mardi 7 avril 2020

«في زمن الكورونا ما ليس بالوسع تحاشيه يتوجّب على العاقل مؤالفته وتوقّيه»










المؤرخ لطفي عيسى لــ « الصحافة اليوم» : 7 / 4 / 2020


«في زمن الكورونا ما ليس بالوسع تحاشيه يتوجّب على العاقل مؤالفته وتوقّيه»



أمام تعدّد الاراء والحوارات التي يقدّم فيها مثقفّو الشمال رؤيتهم لجائحة كورونا التي تعصف بعالمنا ، في عبور جارح وعادل للثقافات والمجتمعات ، كان لابدّ من مساءلة العقل التونسي عمّا يحدث ، كي نتدبّره تدبيرا جميلا . هنا حوار مع المؤرخ لطفي عيسى :

1/ كيف ترى ما يحدث؟ طبيعة تُدافع عن نفسها؟
شكلّت معضلة حماية المحيط وجه من وجوه العولمة القبيح، ولم تفلح المؤتمرات المنعقدة منذ بداية التسعينات (ريو دي جنيرو 1992) حول الحدّ من انبعاث الغازات الملوثة والسّامة، من وضع حد للتسابق بين العالم الحرّ والقوى الآسيوية الناهضة وفي مقدمتها الصين بؤرة انتشار وباء السارس كوفيد 2 المستجد. غير أنّ ما قد ينبغي التشديد عليه في تقديري، هو ضرورة القطع مع القراءة الجمالية الحالمة أو الرومنطيقية الجديدة بخصوص ثقافة حماية المحيط، لأنّ المطلوب في الواقع هو إعادة الاعتبار لمدلول الصمود résilienceومجابهة الكارثة الحقيقية التي حلّت بالأدميين من موقع التواضع واحترام التوازنات الحيوية والحفاظ على التنوّع البيئي والانخراط فيه دفاعا عن بقاء الحياة على كوكب الأرض والاعتراف بتحمّل تبعات التسابق في إجهاد الطبيعة بل وإفنائها برُمّتها من وراء حجاب. فلئن كان العالم القديم في حالة احتضار وشيكة، فإنّ بديله أو مـُحدثه يُبطئ في الظهور. فمن نافدة شعاع الضوء العتم ينبجس سوء تقدير البشرية وهوْل وحشيتها.
2/ ما الأثر الذي يتركه فيروس كوفيد19 وهو يعبُر الثقافات والمجتمعات؟

يبدو أننا نتّجه نحو توزيع جديد للخارطة الكونية مع ظهور فاعلين جيو إستراتيجيين جدد، وذلك بمجرّد انقشاع غيوم هذا الوباء القاتل. فعندما نلاحظ مدى اتساع رقعة انتشار الوباء بالولايات المتحدة ونقرأ في تصريحات رئيسها الرعناء، ندرك أنّ شيئا ما هو بصدد الحصول، وأن إمبراطورية العالم الحرّ تعيش أسوء لحظاتها. فهل يمثّل ذلك بداية نهايتها، أم أنّ المسألة لا تتجاوز الكبوة الوقتية التي لا يشكّل ضمنها التعثر أو السقوط سوى فرصة جديدة للوقوف؟ لا يبدو الوضع مطمئنا في ظل تراجع النمو وانقطاع محركات الاقتصاد الليبيرالي بالكامل. كما أنّ انهيار سردية الاتحاد الأوروبي بعد تعدّد القرائن الدالة على تصرفات مختلف مركباته وفاعليه السياسيين المتطرّفة والـمُخجلة في آن لا يمكن موضوعيا إلا أن يدفع إلى الاعتقاد في النهاية الوشيكة لذلك الصرح على غرار ما عاشه المعسكر الشرقي خلال القرن الماضي.
وفي جانب مقابل تبرهن السياسة الهجومية المعلنة المنتهجة من قبل الصين الشعبية أو امبراطورية الوسط القديمة ومنطقة البريكس، والمنافسة التي تضعها وجها لوجه إزاء الولايات المتحدة، على قدرة أوسع في حسن التدبير وتشبيك العلاقات الاقتصادية والاستثمارية آسيويا، وشرق أوسطيا، وأوروبيا، وإفريقيا. فقد تمكّنت الصين من بناء شراكات مع لا يقل عن 120 دولة أو كيان سياسي، وبالتالي فقد بات بوسعها رفع تحدي تجاوز الأزمة بأضرار أخف، قياسا لتلك التي ستواجه في المدى القريب جميع اقتصاديات العالم الحرّ.
3/ أيّة براديغمات ( قيم ، رؤى للعالم ) ستسقط؟ أيّة براديغمات ستنهض؟
يعتبر «أدغار مورن» في الحوار الأخير الذي أجرته معه مجلة «لو نوفل أبسرفاتور» الفرنسية، أنه على الرغم من قدرة العولمة على التشبيك وصياغة الترابط، فإنها قد كشفت عن فقدانها التام للتضامن. فالعولمة لم تُبْد نجابة حقيقية في بناء التفاهم بين الأمم أو الشعوب.بل أدّى شططها إلى الوقوع في أزمات مالية واندلاع حروب طاقية ومشاكل بيئية وانخرام للاقتصاديات المنظمة لفائدة القطاعات الاقتصادية الموازية وشبكات التهريب الغامضة والخطيرة وتيارات اليمين المتطرف الداعية إلى الانطواء والأنانية المُغذية لأبشع المخاوف. لذلك فمن المحتمل منطقيا أن تندفع الإنسانية نحو بناء سياقات مفارقة للتضامن تعيد الاعتبار لـ «قيم الاستعمال» على حساب «منطق التملّك»، محافظة على الخدمات المشتركة وبناء الرفاه بجعل اقتسامه ممكنا لا الاستئثار به أو احتكار منافعه، مع بناء الاكتفاء الذاتي وإعادة توطين الأنشطة الحيوية والشروع في تعاون دولي عفوي لمجابهة هذا النوع من الكوارث الصحية والبيئية المهيأة موضوعيا للتجدّد بأشكال مريعة على المدى القريب والمتوسط. فما يحصل في العالم اليوم يحثّ على تدبير الهلع ومقاربة الحجر الطوعي باعتباره فرصة حقيقية لمحاسبة النفس وتأمّل الوجود وتقدير مجالات الممكن قياسا لطلب المستحيل، مع الكفّ عن توسيع مجالات الافراط المؤذي في الاستهلاك، وبناء علاقة جديدة بالزمن الجوّاني المحفّز لمشاعر الحب والصداقة وجمالية الحضور الجذلى أو شاعريتها.
4/ كيف ترى الحال في تونس في التعاطي مع الفيروس؟
يتعيّن في اعتقادي مجابهة حقيقة «ورطة» ما بعد سنة 2011 (بمعنى النقلة التي استعصى عليها القطع مع القديم واستحثاث ولادة الجديد أو المُحْدث)، وهو أمر كان لنا فرصة التفصيل في البعض من جوانبه ضمن حوارنا السابق( صدر الحوار بجريدة الصحافة بتاريخ 22/06/2019 تحت عنوان : التونسيون أبطالٌ مرضى...). فقد تم تأليف العديد من البحوث الهامة حول مسألة الانتقال وظروفه وملابساته وتأويلاته، واستتباع ذلك بأشكال تدعو إلى تعديل عقارب الساعة وفهم الثقافة السياسة بشكل مفارق يضع في اعتباره شروط الوساطة والانتقال وضمان المرور الجيّد والفهم الدقيق للخبرات والمعارف في صدارة اهتماماتنا.
غير أنّ ما نعيشه اليوم وبعد مرور قرابة العشر سنوات على حصول تلك النقلة الفارقة في تاريخ تونس وفي بناء مواطنتها الغضّة، يدعونا إلى استعادة تضامننا الوطني من بوابة نبذ الانغلاق والأنانيّة والاعتبار بمصيرنا المشترك مع الإنسانية قاطبة في تدبّر معضلات تدهور المحيط، والافراط في التسلّح، والتهاون مع أشكال الاقتصاد غير المنظّم الذي يوشك أن يلغي تكافئ الفرص وبناء شروط العدالة الاجتماعية، مع العمل على تفادي جميع أشكال السقوط في التصوّرات الوطنيّة الراديكالية اليعقوبية منها أو الدّينيّة.
فإذا لم تنقلب الإنسانية على مخاوفها القاتلة بالتعويل على تصرفات مخزية تحيل على انهيار النظام الدولي على غرار ما نعاينه من خلال عمليات القرصنة المفضوحة على شحنات المعدّات الصحية والأدوية وتجريم حركة تنقّل الأفراد والأفكار والسلع وتُصغي حقيقة لناقوس الخطر، فإنّ الأزمة لا يمكن لها إلا أن تتفاقم بشكل مُهلك للجنس البشري بأكمله.

5/ يملك التونسيين في تاريخهم وفي مخيالهم الجمعي تجارب مع الأوبئة التي مرّت بهم. كيف تمّ التعاطي معها وهل أنتجت سلوكات ومواقف معيّنة (النظر إليها ربّما كامتحان وكمحنة؟)؟

هذا صحيح نسبيا، غير أنّ جميع ما عرفناه سابقا لا يخرج عن الأنماط المعروفة في انتشار الأوبئة وتزامنها أو تعاقبها مع الجوائح والمجاعات والحروب وفقا للشروط التي كشفت عنها الديمغرافيا التاريخية باعتبارها معرفة قائمة بذاتها نسلت عن المعالجة العمودية للمعطيات الرقمية أو سلاسل الأرشيفات الخورية( من خُوري : رجل الدين ) غربا، والضريبية ضمن المجالات الخارجة عن ذلك النطاق الجغرافي أو الحضاري. كما أنّ العلاقة بالتوقيّ من الأمراض الوبائية مثل الطاعون، والجذام، والزُهري، والصفراء أو الكوليرا، بالتعويل على الحجر الصحي ومختلف أشكال ما وُسم حاضرا بالتباعد الاجتماعي، قد عاينت من جانبها سِجَالَات حامية بين العقل الديني والعقل العلمي. وهي سجالات حضرت بكثافة ضمن أمهات المصادر والمخطوطات الفقهية أو «النوازلية» تونسيا، تماما مثل الجدل الذي قام منذ بداية القرن السابع عشر حول ظواهر مستجدّة اتصلت بـ»شرب الدخان» واستهلاك القهوة وارتياد المبغى أو الحانة، وانتشار الممارسات الجنسية المثلية وغيرها من السلوكات التي أدانها العقل الديني أخلاقيا، بل وأوغل أحيانا في الانتقام من المقبلين عليها اجتماعيا.
6/ بأيّة ذهنية، نحاربُ الفيروس (تونس أو المسلمون أو العالم الحرّ...)؟
ينبغي ألاّ نعوّل في مثل هذا المقام إلاّ على أنفسنا. فـ»الحاجة سيّدة الاختراعات» كما يقال. ولعل فيما نعيشه راهنا فرصة متجدّدة - بعد ورطة 2011- لمراجعة حسابتنا المغلوطة وبناء مجتمع التدبير العقلاني في مقابل مجتمع الحسيّة الـمُفرطة والارتجال المضحك والاعتداد بالتهاون والكسل الذهني بوصف جميعها «رياضة وطنية» أو «طبيعة ثانية». فالبيّن أن ضوابط جديدة هي بصدد التشكل كونيّا يقوم مدلولها بالأساس على الانضباط واحترام القوانين والتصرّف وفق تدبير مُحكم وواقعي، مع الالتزام أخلاقيا بقيم التضامن والكدّ والفضول المعرفي واحترام الطبيعة والحفاظ على المحيط.
7/ كيف ترى تجربة الخوف وتجربة الموت في زمان الكورونا ؟
نحن في مفترق جديد لما سمي بـ»زمن الألفية» وهو زمن تتجدّد خلاله مزاعم قرب طي بساط الكون والاعلاء من قيم الاستقامة في انتظار قيام الساعة. ألم تغذي مخاوفنا إبان الانتخابات الأخيرة استحضارنا لـ»مهدي» أوكلنا له رئاسة الدولة مع تجديد «البيعة» للتشكيلات المتمسّكة في شعبويتها البدائية بالعقل الديني. الشيء الذي يدفع إلى التفكير جديّا في الكيفية المثلى لتدبير الخوف لا لتغذيته في «زمن جنون الكورونا» مثلما تشفّ عن ذلك معارك الطحين والتسجيل ضمن قواعد معلومات الـمِنَحِ وطوابير استخلاصها بمختلف جهات ربوعنا. فالخوف من النهاية المحتومة مسألة وجودية بامتياز تندرج في صلب المعركة من أجل تواصل الحياة. لذلك ليس من المجدي في شيء انكار تلك الحقيقة أو القفز عليها.
كما أنّ العلاقة بالمقدس تمثل وفقا لما أثبتته دراسات علم الأديان المقارن ضمن مؤلفات «موس»، و»إلياد»، و»ديبرون» و»باستيد» و»جيرار» و»فياتمو» وغيرهم ركيزة من ركائز الحياة لا مرحلة من مراحلها. إنما مقصد الحياة أو الوجود هو تعبئة الطاقة إيجابا وتوجيه الارادات نحو صياغة مدلول واقعي للتكافل المتضامن تطويعا للوجود في مقاومة حتمية الموت والعدم.
8/ ماذا عن القيم؟
قد يتمثّل أهم درس تلقته الإنسانية عبر تحمّلها للتبعات المزرية بحرياتها ضمن واقع الوباء الذي نعيش، في الالتفات إلى القيمة السامقة لـ «سعادة الشأن اليومي»، وفق ما عرضه «ميشال دي صرتو» في مؤلفه الـمُلهِم حقا «اختراع اليومي». ففك عزلة الأفراد وبناء الثقة والتقارب والإحساس بالتواد وصناعة الفرح المبطل للنكد والتعاسة والسقوط في العدمية والإحباط، هي مربط الفرس في توجيه الثورة المعلوماتية حاضرا، والحؤول دون قدرتها الرهيبة على استغراق الافراد افتراضيا ثم سقوطهم في حبال الهشاشة النفسية والانطواء ومجابهة غول الانعزال والتعصب الديني والعنصرية العرقية.
9/ فلسفيّا ماذا يحدث؟
أعتقد أن أبلغ تعبير فلسفي بخصوص ما يعيشه العالم حاضرا هو ذاك الذي نستحضره من خلال متابعة الأدب الروائي. وهو ضرب من المقاربة بالحدس بوسعه وبكثير من المسافة، أو «بحكمة اللايقين»، وفقا لعبارة الروائي التشيكي «ميلان كونديرا» الرائعة، أن يندسّ عميقا في سمْك عوالم بني البشر النفسية والجوانية.
ففي كتاب «الضحك والنسيان» كما في اقتباس «بازوليني» لـ»ديكامرون» بوكاتشو»، نلاحظ حضور كثير من الخفة المُسلية والحكيمة في آن. إذ كلما نزل خطْب جليل بالإنسانية يدفع بها إلى الاستياء والضجر وارتفاع منسوب الرعب، فإنّ من يتمكنون من تجاوز تلك الأوضاع هم بالأساس من لم ينتابهم الجزع المُميت ولم يتخلوا مطلقا وبالرغب من تحوّطهم عن قدرتهم على المزاح، «فما ليس بالوسع تحاشيه يتوجّب على العاقل مؤالفته وتوقيّه». فلا الشقاء بالقدر المسلط ولا السعادة أيضا، وما قدرتنا على تجاوز الإحن( الشدائد ) إلا في صمودنا ومغالبتنا، تماما مثل من تعوّد الملاحة ضد قوة التيار طلبا لحياة تفرض نفسها بالرغم عن القسوة والشدائد. ففتح الأبواب قصد الهروب من داهم الأخطار يستوجب في أحيان كثيرة منتهى الشجاعة، غير أنّ تجاوز عتبة تلك الأبواب ومواصلة الطريق بهمّة وجلد يحتاج إلى بطولة في البلاء والصمود على الحقيقة./.
الأبواب ومواصلة الطريق بهمّة وجلد يحتاج إلى بطولة في البلاء والصمود على الحقيقة./.


حوار: كمال الهلالي


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire