dimanche 11 septembre 2011

حدائـق خـلـفـية

هناك ضمن ما نكتب نصوصا يمكن ربطها بما قد تستقيم تسميته بالجانب المطل على الساحة، وهي تسمية تشير في الأصل إلى الجانب الأيمن لقاعة العروض في التقليد المسرحي الفرنسي، ذاك الذي يقابله يسارا الجانب المطلّ على الحديقة، والقصد منه حديقة القرميد أو التويلري التي استظافت العروض المسرحية المخصّصة للأسرة الحاكمة وحاشيتها بالبلاط الملكي. الطريف في هذه المسألة، اصطلاح الممثلين على تسمية هذا الجانب الواقع على يسار المتفرج تحديدا وفي استعارة بليغة بـ"جانب القلب" . حدائقي الخلفية ليست مُطلّة على ساحة الجدل العام، بل مجاورة للقلب، منصتة في غير استعراضية فجة عارية عن كل رغبة في إنتاج المعنى، لخلجاته. ما الذي يزيد في نبض القلب ويسرّع دقاته غير الكلف بوجه المعشوق إذ تبدّى لناظره، فيما عدا الشعور بنفس الاحساس الـمُشرَب بذات المعنى في استكشافنا لخفايا الوجود؟ ولأن إدعاء القدرة على عدّ تلك الاستجابات ينأى عن دعاوى الحصر، نكتفي هنا بما يشغل القلب منّا دون سواه، آملن أن توافق الشواغل هوى في نفس من يبتغي مرافقتنا. أما من لا تستهويه المغامرة، فالأمل أن يجد مبتغاه في الجانب المقابل من نصوصنا، وهو الذي قصرناه على الشواغل المشتركة لا الحميمة، وإلا فللمعنى مظان متعددة يمكن للسالك أن يقصدها متى صحّ العزم منه على معانقتها أو شد الرحيل إليها.



الحب المستحيل أو استكشاف الأبدية:



أولى حدائقنا إغريقية تأثثها سيرة "أورفى" الأسطورية. فقد أشارت الحكاية إلى أن تلك الشخصية المتحدرة عن كلف ملك تراقيا بوالدته المزواجة، ملهمة الشعر الملحمي كليوب، هو السبب في افتتانه بالعزف وبث الانجداب لما يصدر عن أنامله في تحريكها البارع لأوتار القيثارة بين وحوش الغاب وأشجاره وصخوره الجامدة. تبدو تلك القدرة الخلاقة واقدا دفع بالإله أبولون المولّه هو أيضا بجب والدته إلى إغداق الهديا عليه تقرّبا منها، على غرار قيثارة السبعة أوتار التي وصله بها والتي ضم إليها أورفي وترين قبل أن يسافر في البحر مع النوتية المغامرين من الأرغونوت، ليشاركهم بحثهم المحفوف بالمخاظر عن "الجلد الذهبي". فقد تكفل شدوه بشحذ عزيمة المجدّفين وتمكن سحر صوته من التغلب على فتنة أصوات عرائس البحر الآسرة وبلوغ مصر، ثم العودة مع نهاية تلك الرحلة المضفرة إلى بلاد الاغريق قصد الاستقرار بمملكة والده تراقيا.
يشكل حفل زفاف أورفي بجنيّة شجر الفلين أورسيد وفاجعته بفقدانها بعد أن أصابتها لذغة ثعبان في مقتل وهي بصدد الهروب من إغراء عشيقها والمنافس على خطب ودها أريستي، واقعة فارقة في حياة أورفي. فقد رفض الانصياع لحكم القضاء والقدر ولم يقبل بمرارة الفراق الأبدي، مُقدِما على المخاطرة بحياته من خلال النـزول إلى الأسافل حيث عالم الظلمة القاتمة وفناء الجحيم. لم يكن سلاحه في هذه المغامرة الماورائية غير ما كان يصدر عن أنامله من عفي النغمات، فقد أسرت موسيقاه حارس بوابة الجحيم وكلبها ذي الثلاثة رؤوس، كما رقّ لخطبه قلب زبانية الجحيم، فسمحت له وعلى عكس العادة بالاقتراب من إله الموت "هاديس" ومن خليلته "برسفون" تلك التي أنصفت أورفي مُقنعة خليلها بعدم الاعتراض على عودة "أورسيد" إلى الحياة ووضع حد لشقاء أورفي المعنىّ بحبها، تماما مثلما قبل تضرّع والدتها "دمتار" في إفناء كل حياة على وجه الأرض حال قضاء ابنتها كامل الشتاء بجواره، ودبيب الحياة فيها من جديد بعد انقضاء شهور الفصل البارد المؤذن بعودتها إلى حضن والدتها.
لقد قبل إله الموت خروج "أورسيد" عن عالم الجحيم ولحاقها بمحبوبها، شارطا أن لا يُلقي أورفي نظره عليها قبل أن تغادر تماما عالم الظلمة والفناء وتدخل عالم الشهادة والناس، وهو العارف بأن وَلَهَ المتيم الممزِق لأستار الموت لن يسمح له باحترام ما ألزم به نفسه من مهلِك التعهّدات. فما إن تبين لـ"أورفي" قبس من نور الحياة حتى استدار بنظره للتأكد من وجود مطلوبه وملئ أحداقه بجمال رفيقة دربه الأخاذ. ولم يكد يفعل ذلك وتمتد راحتها لتمسك بيده حتى لفّها الفراغ وانكفأ البصر منه خاسئا ذليلا.
لم يجد "أورفي" في مصابه بعد أن انقطع به حبل الامل في رجوع من أحب إلى الحياة، أي عزاء. فانتابه عندها حزن أخرجه من عالم الشهادة والناس وفصله عن متع الحياة. ولئن اختلفت الروايات حول حقيقة نهايته المأسوية، فقد أصرت الأسطورة على أن حواريات إله الخمر دينوسوس وسدنة طقوس عبادته هن اللاتي مزقن جسده إربا انتقاما منه على بقائه وفيّا لحب معشوقته. فقد عمدن إلى إلقاء رأسه في النهر حتى جرفته مياهه حيث جزيرة الشعر لزبوس. ورقّت لمأساته الملهمات، فجمعنا ما تبقى من أشلائه ودفنها عند سفح جبل أولمب. وتصرّ نفس الأسطورة إلى أن الرأس منه يصدر عنه وهو في الرمس أحيانا شدو فاتن مهيب، يذّكر الجميع بنشيد المحبة الذي لم يبخل هو بحياته من أجل إعلائه، فمنح ذاك النشيد لاسمه تعطُّفا الاندراج بأحرف بارزة في سجل الأبدية.
والمهم بعد هذا العرض السيري لمضمون الأسطورة التنويه بتشكّل تيار فلسفي ديني حول هذه الواقعة، ارتكز على توجه سلوكي يطلب الترقي بالتعويل على إثمار أنموذح مغامرة أورفي المواجه لآلهة الموت والجحيم، المتطلّع إلى كشف أسرار الحياة وأسرار ما بعد الوجود. فحتى وإن بقيت أسطورة "أورفي" غامضة سحيقة، فقد ساهم نزوله إلى الأسافل مغالبة للأقدار وبحثا عن استعادة معشوقته، في بروز عقيدة دينية سلوكية تطلب الخلاص للأرواح التي كانت عرضة للسقوط في ذنب بشريتها الأصلي، حاكما عليها بالانخراط ضمن دورة العود الأبدي أو الانتساخ الذي يحول بين الروح وإصابة الانعتاق من أصفادها، والذي لا يقترن فيها البشري بالمقدس إلا عبر الاقتداء بتجربة السلوك وهي تجربة نَسَبَت الأدبيات الشعرية الهلينستية أو الافلاطونية الجديدة مبادئها إليها.
يندرج الفرد بمجرد الولادة ضمن إطار الديانة الاغريقية المدنية، غير أنه لا ينتسب إلا اختيارا لمنظومة الترقي السلوكي الأورفية، لذلك يأخد مدلول التدين معنى محدثا يحيل بالأساس على السجل الشخصي لا الاجتماعي. فالاورفية لم تكون بالمرة مجموعة دينية منتظمة داخل العالم الاغريقي، إذ أنها غالبا ما عرضت نفسها وفق ما اثبتته الشهادات الأدبية المتباعدة من حيث السياق الزماني والاطار المكاني وعلى من آثروا اتباعها في شكل تيار ذو طبيعة فكرية وتأملية بالأساس.
ومهما يكن من أمر فإنه من الصعب تمثّل الوجه التاريخي لهذه الحركة إذا ما استثنينا اعتبارها تيارا روحيا ناقدا من الداخل لمنظومة التدين ولسجل القيم السائدة داخل المدن الدول الاغريقية. لذلك شكّل وقوع اختيار الفرد على نمط الالتزام الروحي المنسوب إلى الأورفية مؤشرا بليغا على انخراطه الطوعي في نوع من الهامشية الاجتماعية المجابهة للمنظومة الأخلاقية السائدة.
ينطوي المسرح اللاهي لـ"أرستوفان" وحوارات "أفلاطون" وشهادة "تيوفراست" أيضا على مخلفات أو بصمات للتيار المنسوب إلى أورفي ضمن التراث الأدبي الأثيني، حتى وإن تعذّر علينا حاضرا إدعاء القدرة على رسم تصوّر أولي لما يمكن أن نسمه بتاريخ تلك الحركة أو نسب أي قامة فنية أو أدبية أو فكرية إليها. فقد اندسّت التصوّرات المنسوبة إليها ضمن جملة من الأدبيات الفلسفية نخص بالذكر منها الفيثاغورية الجديدة والأفلاطونية الجديدة بعد تطويعهما بغرض التواءم مع المشترك الفكري وأنظمة التمثل العامة. كما أنه من دواعي المغالاة أيضا إدعاء تحول ذلك التيار إلى ديانة قائمة الذات، والحال أن الأورفية لا تعدو أن تكون حاضنة لمجموعة من التصوّرات حول الحياة وما يخبئه القدر للإنسان بعد الرحيل عنها. وهي تصورات انتشرت بشكل واسع لا يخضع إلى الدغمائية ضمن العالم الإغريقي الروماني، وقام المنتسبون إليها وبمحض إرادتهم بتطويعها لمختلف قناعاتهم أو ذاوئقهم الشخصية.
تتمثل العقدة المركزية للمثيولوجيا الأورفية في إقدام العمالقة أو "التيتان" على تصفية ديونيزوس، إذ يعتقد المتأخرون من المحسوبين على هذا التيار أن النشأة الأولى للجنس البشري قد ترتبت عن اللطخة الساقطة عن جثث العمالقة المصعوقين من قبل الإله "زوس" عقابا لهم عما اقترفوه من جرم في حق "دينوسوس". وتعمد تلك الاساطير إلى إدراج أسماء ذائعة الصيت لدى الاغريق على غرار "ديونيزوس" و"أورفي" و"زوس" و"التيتان و"برسيفون"...وغيرها، وهي أسماء لم تفقد جزئيا ومع تقدم الزمن جانبا من أدوارها الأصلية. فـ"برسفون المتأخرين مثلا، ليست مختلفة كثيرا عن تلك التي عرفها الأولين، فهي ملكة الجحيم وهي على ذلك أم إله الخمر ديونيزوس" لدى المنتسبين لتيار الأورفية. ويتمثل الهدف غير المعلن من وراء ذلك في الانقلاب ومن الداخل على" المنظومة الدينية الإغريقية، علما أن الالتجاء إلى أسماء جديدة من شأنه أن يحيط ذلك التوجه الانقلابي بكثير من التوجّس ويحول تبعا لذلك دون تحقيق المطلوب، مرجئا إمكانية حصوله.
تنطوي أسطورة نزول "أورفي" إلى الأسافل في محاولة لنقض الاقدار بإعادة معشوقته إلى الحياة إذن، على بعد وجودي يطرح قضية المصير الإنساني من وجهة نظر تأملية لا تخلو من توجهات تعبدية صوفية. فعودته من مواجهة آلهة الجحيم لم يُنظر إليها من زاوية شخصيته الملهَمة المتميزة بشاعرية استثنائية فحسب، بل ومن خلال عودته من عالم الظلمة محمّلا بمعرفة كشفية جديدة غير مسبوقة لدى غيره من جمّاع الأحياء من بني البشر المنذورين إلى مصيرهم المحتوم. لذلك شدّدت تعاليم هذا التيار التأملي الديني على محورية التطهّر من نزغة اندساس خطيئة العمالقة في النسيج الاصلي المقدس أو الطاهر لبني البشر، وهي نزغة أغاضت "برسيفون" فأوصدت أمام جميع المحسوبين على ذلك الجنس أبواب السكينة المقدسة، وحكمت عليهم بالتيه في حياة الجسد البهيمية، متوسلين بالنسيان قصد الاستعاضة عن أصولهم العلوية المقدسة وربط ذواتهم بالتناسخ كعود أزلي .
ويتضمن هذا الازدواج في الأصول، إحالة على قطبين في تكوين الذات البشرية: واحد مقدس لا يتعين أن يشمله النسيان، والثاني أرعن مسلوب لشهوة الخطيئة التي تدفع به إلى العصيان والانقلاب ضد كل تنظيم.
وهكذا يتبين لنا أن التقليد الأورفي الفيثاغوري وإلى حدود موفى القرن الخامس ق.م هو ما منح البشرية المتحضرة تشوفا حقيقيا إلى الخلاص من أصفاد ازدواجية المصير عبر إثمار السلوك الدافع إلى الاعتقاد بأن الروح البشرية سوف لن تخطئ في التعرف على ذاتها المطهّرة بعد نحاحها في المرور بصراط إلهة التذكر "منيموزين التي تمنح الروح قدرة على استعادة ذكرى وجودها الأزلي، مُسهمة في إطفاء ضمأها إلى التلبّس بالجسد الفاني والتمييز بين نبعين يقعان في العالم الآخر. يختص أولهما الواقع على يمين السالك بالمساعفة في استعادة الذكرى، في حين يغشو النبع الثاني الموسوم بـ"ليتي" والواقع على اليسار على البصيرة فيلفها النسيان وتفشل روحها في ربط الصلة بالأعالي المطهّرة.
" [ستجد على يسار مدينة "هاديس" [إله الأموات الخفي] نبع النسيان [ليتي)
وبحذوه ترتفع شجرة سرو أبيض:
لا تحاول البتة الاقتراب من هذا النبع
سوف يعترضك نبع ثاني تتدفق مياهه الباردة من بحيرة منيموزين [الذاكرة] التي يقف الحراس عند واجهتها.
قل: إنيَّ ابن الأرض والسماء ذات النجوم
أصولي مقدسة وهذا ما أنتن به عالمات...
عندها مع غيرك من الأبطال ستكون لك السيادة."
هكذا يتضح لنا تمحور اهتمام هذا التيار السلوكي على موضوع الخلاص الشخصي، وهو ما أساهم يقينا في استكشاف فكرة الفرد وعرضها كقيمة حريّة بأن يطالها الاهتمام التأملي الديني المتصل بمدلول الأبدية وعلاقة وجود الشخص في الوجود وحرية تصرفه في مصيره وعلاقة ذلك التصرف بصروف الزمن وأرزائه، فضلا عن الخوض في مدى
انصياعه لفكرة القضاء والقدر.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire