jeudi 28 novembre 2024

مدن للعشق وأخرى للسّراب

سبق أن علّقت بعد الانتهاء من قراءة عروض الطاهر لبيب الواردة ضمن أثره البديع: "في انتظار خبر إنّ"، الصادر عن دار محمد علي بدعم من منتدى المعارف في غضون الثلاثي الثاني من سنة 2023 أنني: "لم أجد ... أفضل من مقولة فريدريك نيتشه: ينبغي أن نحمل في دواخلنا خرابا مدمّرا، حتى نُخرِج للعالم نجمة راقصة، حتى أعبّر بصدق عن أول ارتسام للحظة الفراغ من متابعة سحر نسج الكلم، حال استعادته لعافيته على سجاد ذكريات المؤلِف". ولما كنت لا أتحوّط على غير شعور غامر بالانبهار، فإن تقريض الدلالة، قد ألزمني الاكتفاء بانتقاء فقرات بعينها من مدونة المؤلف، في محاولة لتعليل ما افترضته حدسا بخصوص كُنه ما تبسّط لبيب في اجتراحه كتابة في مقام الروية أو عكس ذلك تماما، وهو تصرّف لا أظنني مقبل على مبارحته في خطّ هذه العجالة تكريما لشخصه واحتفاء بمنجزه أيضا. فقد ضمّن قبل الانتهاء من عروضه التي شكّلت باقة بسبع وثلاثين زهرة، اعترافا مُحرِجا يحيل على الطبيعة الخلاسيّة المربكة لما "اقترفه" ذاكرا:" لم أعد أعجب ممن حلِموا طوال حياتهم، بكتابة رواية، وانتهوا بالكتابة عن صعوبة كتابتها...هل في هذا رواية؟ هل فيه كتابة؟ لا أدري". (ص 231)، مضيفا وضمن السفر الثالث والثلاثين: "... دَوَّنْتَ بصعوبة ما تعيش، وعشت بسهولة ما تُدوِّن. هذا كل ما في الأمر"(ص 256). ثم وفي آخر صفحات أثره: "... كيف يعرف الكاتب أن ما كتبه هو ما أراد كتابته؟" (ص 287). استفهامان مربكان بخصوص طبيعة الجنس الأدبي الذي ينبغي أن نردّ ما استوى إليه الكلم حال تدوينه؟ وإقرار بفارق المسافة بين سهولة ما نعيش، قياسا لصعوبة ما نحلم بخطّه حول ذاك الذي عشناه. تلك في مطلق اعتقادي بعض من تساؤلات المؤلف حول محنة الكتابة، في توسّلها بالسرد القصصي، لتُكسب ما احتفظت به الذاكرة حول حمى العشق في حب الأماكن وانقلاب جميل الاحلام إلى مجرد سراب حال تكلّس الدلالة وفقدان المعنى لنظارته الأصيلة. ولأن المداخل المؤدية إلى فك شفرة الحكاية متعدّدة ومتشابكة، فالأسلم ردّ جميعها إلى بضعة أغراض لا تزيد عن خمسة، تَحْصِينًا لبديع مدلولها من شرور "النفث في العقد"، وإثارة لأسئلة ناسلة بدورها عن ذات الاستفهامات، تقلّب النظر في طبيعة العلاقة بين المعرفة وبين السقوط في غواية الابداع وشركه. فهل ينطوي تسريد لبيب على مفاتيح تُسعف في ردّه إلى صنف ابداعي بعينه؟ ثمّ ما مدلول الإلف والغربة في استعادة تشييد ذاكرة الأماكن والأزمنة؟ وأي سحر يمكن أن تنطوي عليه مثل تلك المغامرة؟ وهل يستقيم الزعم أن خبر إن في ادعاء الانتماء إلى العروبة قد نفق بَعْدُ في خبر كان؟ سُنن غير حميدة يفترض جورج لوكاتش أن الرواية في العصر الحديث تعبير مكافئ للملحمة في العصور القديمة، وأنها الجنس الأدبي النموذجي الذي ساد المجتمعات الغربية بعد عصر النهضة. أما كونديرا فقد توسّل ضمن مؤلفه "فن الرواية" بنثار من أعمال روائية تحيل على رؤية ضمنية بخصوص تاريخ هذا الفن"، في حين شدّد "ميخايل باختين" من جانبه على انتفاء كل إمكانية في المسك بتعريفً دقيق لهذا الجنس باعتبار واقعه المتطوّر على الدوام، مع قدرة فائقة على إعادة النظر في كل الأشكال التي استقر عليها. ولعل ما يُغري بارتياد مجال القص تحوّله بالتدرج إلى مجسّم ورقي يصوغ الروائي وفقا لشروطه حقيقة مجتمع كامل بجميع تفاصيله، مقترحا على متابعيه تصوّرات تحيل على الفلسفة، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والسياسة، وعلم الاقتصاد، مُقحما إياهم في دوامة لتمزّق المشاعر الناجم عن فيض جوانيّ، مردّه اصطدام مربك بجميع ما يمكن أن يشفّ عنه كل اجتماع بشري من تعقيدات متشابكة. وحده الماسك بناصية القول بوسعه تسخير تقنيات الحكيّ والتسريد قصد اجتراح نص روائي يتوفر على عافية الكتابة في هذا الجنس على الحقيقة. بالكاد نعثر حاضرا على مؤلِّف لم يجرب الدخول بقوة على فن التسريد، فقد أضحى الجميع من دون أي مبرر أو ملكة إبداعيّة حقيقية كُتّاب روايات، الجامعي، والصحفي، والناقد الأدبي، والشاعر، والأديب العصامي. جميعهم قرورا تجريب الكتابة في الرواية دون ثبوت موهبة، أو حضور مراكمة. فتحوّلت الكتابة الرواية إلى ما يشبه التقليعة التي يشفّ واقعها عن تعسّر الانتقال الرصين إلى ما يؤسس لنقلة أدبية حقيقية تحت سمائنا، لكأن هذا الاقبال على كتابة الروايات قد ارتبطت ولادته في العديد من المؤلفات المنشورة بعمليات قيصرية، أنجبت لنا ولدان مشوهين، أو أفضت إلى تكاثر عدد المتحوّلين الجنسيين الذين اتسم عبورهم بكثير من المعاناة الجسدية والنفسية. بيد أن الوفرة في النشر لا تعني أننا نعيش في واقع أدبي معافى، بل الأقرب إلى الظن أننا نستبسل عبثا في استسهال الكتابة، مع فهم خاطئ لجمالياتها. فتعدّد المقترحات الروائية بالمعنى الإيجابي غالبا ما تسنده مجموعة من العوامل الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تحيط بالكُتاب، وبواقع الكِتاب، والقارئ، والمكتبات، والإعلام الأدبي، والجامعة، والترجمة، وجميعها تعيش أوضاعا متعسّرة، إذ لا تنم طفرة كتّاب الروايات وتعدّد ناشريها ضمن المجال العربي حاضرا على ما يفيد قُرّائها، بل هي تشفّ وعلى العكس، على تراجع عدد هؤلاء وتحوّل الكثير منهم إلى مؤلفي روايات غالبا ما تكرّر نفس الثيمات الأدبية بمنتهى الرثاثة والرتابة. فقد أدى الازدهار المكذوب في صناعة الروايات إلى تشكّل واقع بائس غير قادر على التعبير بدقة عن تعدّد المآزق التي نحياها، أو إسهام حقيقي في الوعي بخطورتها. فالإسراف في كتابة الروايات غالبا ما يعكس تراجعا خطيرا للذوق وتبذيرا لغويا مُعدما للدلالة، يوشك لغوه أن يضرّ بأعين متلقيه من القراء. فقد ساد الاعتقاد خطأ بأن الانخراط في تثوير الساحة الأدبية يستقيم الاكتفاء فيه بمعطيات فنيّة تروم المسك بتقنيات الصورة أو معرفتها على أي وجه من الوجوه، دون قدرة على ردّ التخييل في العروض السردية إلى ما يرتضيه اجتراح المعنى المعافى الـمُمسك بمختلف ضروب المعارف، القادر على تكييف مكتسباتها أدبيا، مع توفر الالهام أو الاشراق في خوض تجربة الابداع، الشيء الذي أوشك على اغتال الأشياء الجميلة بالكامل، لكأننا نُسرج ألف شمعة، دون أن ينير ضوئها لنا الطريق. هذه اللوحة السالبة هي التي كانت -وفي ما شُبّه لنا- وراء شدّة تهيّب مؤلف "في انتظار خبر إنّ" من ورُود هذا الضرب من الكتابة الأدبية، لولا تمكّن غواية السرد من مهجته، كما حاجة من جاوز عقده السابع إلى تسريد ما انطبع على شغاف فؤاده من عشق للأمكنة وشوق لمرتاديها، فنثر ما التقطه دفعة، خوفا من أن تمحِي الأيام بديع صوره والصبابة، ثم كابد وعلى مدى عشرية كاملة من الزمن مشقّة تصويب مدلول ما اختطّ وتعديل لفظه، مُرتقيا بتنضيد الكلم وإنشاء بليغ الدلالة إلى ما يضاهي القطعة الموسيقية الخُلّب، المعافاة من كل نشاز. أي كان حال الطاهر لبيب مع ما انتهى إلى رسمه على مسطح أورقه، أفلا ينبغي ردّ ما أقدم عليه إلى ضرب من الغواية الآسرة المنقلِبة على سُسن المعرفة في اتصال علوم الانسان والمجتمع بأدب الحكاية والقصّ؟ روح الأدب الشفافة التي لا تقاوم لم يعد من النادر العثور على من فضّل من المشتغلين بالبحث في شتى المعارف السير على تماس أكثر من تخصّص. فقد تفرّع علم الاجتماع مثلا إلى عدة تخصصات سيكولوجية، واقتصادية، وثقافية، ودينية، وأدبية، وغيرها. في حين عاين علم التاريخ من جانبه تمدّدا شمل الانثروبولوجيا التاريخية، والجغرافيا التاريخية، وتاريخ العلوم الاجتماعية. ولئن احتفظ كل تخصّص بمحاذيره أو محرماته، فإن المحسوبين على مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية والأدبية داخل الجامعات قد تعوّدوا على صياغة مشاريع مشتركة يسّرت هياكل البحث أو مخابره المتخصّصة إنجازها، حتى وإن لم يترتب على ذلك أي تراجع فارق للاعتقاد في الطابع الرخو للعلوم الإنسانية مقارنة بصلابة ما سواها، مع عدم اكتراث المنغمسين في المعارف الأساسية بمنجز المختصّين في علوم الإنسان والمجتمع، وتهيّب هؤلاء من ناحيتهم من الاقتراب من العاملين في مجال الآداب باعتبار خلوصهم للقصّ والسرد العجائبي، فيما تمسّك صناع الابداع الأدبي ونقّاده في المقابل بافتقار البحوث العلمية إلى ما يؤسس في اختراع اليومي لأدبية ما نحي وما نعيش. والبيّن أن هذا التقسيم لا يزال قائما على تقليد أجناسي متأصّل يربط الشعر بعالم الأنوثة والإغراء، بينما يُحيل مجال العلوم على نوع من الذكورية المتّسمة بالشدة والصلابة. فقد دأبت الفترة الكلاسيكية على ربط السحر بالآداب الجميلة، وردّ الرواية إلى عالم النساء، بقلوبهن المجروحة، ودموعهن، وحساسيتهن المفرطة، وانخراطهن في أحوال العشق ونوباته. من هذا التقسيم بالذات نجم انخراط طوعيّ في تصوّرات غير دقيقة تفرّق بين انضباط المعارف العلمية، في مقابل اتّسام الآدب والفنون بالانفلات، ليُرغم المشتغل بالمعارف على الالتزام بنوع من الترفّع المكذوب الذي يأبى الوقوع في شرك الاعتبار بقيمة الفنون، فضلا عن الولوع بحميل الآداب. هذا التعارض بين الـمَشْغَلَين المعرفي من ناحية والأدبي أو الإبداعي من جانب ثان، هو الذي لم يقبل بطابعه الشكلي الافذاذ من الكاتب، فالتفتوا لاستكشاف عوالمهم الداخلية التي تفتح في تجربة البحث عن حقيقة ما تخفيه الافئدة وما تسكن إليه الأرواح، في تحريك المشاعر المكتومة والكشف عن دقائق التجارب وما يمثل مصدر هشاشة الذوات البشرية. وهو لو ندري عين ما تضمنته تجربة الطاهر لبيب المعرفية منذ أكثر من نصف قرن، أي منذ صدور أطروحته حول "سوسيولوجيا الغزل العربي...". فقد حقّق هذا الأثر الطريف في ضربه وبعد أن تُرجم فيما لا يقل عن أربع مناسبات إلى اللغة العربية، نقلة حقيقية في نظرتنا للحبّ وللغزل عند العرب، بحيث يستقيم أن نعتبر أنّ لا أحد، قبل مؤلِفه قد تحوّط على هذا القدر العالي من الالهام، مقترحا إمعان النظر في حكايات المحبّين بعد تفكيك رموزها وإعادة بناءها خلقا سويّا على الشاكلة التي تعقّلها الوعي الجمعي للقبائل والعربية، منذ أن شعُر بعض المحسوبين عليها تحت سماء الجزيرة العربية، بحاجتهم إلى قول الحب، كما لم يقله أحد قبلهم. وهو ذات ما ضمّنه قبله جون جاك روسو ضمن اعترافاته معتبرا: "أن ما ألجأه إلى خطّ تلك الخواطر البديعة هو الكشف عمّا حرك باطنه أو سريرته الداخلية إزاء مختلف الوضعيات أو السياقات التي قُدّر له أن يعيشها." (روسو، الاعترافات، الاعمال الكاملة، المجلد الأول، باريس 1959، ص 278). ومع ذلك فإن دارسة العالم الخارجي للاجتماع البشري لم تفارق حاضرا اتصالها بمجال المعارف العالـِمة، في حين ارتكز القصّ الروائي على توصيف حياة الشخصيات اليومية كما عوالمها الداخلية التي تفتح على احتدام المشاعر وعلى التقلبات الناتجة عن تمزقها العاطفي. وهو ما أماط اللثام - وفق ما استخلصه العارفون بفن القصّ- على حقيقة نسبية الفعل البشري وما يعتري ذلك الفعل من شكّ وتناقض وازدواجية، تصدّ عن المسك بشافي الحقائق وحاسمها. فما كشفت عنه عروض فرانز كافكا الروائية بخصوص حقيقة الذات البشرية مثلا، ليس بوسع أي عرض تخصّصي في العلوم الاجتماعية أو السياسية ادعاء المسك بتفاصيله. (كندورا، فن الرواية، منشورات غاليمار، باريس 1986، ص ص، 17-18 و138 - 139). أفلا ينطوي الاقبال على السرد الروائي، والحال على ما انتقيناه من أمثلة دالة على رافد عرفاني حيّر حضوره المشتغلين بالمعارف الإنسانية والاجتماعية، فقرّورا تجاهل جميع المشاعر والأحاسيس التي تُعلي من شأن المصادفة، والحدث الطارئ، والأبعاد الذاتية، في تحريك عظيم الوقائع أو الحدثان (مونى أوزوف، سرد الروائي وسرد المؤرخ، ضمن مجلة نقاش عدد 165، لسنة 2011، ص ص 13 - 25)، مُخفِقين في سبر ما يحرّك نويا الفاعلين وما يقف عند ردود أفعالهم باعتبارهم، إما ماسكين بمصيرهم، أو مُرغمين على القبول به. لا مراء إذا في القول بقدرة الفنون والآداب على مدّنا بعلبة مفاتيح تسمح كل استعارة دقيقة لمناويلها الطريفة بفتح أُفق مفارق يُسعف في مزيد فهم الظواهر الاجتماعية. وتلك فيما نزعم بعض من الدوافع التي شكّلت عن وعي أو من دونه، واقدا في الاقدام على صياغة "في انتظار خبر إن". ذلك الذي يصدق من منظورنا ردّه إلى ضرب أجناسي خلاسي يقع بين الرواية، والسيرة الفكرية، والقراءة الاجتماعية التي تُشرّح بمبضع جراح ماهر ماضي حواضر بلاد العرب وحاضرها، متوسّلة في جميع ذلك بما خلّفته عبقرية الأساطين من الأدباء وعيون أثارهم، من هوميروس إلى دانتي، ومن بلزاك إلى كافكا. ففي إنشاء هذا الضرب من الكلم المتكئ على "معارف الأدب" ما يشي برغبة في اقتراح دعوة مضيافة للنهل من المنابع الباطنية للإلهام. (يراجع للتوسع العدد 65 من "حوليات تاريخ وعلوم اجتماع" الفرنسية الدي تم تخصيصه لـ "معارف الأدب"، والصادر خلال الثلاثي الثاني من سنة 2010)، "أنا مهما خَذِتْنِي الـمُدن..." يقيم مؤلف "في انتظار خبر إن" مفاضلة ضمنية بين مجالين اعتباريين عاينا تجربتين مهمتين في تحرير الارادات والارتقاء بالعقول مشرق ومغربا، بحيث ينتابك حال تصفّح مختلف فقرات الكتاب وعلى ما ضمّنه المؤلف على ظهر غلاف كتابه: "... إحساس يتموج فيه السير بين تونس التي نزعت القناع عن ممكن تنكّر في صورة مستحيلة، وبيروت المدينة المعطاء التي تدعوك إلى ما تملك وإلى ما لم تعد تملك، فتنفصل الكلمات عن الأشياء وتهذي خريطة العرب." بيد أن لبيب مصرًّ على أن الوقوع في "شغف الحياة"(ص 247)، فرض عين في تعريف المعنى الجواني الدقيق للحواضر التي تسكننا، قياس لتلك التي نؤوب إليها مضطرين صاغرين. فها هو يبتكر من نسجه السردي ما يشبه التصميم، فيعرض علينا تقاطيع مدينة بيروت وهي شخصية كتابه المحورية، واصفا الامكنة مستذكرا الأزمنة. فقد بدا لنا ارتياده للأزقة والشوارع المتفرّعة عنها، وتجواله بين الكورنيش المشرف على بحرها وخراب حربها العبثية، والتنزّه في حدائقها، والتردّد على محلّاتها التجارية، ومقاهيها، وحاناتها، ومطاعمها، وفنادقها، ومقاصفها الكُثر، بمثابة نقاط استدلال على خريطة ليس بالوسع الاستغناء عنها، إذ في الكشف على طوبونيمات بيروت الوجدانية، كما في التعرّف على عادات سكانها لما يجري مجرى تدبير اليومي وأحكامه بالنسبة إليهم، صياغة متخيَّلَة لـ "خريطة لوّنتها أقلام تبحث عن مواقع فيها، جغرافية فارغة خطوط تستقيم وتتلوّي لا ناس فيها، أغلب شوارعها بلا أسماء..." (ص 49). هذا النوع من التسريد هو ذات ما نعثر عليه ضمن بديع توصيف السعودي محمد حسن علون ضمن رواية "موت صغير"، مثلا، لصورة بغداد المنعكسة على مرآة روح محي الدين بن عربي. فقد أورد على لسانه: "قضّيت أسابيعي ... في بغداد سائحا لا درس لي ولا كتاب. أخرج من البيت لأطوف في أرجاء المدينة لا أبغي إلا قراءة سطورها الـمَـخْفية تحت خطوات الناس، وكلمات الله التي كدّسها التاريخ في هذه المدينة قرنا بعد قرن. تقرأ الأرجُل أحيانا وهي تمشي أكثر مما تقرأ الأعين في بطون الكتب." (نهاية الصفحة 410 وما يليها) لذلك اصطحب لبيب في معاودة زيارة بيروت، "امبراطورية الكلمات" لرولان بارت، و"المدينة اللاّمرئية" لكالفينو، و"تقرير إلى غريكو" لكازنتزاكس، و"امتاع التوحيدي ومؤانسته"، و"شعر المتنبي" و"مواقف" النفري و"حديث أبا هريرة لمحمود المسعدي" و"ذاكرة النسيان" لدرويش، متشوّقا للقاء معلّق مع ما وسمه بـ "الحديقة المتهيئة للطيران ... [تلك] التي سطرها نخل وزهر ... وأرصفة وأناقات تستنسخ باريس "السنوات المجنونة"... أرواح جبران وهمسات ... نعيمة، حنين المهجر، وصوت فيروز ... مقطع رومنسي ... لا زمن فيه محدّدّا ولا جغرافيا ... صورة بيروت أغلبها من الشعر... لا مدخل لها من دون هُوامات ... فأوسع أبواب الدخول إلى المدن أساطيرها ... مدينة جُعلت للحبّ والكره، لا تعرف اعتدالا فيهما. حُبّها شغف، وفي كرهها طعم الموت. لا تحسّ بأنك فيها إلا إذا أحببت بإفراط ... [مع] قدرة [لا تمارى] على تحويل المفارقات إلى جنون." (ص 39 - 48). تلك صورة حول متخيّل بيروت انطبعت في وجدان المؤلف. صورة تتعارض -فيما بدا لنا- مع ما استقر في كيان لبيب عن حاضرة وطن الآباء والعشيرة والاجداد، وهو الذي اعتاد أن يؤوب لـ "صيفها التونسي". فقد اعترف الراوي أنه يغادر بيروت مشدودا إليها، لينقطع عند شواطئ تونس إلى ما أسماه بـ "مبدأ عدم الازعاج ... خاضعا لطقوس العزلة في الجماعة ... ليحسّ بفردانية تأخذها مأخذ الحرية أو مأخذ الغربة...مُنفصِلا عن البلد محكوما بأحكامه" (ص 135). شوارع مدينة تونس تتهيّب من كل تغيير: "محمد الخامس لا يزال نخله أجمل ما فيه، ومبنى الحزب الحاكم أعلى ما فيه ... وشارع بورقيبة لا يزال مستطيل الشكل، وإن نهشت المقاهي رصيفه. حواجز الأمن جعلت المشْي فيه متعرّجا. ازدادت فيه الأسلاك الشائكة شراسة...وابن خلدون لا يزال واقفا و"المقدمة" في يده، حجرة مسطحة ملساء" (ص 189) مشهد مملّ وشعور حاد بالغربة لا تقطعه غير متعة الاستماع إلى ذاك الذي "ينتقل ... في وصف الأوضاع والظواهر بين فصيح المجاز وما تخمّر من دارج العبارات"، تشدّك في قوله: "خيوط الممكن التي يمسك بها حدسا ... يشتم رائحة الثورة في فساد أصبح علنيّا ... وفي سلف طالح غلب الصالح." (ص 191). "شقي هو هذا البلد الذي يحتاج إلى بطل" أو قل "شقي هو البطل الذي يحتاج إلى بلد"(ص 222). ثورة تونس "لحظة نهد تعرى، بين قميصين ... بؤرة ضوء في عتمة عربية ... كلمة رقيقة في جملة ركيكة" (ص 241 - 242) "الثورة في الأصل حبّ ... لا يكفي أن نُشْعِلها يجب أن نعرف كيف نحافظ عليها ... أما السلطة فلا تحتمل الحبّ لأنه خارج قدرتها على الاكراه" (ص 230-231). دقيق هو تشبيه عيسى جابلي: لـ "بعض الكائنات بالفراشات، قبل أن تغادرك لا تنسى أن تخلع عليك ألوانها." "في أن تقول الحب مجدّدا كما لم يقله أحد قبلك..." في الكتابة عن الحبّ إعلان قوي عن تجربة روحية وجسدية استثنائية شديدة العمق، فقلب الانسان صفوة المعابد، إذا جاء منه الابداع، فإن كل شيء يكاد يسير على خير ما يرام. يكفي أن تتكلم تلك الـمُضْغَة، حتى يجد العقل أنه من غير اللائق أن يشهر في وجهها سيف الاعتراض. ذلك ما زيّن عربيا كتابات جبران خليل جبران، وأشعار نزار قباني، ومحمود درويش، وأنسي الحاج الذي حفل ديوانه الموسوم بـ "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" بعوالم شفافة أطاحت بكل فهم قديم للعشق والصبابة. فنحن نعثر ضمن قصيدة "ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة"، على استعارات مكثّفة تعكس رؤية العاشق لجمال من يحب، فتشبّهه بـ "المعصية الجميلة، وبالأميرة الشاردة المخمّرة في الكرْم، وبنبوءة تُرسل إلى الماضي". تُسَمِّيه "قمر أغنية"، أو "سهولة كل شيء حين نغمض العينين"، و"شمس تدوس العنب". في الكتابة الروائية ليس بالوسع الذهول كونيّا على بديع ما حبّره في العشق الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز في روايته "الحب في زمن الكوليرا". فقد تمكّن من خلال تعاريج حكايته المتشابكة التي غطت أحداثها حقبة امتدت بين القرن التاسع عشر والذي يليه، من التقاط العبارة المناسبة لتوصيف مدلول رحلة ما وراء الحب، أو الحب لذات الحب، وذلك نبوغ في السرد وسعة خيال لا تمارى. أما عربيا فقد ضمّن نجيب محفوظ مجموعة أقاصيصه الموسومة بـ "الحب فوق هضبة الهرم" الصادرة في نهاية سبعينات القرن الماضي، ‏مختلف التحوُّلات السياسية والاقتصادية والتغيُّرات الاجتماعية التي شَهِدها المجتمع المصري عَقِب مرحلة ما سمي لاحقا بـ "الانفتاحِ الاقتصادي"، مفكّكا ركوب المال على مختلف المعايير والقيم السامية في المجتمع المصري، وانقلاب المعارف والعلوم إلى عِبئ على أصحابها. فقد تمكن محفوظ من أخذنا بانسيابية إلى عالَم الأرواح، مُتفنّنا في عرض تعريفه للحب الذي بدا له سميّا "للموت تَسمع عنه كلَّ حين خبرًا، ولكنك لا تعرفه إلا إذا حضَر... قوةٌ طاغية تلتهم فريستَها، وتسلبُها أيَّ قوةِ للدفاع، تطمس عقلها وإدراكها، تصبُّ الجنونَ في جوفها حتى تطفح به. إنه العذاب والسرور اللانهائي." وهو ذات ما عرض لـِلَواعجه السعودي عبد الرحمن منيف في روايته: "قصة حبّ مجوسية"، لما أوقّف قرائه على احتدام شهوة فناء العاشق في لهيب المعشوق: "جلسَت، أخذت مكاناً بعيداً وجلسَت. نظرت اليها بارتباك. هزت رأسها وكأنها تصمّم على شيء أو تُغني. كنت أريد أن أجمعها بطريقة ما لأضمها في عيني... اخرجت سيجارة من حقيبتها. شمت رائحة التبغ. آه.. لو أن الشمس تحولت في يدي إلى جمرة. لو أن ذلك حصل مرة واحدة لأوقدت لها السيجارة واحترقت. كنت أريد أن أفنى. أن اذوب. لماذا لم اقترب؟ لماذا تركتها تشعل السيجارة والقداحة الذليلة تنام في جيبي كأنها جثة حمامة؟ ... وأنتم أيها الآباء المقدسون.. هل تُحَاسبون رجلا... لا يحمل في قلبه رغبة شريرة، يريد أن يشعل سيجارة امرأة حزينة ولا يستطيع؟ على هذا النحو تبدو الكتابة عن الحب من أساسيات الاشتغال بالآداب والفنون. فهي تكشف صدق الكاتب من عدمه، قابضة على لحظات إنسانية تتضمّن تجربة ذاتية عميقة، يحتاج ناقلها إلى امتلاك سعادة حضور التعبير عمّا يجيش بالخاطر من أحاسيس يعسُر ردُّها إلى شفرة دلالية متقاسَمة، تعكس في آن ما يختلج في أغوار ذواتنا من بؤس وحُبور. لكن ما الذي يعينه عشق الاماكن والاحتفاء بـ "شغف الحياة" في تحصين الذات من السقوط في شرك اللغو، ضمن مقترح الطاهر لبيب "الروائي"؟ لا شيء فيما نعتقد غير القدرة على تمثّل ممكنات تُطيح بكل مستحيل. فالحبّ في شرعه يحتاج إلى خيال، والخيال فسيفساء من الأكاذيب الصغيرة، يحتاج الكاتب في هندسة مبانيها وتخيّر معانيها وترصيفها بالشكل الذي يرتضيه إلى مُهلة استثنائية جاوزت في حق منجَزه عشريّة بأكملها، فلم يعُد يعنيه كثيرا بعد انقضاء تلك الآماد ردّ معروضه إلى جنس بحاله، قبل دفعه للناشر والاذن بسحب ما صدقّه الخاطر. فقد نسج لبيب لملهمته بيروت حكاية عشق بديعة حولتّها إلى "غرفة تتّسع لكل الألوان"، شكّلت ضمنها لقاءات العشاق وضحكاتهم وأفراحهم علامات لمدينة أخرى "غير بيروت الخرائط". (ص 163) فأنت "تصادف بها أناسا جاؤوا عناقيد رغبة، بعضها جفّفه العمر وبعضها ينفطر كالرمّان في الشمس". (ص 164) ". "... صبايا الجامعة يمشين بين الدرس وما يقول القلب في الهاتف المحمول ... روح بيروت نساؤها"، " نمطيّات هنّ، يولدن في لبنان، ويعشن الطفولة في إفريقيا الغربية، ويكملن الدراسة في باريس، نضالهن وطني، وزواجهن إيديولوجي، وحبهن عربي، يكتُبن لنسيانه، يُهاجرن ليعدن، ويعدن ليُهاجرن. عاشقات هن لصوت فيروز وألحان زياد، مع إفراط وجنون في كل شي." (ص 52) لذلك أهداهن لبيب مدينة على مقاسهن، فاستأنسن بنصه وأيقنّ أنهن فيه. (ص166). بالقلب نتحسّس كم هو "موجع في الحب نصف الحقيقة ... وأنه من العبث أن تواجه ما تبنيه امرأة من نمط الرجال في ذهنها، فلا يمكنك أن تنافس نمطا لست إلا واحدا من بدائله." (ص 206 -208). فـ "إذا [ما] شكّت المرأة في إخلاص رجل تحبّه [فإنها] تُسلِّم بنصف قلبها بأن الشكّ من قدر الحبّ (ص 252) ... مُوقنة أن النساء في وهم الرجال شبيهات بخطاف أعلن ربيعا وغاب، فلا هو عاد ولا الربيع جاء." (ص 208). وبعدُ، ما الذي بوسع الماسكين برسن الكلم بعد تعاظم منسوب اللغو وانتفاء عَفِيّ الدلالة، أن يخُطّوا أو يكتبوا تحصينا للغة الضّاد من انقراض وشيكا؟ لا شيء سوى "شغف الحياة... [تماما مثل ما هو حال] لبنان... إذا ضاق به مكان تجلّى في غيره." (ص 286) هل صحيح أن خبر إن قد نفق بعدُ في خبر كان؟ من الصعب ألاّ نصدّق واضع هذا المعروض في قوله بأن فقدان الدلالة واقد أصيل في استعار حُمى الكتابة أو نارها بين اضلعه؟ استهل لبيب الحكاية بمقولة لحكيم امبراطورية الوسط كونفوشيوس: "لو كان لي الحكم لبدأت بإعادة المعنى إلى الكلمات". فرحلة البحث عن المعنى تبدأ من استعادة ذكريات ما رسخ من تفاصيل ندوة أقيمت ببيروت للإجابة عن سؤال محيّر: "العرب إلى أين؟" قلت إن العرب يرون ماضيهم أمامهم لأنهم يمشون القهقرى إلى مستقبلهم ... فـ "أرعب حديث القهقرى ... بعض الجمل في نصي ... فتملّملت تحت عيني: "ثقافتنا اليوم تنتج اللاّمعنى ... ثقافة أجوبة لا تعرف الأسئلة ... لغتنا مهدّدة بالانقراض في لهجات بلدانها. إن حفظها القرآن فللدين لا للدنيا ... لغة لا تُستعمَل تموت." (ص 9- 10 - 11) لم يرْوِ لبيب تفاصيل ما عاشه يوم حضوره ندوة "العرب إلى أين؟" كما حدثت تماما، بل كما لو كان قد حدثت. فـ "منه ما اختلقه السرد، وحيلة السرد أن يُوهم بحدوث ما يروي... لذلك السبب لم تأت ومضات [ما قصه] متتالية، بل متشابكة، متزاحمة ... في شكل عناقيد [لم يكن له] في ترتيبها إلا تتابع الزمن... [بدايته] في أرض المنشئ، وما أطول الطريق منها [إلى هذيان محاضر سبق الاسم منه وشاح مختصر في حرفين أ. د، مدلولهما في منطق صادق التفاسير وفي لهجة أهل لبنان: "أدّ البعير هدر!" (ص 17). ولكن ما تعريف المعنى يا ترى؟ نقرأ في لسان العرب تعريفا بديعا: "معنى كل شيء محنته وحاله التي يصير إليها أمره." تعريف يمكن ألاّ يصادق عليه "الجاحظ، والجرجاني، ودو سوسير وراسّل ... وفتغنشتاين" [في تحديد معنى] "القول الذي لا يقول شيئا." (ص 30) رواية لبيب نص "من محض صدفة: من جملة ناقصة [نسج] من خلالها خطيب كامل خطبته. لو استقامت جملته لقال ما أراد أن يقول، فاستمع إليه [الراوي]، ولـما كان له ... أن يتذكر ما تذكّر ولا كان ما دوّن ... هكذا كان أصل النص لحظة إحساس بفراغ المعنى." (ص 271) لذلك فإن ما انتهى إليه التسريد على الحقيقة لا يعدو أن يكون تعبيرا عن "تراجيديا العلاقة باللغة" (ص 279) حال فقدان مستعمليها لأي صلة بالعالم فيما عدى إحساسهم بالغربة. يعمدون إلى استفزازها حتى تحوّل عجزهم على سبك عفيّ المعاني إلى سوء تفاهم مع العالم. (ص 280) فلا هم قابضون على خبر إنّ، ولا هم نافقون في خبر كان./. (مساهمتي في الاحتفاء بمسار الأستاذ الطاهر لبيب الحافل وبمعروضه الروائي "في انتظار خبر إنّ"، صدرت ضمن عدد خاص للحياة الثقافية، عدد شهر نوفمبر 2024).

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire