بين الكرامة والحرية، حتى وإن تعيّن ألاّ يلهينا الايماء لحضور مثل ذلك الترابط عن تواصل اشتغال نوازع الوصاية المتخفّية وراء التركيز المرضي على صورة الدولة المُنْعِمَة من ناحية والرُهاب من جبروت تدخلها في جميع ما يتصل بتصريف الشأن العام والاسراف في مهادنة أو في استرضاء "صنائعها" حتى وإن اقتضى ذلك تنفيلهم بل وإرشائهم.
وينمّ تمثل شرائح واسعة من التونسيين لمدلول الكرامة من جانبه عن لبس حقيقي كشفت عنه السجالات الحادة التي دارت بينهم خلال السنوات القليلة المنقضية، وهي مطارحات زاغت بجميعهم عن العمل المشترك من أجل رسم أفق جديد ومفارق لمستقبلهم يضمن تعايشا صِحّيا، وينم عن ذكاء الأفراد ورغبتهم المسؤولة في الانعتاق والتحرّر. فلئن تضمّنت ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادرة سنة 1948 إشارة صريحة إلى أن "كل البشر يتوفّرون في ذاتهم على ما يحفظ كرامتهم"، ونصّ الفصل الأول من نفس الإعلان على أن جميع الناس "يولدون أحرارا ومتساوون في الحقوق"، فإن ما تضمنه الفصل 23 من الدستور التونسي الجديد الذي تمت المصادقة عليه في 26 من شهر جانفي من سنة 2014 بخصوص "التزام الدولة بصون كرامة مواطنيها والدفاع عن حرمتهم الجسديّة"، لا يمكن أن يلهينا واقعيا عن تعدّد الوضعيات الاجتماعية التي يصعب معها ادعاء قدرة جميع التونسيين على التصرّف في مصيرهم بالقدر اللازم من الحرية، الأمر الذي يستوجب الربط بين ما تمنحه الدساتير أو القوانين من حقوق عامة وشخصية، وبين حقيقة الأوضاع المادية لمن يتمتعون بتلك الحقوق، مع التبصّر بقيمة الكرامة بوصفها مطلب محوري علّم التحولات الاجتماعية المترتبة عن حدث الثورة تونسيا. ويساعد ما استعرضناه على مزيد فهم السجال الحاصل بخصوص صعوبة مواءمة القيم الكونية مع واقع المجتمعات النامية. فهل بوسع التونسيين مواصلة الانخراط بجدّية ورصانة في استيعاب القيم الكونية بعد إكسابها طابعا محليا؟ ثم هل يستقيم الاقرار بازدواج انتسابنا للثقافة الإسلامية وللقيم الكونية في آن؟
يقينا أنه بمقدور الإجابة عن مختلف هذه التساؤلات أن تشكل الإطار الناظم لكل تفكير بخصوص الواقع المفارق لما بعد سنة 2010، وخاصة عندما نصرّ على رفض كل اعتقاد في قدرة التوجهات المتشدّدة أو المنغلقة على تكييف علاقتنا بالإرث الثقافي الإسلامي، فجميعنا مغاربة ومسلمون بالاعتقاد وممارسة الشعائر أو بالانتساب الثقافي مع رفع التكاليف، غير أن هويتنا لا يمكن باي حال ابتسارها في مدلولها العربي الإسلامي الصرف، بل يتعين الاعتراف بتوفّرها على أبعاد مكمّلة إفريقية شبه صحراوية، وأخرى متوسطية وثالثة مشرقيّة ورابعة غربية أيضا. فكل عودة للتفكير بخصوص حقيقة تنوّع الانتماءات الثقافية المتّصلة بتعريف ما وُسم بـ"التَوْنَسَةِ" ينبغي أن تعيد تركيب انتماءاتنا من بوابة التعدّد وإثراء مشتركنا الثقافي الذي يُعطي لجذورنا اللوبية أهمية بالغة بحكم اتصالها بلغة تخاطبنا وحضور بصماتها المتعدّدة ضمن أشكال عيشنا اليومي وتراثنا غير المادي أيضا.
لذلك فإن شعارات الثورة الرابطة بشكل معلن بين الحرية والكرامة لا يمكن فصلها عن ممارسة المواطنة والاحتكام إلى التعاقد والالتزام بالقوانين، وجميعها قيم أو فضائل مدنيّة تحيل على سجل الحداثة. والغريب بهذا الصدد أن الدفاع عن مكاسب الدولة المدنيّة هو ما أضحى يجابه راهنا بمزيد من التحفّظ والارتكاس، بعد تأوليه من قبل شرائح واسعة تنتسب إلى المجتمع التونسي باتجاه النزوع نحو مزيد من الانطواء والعدوانية تجاه المدافعين على مدنيّة الدولة وحداثة المجتمع، مما ينهض حجّة على أن تطوير مدول الكرامة ضمن سياق ما بعد الثورة تونسيا مرتبط بمدى قدرة المجتمع على تجاوز نوازع الوصاية ورسم طريق سالكة تُسعف في القبول بالعيش المشترك والاعتراف بالتنوّع الثقافي، تجاوزا لجميع أشكال الانطواء ودواعي الإقصاء، تلك الوضعية التي ليس لنا من حظ في تخطيها ما دامت معرفتنا بالتاريخ في وجهيه التثقيفي والتخصّصي حبيسة خطاب سياسي شديد التسطيح ومستوى ثقافي جماعي مُسرف في التمركز حول ذاته، يحتاج إلى الخروج نهائيا من ضيقه وتجاوز قصوره، تشوّفا إلى كتابة جديدة حول الذات تتسم بتعدّدها ونقديتها وانفتاحها، تُوسّع للفضول بابا وتقطع مع رتابة التبئير المَرَضِي حول مربع الوطن، مع الاقتناع في جميع ذلك بأن الشرط التوجيهي لصون الانتماء المشترك يحتاج إلى مزيد التعرّف على الغيريات، "الأليفة" من بينها و"الغريبة" أيضا. ذلك هو مدلول الرسالة العميقة للمبادرة المدنية والمواطنية التي أتاها القائمون على جمعية "عمل وتنمية متضامنة" وأدرجوها ضمن أولوياتهم القائمة على ربط العمل والحرص على خلق الثروة أيضا، بالتشديد على النماء في صيغته المتضامنة، وهي صيغة يَحْسُنُ ضمنها ربط الحرية بوصفها القيمة الأكثر اشتهاء تونسيا بالكرامة تلك التي تحيل على اعتقاد التونسيين في عضوية العلاقة الرابطة بين الفعل السياسي وما يتعين أن يترتب عن ذلك الفعل من نتائج اقتصادية واجتماعية./. 

(صدر هذا العرض ضمن الصفحة الثقافية لجريدة المغرب التونسية بتاريخ الجمعة 9 مارس 2018).           


[1]     Hibou Béatrice, « Le réformisme, grand récit politique de la Tunisie 
contemporaine », Revue d’histoire moderne et contemporaine, 5/2009 (n° 56-4bis), p. 14-39.
[2]      Gherib (Baccar), Penser la transition avec Gramsci, Tunisie 2011 – 2014, éd., Diwân, Tunis 2017. Voir la quatrième et dernière partie de cet ouvrage consacrée aux inconvénients du déséquilibre spatial ou régional en terme du développement tout au long de l’histoire de la Tunisie.    

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire