vendredi 16 septembre 2011

تونس ما بعد الثورة: راهنية النضال المدني ومأزق الانتظام السياسي مقاربة تاريخية





ليس من الهين وفي أعقاب الانقلاب الجذري الذي عاينته القيم الناظمة للفعل السياسي بعد ثورة قامت من أجل استرداد ما هُدر من كرامة أن يحدّد التونسي بوضوح وضمن واقع السجال الحامي والمحاذير الأمنية والاقتصادية التي تترصد البلاد الخط السياسي الذي يتعين عليه النضال من أجله. فبعد تسعة أشهر من حصول ذلك الصدع تفرّق التونسيون شيعا جاوزت المائة فرقة، ناكفت بعضها البعض عبر الاحتكام إلى جملة من التصورات والقيم والضوابط لا يفصل بينها عمليّا وفي تقديرنا الشخصي سوى الانتصار إلى المحافظة أو الدعوة إلى التحرّر.
يندرج هذا الإصرار على تعهّد مدلولي الأصالة والتفتح بإعادة التعريف في صميم الإرث النضالي التونسي سياسيا كان أم اجتماعيا، حتى وأن وجد نفسه اليوم أمام وضعية فارقة يتجاوز إطارها الواقع المحلي الضيق ليضرب للبلاد عامة موعدا مع التاريخ. وتُمثل الحرية وعمادها المواطنة القيمة المشتهاة تحت سمائنا، هذا الحلم الطموح هو ما راود التونسيين حال ظهور أول دساتيرهم في بداية ستينات القرن التاسع عشر وهو ذات الحلم الذي تضمنه دستور الجمهورية في أعقاب تصفية الاستعمار وإلغاء الـمُلكية عند موفى خمسينات القرن الماضي.
ولئن انخرط ما نعيشه اليوم ضمن نفس الأفق باعتبار إعلاء الاستحقاق الدستوري قصد تحديد ضوابط المنافسة وسقف الصراع أيضا بين مكونات المشهدين السياسي والمدني، فإننا نعتقد أن طبيعة المرحلة التاريخية الجديدة تقتضي الانتقال بالممارسة السياسية إلى أفق بديل يلغي الشرعية عن جهاز الدولة خارج إطار ضمان الحريات الفردية.
وللمرء أن يتساءل في ظل تصحّر المشهد السياسي التونسي منذ موفى ستينات القرن الماضي عن مشروعية الدعوة إلى إنجاز نقلة في الممارسة السياسية، والحال أن استبطان الحداثة لا يزال حكرا على غرب جحود ومتغوّل. إلا أن مثل هذا الاستفهام لا يصمد أمام التحولات السريعة الناجمة عن الحدث الثوري التونسي واستتباعاته عربيّا وكونيا. فالبيّن أن رعاب الدولة أو "فوبيا" الدولة، ومدلوله الدقيق الخوف من تعاظم هيمنة هذا الجهاز وانتزاعه لحرية الأفراد قد طال مجالا جغرا-سياسيا ساد الاقتناع غربا ولزمان بعيد أنه غير مؤهل للعيش خارج وصاية دولة الاستبداد الشرقي ذات النوازع الباتريمونيالية الصارخة، لذلك فإن ما نعيشه اليوم ضمن المجال العربي عامة يؤشر بطريقته الخاصة عن الصعوبة الحقيقية التي تصادفنا في تعريف مدلول الشرعية وممارسة الحكم، وهي صعوبة لا يمكن أن لا تذكّرنا بما جد خلال القرن الثامن عشر أوروبيا لدى تزايد الخوف من الحكم المطلق كشكل مرضي لممارسة السلطة السياسية، وكذلك الأمر حال وضع الحرب العالمية الثانية لأوزارها وتزايد الوعي دخل العالم الحرّ بضرورة القطع مع الكليانية في تمضهراتها المتعدّدة، فاشية كانت أو نازية أو ستالينية.
يحيل المجال التونسي، وهو إطار جغرافي لم يكن وعلى وضوح حدوده وبداهة الاستناد عليها حاضرا، بتلك الصفة حتى بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر موعد ظهور أول تمثيل خرائطي للبلاد التونسية، وهو تمثيل شكّله منجز القبطان الفرنسي "بريكو دي سانت ماري Pricot de Sainte-Marie" سنة1857،
على مدلول التَوْنسة، وعلى تساؤلات تتصل بمضمون الثقافة المادية وبطبيعة الحساسيات الفكرية والعقدية أو الروحية. كما أن التدقيق في خصوصيات ذلك المجال الجغرافي يحيل بالضرورة على خصوصياته الطبيعية (التضاريس والمناخ والنبات والحيوانات البرية والبحرية والمخزون المائي والمنجمي والطاقي والمزروعات والمنتجات الفلاحية) وعلى الإرث البشري المتصل بتاريخ التعمير وبمختلف الحضارات التي تعاقبت على ذلك المجال الجغرافي والتي شكلت منجزاتها المادية والفكرية والفنية ذائقة كبار أعلامه من ماغون Magon صاحب كتاب الفلاحة، وأبولي Apulée مؤلف كتاب المسوخ أو الحمار الذهبي، وسانت أوغستان Saint Augustin واضع كتابي مدينة الله والاعترافات، إلى خير الدين مهندس أقوم المسالك، وإتحاف أحمد ابن أبي الضياف، وتحرير محمد الطاهر بن عاشور وتنويره، وسد محمود المسعدي وتأصيل كيانه، مرورا بمدونة سحنون، ورسالة ابن أبي زيد، وموافقات الشاطبي، وعبر ابن خلدون، وتفسير ابن عرفة ومختصره.
بلورت هذه الخصوصيات مادية كانت أم لا مادية إشكالية حارقة لا تزال تعتمل بضراوة، مشكّلة ما قد تستقيم تسميته بشخصية التونسيين الأساسية أو رصيد مخيالهم الجمعي. وتتلخّص تلك الإشكالية في العلاقة التي تربط مُحدث التونسيين بقديمهم. فقد خضعت العلاقة بين مختلف مركبات النسيج الأثني والاجتماعي التونسي إلى حضور صراع بين جناحين متباعدين، إن على صعيد التصوّر أو فيما يتصل بالمنجز الحضاري. فبينما يبدو أحد هذين الجناحين حريصا على التواصل مع التقليد منصاعا إلى موروث السلف الموسوم بالانغلاق والتحجر، يبدو الثاني مدفوعا إلى الانقلاب على رتابة تلك التقاليد عاملا على جَبِّهَا حتى وإن دفعه ذلك التصرّف إلى الانزلاق في التفسخ وتلمظ مرارة الاغتراب.
ليس هنالك من مجال للفعل بالساعد كان أو بالفكر، إلا وقد لوّنه ذلك الصراع بين هذين الجناحين، فـ"البرانس" من البربر الأفارقة قد تهيّبوا من هجمات "البتر" المتنقلين، والمدرسة المسيحية الإفريقية قد واجهتها نحلة المزارعين "الدونتيين"، وأهل السنة المالكية قد عانوا انتفاضات الخوارج ومحن "أهل التشريق" من الفواطم أيام حكم العبيدين والزيرين، وإسلام "أهل الحق والجماعة" المنسوب إلى المالكية قد ورّطه إسلام أرباب الولاية والصلاح الموغل في حسيّة نزقة منفرطة.
والبيّن أن تراجع العصبية بعد استكمال القبائل العربية الوافدة على البلاد التونسية لاستقرارها في حدود القرن السابع الهجري/ 13م ، قد عوّضه الولاء على إثر الضربات الموجعة التي كالتها لها دولة "المخزن" (عنوان السلطة داخل مجال المغارب منذ حكم الموحدين) لذلك التجاء الملك إلى “الجاه”وهو في تعريف ابن خلدون: “القدرة الحاملة للبشر على التصرّف في من تحت أيديهم من أبناء جنسهم بالإذن والمنع والتسلّط بالقهر والغلبة”، مما أكسب صاحب الملك إحساسا بالجلال، وزاد في اعتقاد الكافة من رعاياه أن كل مقرّب من جلال الملك حاصل بالضرورة على منتهى الكرامة والمجد. فـــ”فاقد الجاه [وفقا لمنطوق البيان الحلدوني ]وإن كان له مال…يسير إلى الفقر والخصاصة ولا تسرع إليه الثروة وإنما يرمق العيش ترميقا”.
هذا التمثّل الـمَرَضِي لتغوّل الملك المسنود بالجاه هو ما يفسر في تقديرنا تحوّل مجال السلطة السياسية إلى بؤرة ضوء مُشعّة شكل القرب منها على الدوام وعدا صريحا بموفور العزة وواسع الثراء في ثقافة المغاربة السياسية، سواء ضمن التجارب المتعاقبة للسلالات التقليدية الحاكمة أو حتى في العديد من تجارب الدول الوطنية الحادثة بعد تصفية الاستعمار.
كان واضع "تاريخ العبر" على يقين من أن مجال التجديد قد فارق حضارة العرب بعد دخولها مرحلة الانكفاء والتراجع والانحدار منذ القرن الرابع عشر الميلادي، لذلك عمد إلى تشخيص الخلل وتحديد الأسباب التي أدت إلى انقلاب الأوضاع من خلال حوصلة أحداث الماضي واستنتاج ما حوته من عِبَرٍ، شكلت الأنساب، وأنواع المعاش، وكيفية التداول على الملك، واحتكار الوازع والجاه، العناصر الناظمة لها. فقد تم تشغيل الملك كمحور للحراك السياسي يحدّد تداول الأمم للوازع، ذاك الذي ارتهن في ذهن ابن خلدون بالحفاظ على قوة العصبية واحتكار الجاه بغية النجاح في الاضطلاع بدور الوساطة بين نظامي العمران البدوي والحضري.
حمل "إتحاف" ابن أبي الضياف صدى غير خاف لمختلف هذه التوجهات، ذلك أن ما سماه هذا الأخير بـــــ “رياح الوطن” قاصدا بذلك “الوطن التونسي” و”القطر التونسي” و”أرض تونس” وهي تسميات تكرّرت في الإتحاف، هو ما دعاه بعد أن استوفى صياغة لوائح وبنود الدستور إلى التصدي لمشروع مدونته التاريخية التي امتدت عملية تحريرها على عشر سنوات بالتمام والكمال (1862 – 1872). حيث بسط المحرّر القول في ما حرّفته الأقلام المأجورة بخصوص مسار تقييد الملك بقانون ضمن تجربة أمراء السلالة الحسينية بتونس.
شدّد صاحب الاتحاف على ضرورة مراعاة ما أسماه بــــ”حال الوقت” في مسار التدرّج في تطبيق “نظام الملك المقيّد بقانون” ناقلا عن ابن خلدون حججه في التمييز بين الخلافة والملك، مجيزا “الإنكار” وهو في راهن مدلوله حق إبداء الرأي في جميع المسائل المتصلة بالشأن العام عبر المشاركة في عضوية المؤسسات التمثيلية، معتبرا إهمال المسلمين لذلك سببا من أسباب ترديهم، رابطا بين ما نعته بـــ”الملك المطلق” المخالف للشرع والحكم القهري كما وصّفه البيان الخلدوني، ذلك الذي تتسع معه رقعة البداوة وتزول به فضائل المواطنة من نفوس الرعايا.
ولئن لم يشر مدلول الوطن بالقياس لمدلول الأمة في آداب المسلمين إلا لمكان الولادة ولم يتم تعقّل مصطلح “ثورة” كذلك إلا بمعنى الفتنة والفوضى والتقاتل نظرا “للبلبلة العظيمة” التي أحدثتها الثورة الفرنسية من منظور كثير من مصلحي البلاد العربية، فإن الحاجة إلى ذلك الإصلاح هي ما أعطى للانتقال التدريجي غير العنيف مكانة أرقى في ذهنيات النخب المتعلّمة المستبطنة لمدلول طاعة السلطان وخدمته بالمقارنة مع تهيبهم من معاضدة جميع أشكال التغيير الجذري أو العنيف. وهي أفكار يسهل العثور عليها لدي عدد من مؤرخي المشرق والمغرب ممن شكّلت تجربة الكتابة لديهم صدمة حقيقية وانسلاخا عن الاكتفاء بمتاح الفكر التقليدي، تشوّفا إلى إعادة امتلاك مقوّمات تفكير النهضة الأوروبية على غرار "عجائب الآثار" لعبد الرحمان الجبرتي (1753 – 1825) و"الاستقصاء" لأحمد بن خالد الناصري (1835 – 1897) على سبيل المثال لا الحصر.
والبيّن أن التصوّرات التي تضمنتها “مقدمة” الإتحاف الطويلة لم تشذّ عن هذه التوجهات، فقد التزم ابن أبي الضياف سواء من خلال تعريفه أو مناقشته لما أسماه بـــ “أصناف الملك في الوجود” بمبدأ توافق ما ندبه من الإصلاحات السياسية مع مبادئ الشريعة الإسلامية، متهيّبا من مغبة التعبير عن أي تصادم مع مقاصدها. فقد قسم ابن أبي الضياف الوازع ومعناه القوة الرادعة أو الغلبة إلى خلافة وملك، معتبرا أن “أصناف [هذا الأخير] في الوجود لا تتعدى أنماطا ثلاثة
ويعتبر مؤلف الإتحاف ضمن تعريفه بأصناف الملك في الوجود وهي: “الملك المطلق، والملك الجمهوري (وهو لَبْسٌ مقصود تحاشى من خلاله المؤلف التصريح بمعقولية وجود حكم جمهوري يكتفي بذاته عن اشتراط حضور خليفة)، والملك المقيد بقانون شرعي أو عقلي أو سياسي، أن “طباع الاستبداد” منافية “لإمكان التغيير” مما يستوجب شرعا وعقلا مجابهتها بــــ”الإنكار” و”المنع” دون حاجة إلى الدخول في الفوضى أو التعويل على العنف. كما يفرّق في حصول الجور بين “اليد المبسوطة التي لا تعارضها القدرة” في ظلم السلطان للرّعية، وبين “استعمال الإخافة لأخذ الأموال من قبل أهل الحرابة والعدوان”، لأن “المدافعة بيد الكل موجودة شرعا وسياسة”، في حين أن لجوء الحاكم إلى “العدوان على الناس في أموالهم ذاهب [مثلما بيّن ذلك صاحب تاريخ العبر] بآمالهم في تحصيلها…فإذا ذهبت…انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك…وقعد الناس عن المعاش وكسدت أسواق العمران…وهو القدر المؤذن بالخراب”. لأن ذلك يجعل أهل الخيام أكثر تهيبا من بناء المساكن وغرس الأشجار ومجاورة المياه والتخلّق تبعا لذلك بطباع التوحش المنافي للعمران، علما أن شدة التعدّي والقهر في جباية المال يفضيان إلى نقص في “الكماليات الإنسانية” لدى الرعايا، فينسلخوا عندها من طباع الأحرار وتنتفي عنهم الشجاعة والإباء والمروءة وحب الأوطان والغيرة عليها.
ولئن بدا لنا صاحب الإتحاف مدركا للتصوّر الخلدوني بخصوص الدورة الطبيعية لحياة الدول، وفاهما لعلاقة قيامها بالغلبة والعصبية، وآليات انهيارها المشدودة إلى إضعاف تلك العصبية قصد الانفراد بالمجد وانقطاع كل أمل في اكتساب الجاه خارج المحيط القريب من الملك، فإن مثل تلك الدورة المؤسِسَة لا تصح من وجهة نظره في غير سلاطين المسلمين، لأن دول الفرس أو ممالك النصارى وفق تعبيره – تلك التي “وقف ملوكها عند حدود العقل”- غالبا ما امتدت حياتها على مدى قرون متعاقبة. وهو ما ينهض حجة على أن قراءة ابن أبي الضياف لمساوي الإطلاق في الحكم لم تكتف بترديد قوانين العمران كما تفتقت عليها عارضة ابن خلدون، بل حاولت اختبار مدى إجرائية تلك القوانين في ضوء طارئ مكتسبات عصر النهضة ومقتضيات الإصلاح السياسي، الأمر الذي سمح له بتجاوز مدلول الشرعية المبني على الغلبة المعتضدة بالدين، معتبرا وفي إلماع ذو دلالة بليغة أن التمادي في الجور مؤذن بإلغاء الحاجة إلى الملك.
أما الدساتير أو القوانين فمعتَبَرة بما يُقصد منها من ترتيب الأمور، وهو أمر شدّدت عليه شهادات غيره ممن أسعفهم الحظ بمعاينه أوضاع ممالك الغرب المتطورة وتدوينها على غرار الشيخ رفاعة الطهطاوي والمصلح خير الدين. ولعل أبلغ ما تم إيراده بهذا الصدد هو الدعوة إلى التدرّج في سن القوانين تحقيقا لمقصد العدل، تأسيا بالخطط المتّبعة من قبل الدول القوية عبر التمسّك بالاستقامة وتوسيع دائرة العيش بإقامة المعامل والزيادة في الإنتاج وفتح باب المتاجرة بعد تأمين مسالكها البرية والبحرية والحديدية. ويسوق ابن أبي الضياف من بين الشروط الجديدة لشرعية الفعل السياسي وجوب تأسيس مجلس نيابي يتمثل دور أعضائه المنتخبين بالاقتراع في “الوكالة على العامة حفظا لحقوقهم الإنسانية بغير خروج عن الطاعة”، معتبرا أن صلاحيات أعضاء هذا المجلس بمقتضي شرعية التوكيل الذي بين أيديهم مُساءلة سلطة التنفيذ التي يمثلها الوزراء وبقية الفاعلين السياسيين. لأن الممالك “لا تكون على نهج الاستقامة إلا إذا كانت الدولة طالبة ومطلوبة”، والدولة المقيدة بقانون “طالبة لما لها من الحقوق الملكية ومطلوبة بما عليها من الحقوق القانونية”.
والمهم في جميع ما ذُكر هو التفطن إلى انعكاس هذا التجاذب بين التمسك بالقديم والإقبال على المحدث عبر استحثاث نسق الإصلاح، أو انطباعه على مؤسسات التحصيل المعرفي التونسية المنتجة للنخب السياسية أو العالِمة. فقد بدا وضخا منذ أواسط القرن التاسع عشر أن التعليم الرسمي الزيتوني قد اختُرق من قبل روافد عدّة تزايد تأثيرها بعد طي تجربة المدرسة الحربية بباردو سنة 1864 وإنشاء المدرسة الصادقية سنة 1875. كما زاد الحضور الاستعماري الفرنسي في حدة تلك المواجهة بعد مؤازرته تأسيس جمعيتي الخلدونية سنة 1896 وقدماء المدرسة الصادقية سنة 1906، فضلا عن توفير معهد كارنو الموسوم بالفرنسة فرصة للمتخرجين منه والحاصلين على شهادة الباكالوريا لاستكمال التكوين المتخصص بجامعات ومعاهد دولة الاستعمار .
طال ذلك الصراع بين قديم ومحدث الواقع الحركة الوطنية من خلال انقسام حزب الدستور بعد سنة 1934 إلى تنظمين متباينين تمكن أحدهما من التغوّل على حساب الآخر، مشكلّا وبالتدرّج قطب جذب لم تستطع مختلف ألوان الطيف السياسي والنقابي والحقوقي والنسوي بل والثقافي التونسي الخروج عن تأثيره سلبا وإيجابا على مدى الثلاثة أرباع قرن الماضية.
فالقراءة المتأنية في سير غالبية الفاعلين السياسيين والنقابيين والطلابيين والكشفيين والثفافيين وغيرهم، سواء خلال فترة الكفاح ضد الحضور الاستعماري أو حال انبثاق الدولة الوطنية واحتكارها لتصريفها الشأن العام، تكشف بيسر عن هيمنة حزب الدستور، الذي انصهر بعد الاستقلال مع الدولة، عامدا إلى توظيف شرعيته النضالية لتبرير إخفاقاته السياسية والاقتصادية على مدى خمسة عقود من بناء الدولة الوطنية.
ومهما يكن من أمر فإن حصول حدث الثورة واندراجه ضمن ذاكرة التونسيين الحية كمفصلة زمنية فارقة وانكشاف السيناريوهات المتاحة وتحوّل القصبة إلى بؤرة للضغط على بقايا النظام السابق بتعالي الأصوات الداعية صراحة إلى ضرورة القطع معه حسا ومعنى، هو الذي جعل جانب كبير من الفاعلين السياسيين يدفعون باتجاه استكشاف ما احتفظت به مؤسسة الدولة البورقيبية من رموز بعد اختبار القابل منها للاحتفاظ به قياسا لمن جاوزته الأحداث وأبلاه التقادم. ويعكس هذا التوجه الذي انطوى على قدر غير خافي من الحسّ السياسي العملي بالنظر إلى طبيعة التجاذبات المكتومة التي أفرزته، محورية الترميز في استعادة حد معقول من شرعية الفعل السياسي. إذ كشفت عودة السياسي بعد الإسراف في إقصائه عن حاجة إلى إعادة موقعته بشكل صحي، حتى وإن لم يخل ذلك من وعي بكارثية فراغ الساحة السياسية، دون القدرة على استيعاب السياق التاريخي الذي أدى إلى حصول مثل ذلك الضمور المفزع.
فقد حملت عودة السياسي إلى الصدارة في طياتها ذاكرة الممارسة السياسية تلك التي شملها التدوين، وهو دلالة بليغة عن حضور الفعل وانطباع صورته في ذاكرة من أنجزوه، مستأنسا حضور عبرة ما في العكوف على التدوين أو الانقطاع إلى النقل. وهو أمر بالغ الأهمية يؤشر الحرص على إتمامه على حضور إدراك لقيمة ما انطوت عليه التجربة الشخصية، وكذا الفائدة المنتظرة من تحويلها إلى متقاسم جمعي. (تنخرط مذكرات الوزير الأول الحالي التي تحمل عنوان "الأهم والمهم"، وهي الترجمة العربية لكتابه المنشور سنة 2009 باللغة الفرنسية la bonne graine et l’ivraie ترميزا على التفريق في الفعل البشري بين الخير والشر، ضمن أدبيات الفاعلين السياسيين البورقيبيين).
ومثلما كان مأمول فإن الوقْع الايجابي للاعتراف بمحورية الثقافة السياسية في تسهيل تصريف الشأن العام قد ولّد الإجماع من رحم الفوضى، وأكسب الممارسة السياسية أفق واسعا لم تفلح عقلية الانقطاع المكدود إلى العمل بتنويع الخطط الاقتصادية وحث نسق بعث المشاريع الجديدة بل والضخمة في تحقيقه.
نزعت ذاكرة الممارسة السياسية في إعلانها عن نفسها إلى تعْليم (والمقصود وضع علامة طبعا) مجال الخطاب السياسي باستعراض جملة من الأخبار تحمل مواعظ غير خافية عن كل أذن منصتة وعين بصيرة، وتبدو الاستعارة المعلِّمة للخطاب السياسي الرسمي حاضرا مشدودة ومع تمسّكها بموفور سجل التقاليد قرآنية كانت أم وضعية، إلى إعادة موضعة موقع الفرد في علاقته بالفعل السياسي.
فهل نجن إزاء عودة السياسي من بوابة الخطاب الوطني كما أرسته التجربة السياسية البورقيبية في إصرارها على إعلاء القيم الفضفاضة للوطن عن جميع ما هو سواها؟ أم أن الإيماء بالتمايز مع تلك المدرسة السياسية المجدِّدة من خلال الاعتراف في أكثر من مناسبة بالتوفر واقعيا على حدّ غير قليل من “نكران الذات”، تلميح ذو دلالة بليغة على تبدّل الأحوال وإدراك صحي لمسار الشعوب كما الأفراد المضني على درب التحرّر من ربقة المواضعات المفروضة الممثِلة بزعم مروجيها لوجهة نظر الجماعة أو الأغلبية صامتة كانت أم ناطقة؟
إن ما دفعنا حقيقة إلى استحضار جانب من الواقع المعقد للساحة السياسية التونسية حاضرا هو علاقة مختلف الفاعلين ضمن مشهدها المتعدد المشارب بالخطاب السياسي، من بوابة استعادة استكشاف موقع الفرد ضمن الفعل الجماعي. فخلال سنوات الاستقلال الأولى وحتى نهاية التجربة البورقيبية لم يكتب لما تمت مراكمته من تجارب - على قيمة ما أنجز بهذا الصدد- أن يتجاوز ومن منظور أفق التعبير عن الفرد، مستوى التشديد على تأصّل تقاليد المركزة السياسية من خلال ديمومة حضور جهاز الدولة وتعرية التوجهات الاستعمارية بالكشف على تهافت إدعاءاتها بخصوص سيطرة الطابع البدوي على التنظيمات الاجتماعية أو تعارض تعاليم الديانة الإسلامية مع مقتضيات الحداثة. لذلك تم التشديد سياسيا – وكما كان متوقَّعا- على ضرورة استعادة الدولة لهيبتها، حتى وإن لم يشكّل توافق الفاعلين حول مثل تلك الحاجة خروجا فاضحا عن ضوابط العلاقة التي ربطت بين المثقف ورجل السياسة كما أفاض في تحديد مقتضياتها علم الاجتماع السياسي.
على أن ما عاينته الساحة العامة منذ موفى الستينات من استقطاب بين بالفاعلين المدنيين ممثلين في مناضلي الحركات الطلابية والنقابية والحقوقية (وخاصة النشاط الرابطي والنسوي)، وبين الفعل السياسي الموسوم بالاستبداد والإقصاء الممنهج على مدى خمسين سنة، هو ما لوّن في تقديرنا الشخصي عشريات سنوات الجمر السياسي، محوّلا النضال المدني إلى رهان حقيقي، ومشكلا تجاوزا متميزا لمأزق الانتظام السياسي تونسيا. حتى وإن أدى ذلك التركيز على سجل الفعل المدني أكثر من أي شيء سواه، إلى إكساب مسألة "النضالية" بعدا جماليا يرفض أصحابه تحوّل النزول إلى الساحة العامة إلى ممارسة استعراضية مفصولة عن الواقع وليس لها من غرض سوى مزيد التسوية إلى أسفل. وهي حقيقة لم يكن أصحاب القرار السياسي والمحتكرين لصنعه تونسيا وحتى حصول الحدث المفصلي للثورة، ذاهلين عن أهميتها اعتبارا لموقعة الخطاب الرسمي - على إغراقه في الخشبية - ضمن إحداثيات نوّهت تضليلا بفتح مجال الحريات ودعم ثقافة حقوق الإنسان وصون المؤسسات والدفاع عن كونية القيم، مع أخفاق صانعي ذلك الخطاب والمروّجين له في التفطن إلى كارثية الهوة التي فصلتهم فكرا وممارسة عن معاني ذلك الخطاب، وتعطيلهم الصارخ وعبر تشغيل آليات “مخزنة” مستنسخة وانتهازية مَهِينَةٍ لتجدّد النخب السياسية سواء من داخل الجهاز الحاكم أو حتى من خارجه، بحكم الإسراف في التسلّط والمراقبة اللصيقة والوصاية السافرة.
هذا الواقع هو الذي تبدو عناصره وفي غياب أفق يعيد للخطاب السياسي ألقه الإنساني كما صاغ أسسه الاجتماع البشري غربا وشرقا، عصيّة على الفهم. وفي انتظار حصول ذلك فأن طبيعة المشهد السياسي التونسي ستبقى مرشّحة في غياب الحاجة إلى المراجعة أو المحاسبة الشخصية، وابتسار الفعل السياسي وثقافته في تشغيل آليات التخوين والتذنيب واستسهال التعويل على الإثارة الرخيصة، للوقوع في المزايدة والدفع باتجاه الانقلاب على إمكانيات التوافق المعترِف بالطابع الصحي للصراع consensus conflictuel وفقا لعبارة ميشال فوكو الرائقة، وتحاشي السقوط في المواضعات التوافقية les inerties consensuelles رغبة في التموضع ضمن الصفوف الأولى تحفّزا للاستفراد بالفعل والقرار السياسيين.
أليس في مشهد على هذه الشاكلة عبرة تُستجلى مؤيدها أن السياسة في المقام الأول مدرسة للسلوك العملي تكمن عبقرياتها بامتياز في استبطان عميق لثقافة المسائلة حال التصدر لتصريف الشأن العام، بفتح طريقا سالكة لفهم نفسيّة الأفراد استكشافا لما يعتمل في خلد “نحنهم الجمعي”، واستحثاثا للقبول بالحلول التوفيقية بالتعويل على التبسيط والتكرار وسعة الصدر. إنه فن الممكن يسوس الكافة للقبول بناقص الفعل البشري، مع اعتبار السعيّ للاحتساب أو طلب المستحيل مؤشِّرا بليغا على نقص شخصي بل وقلة نجابة في فهم المخاوف واستباق خروجها بالتعاظم عن الضبط.
وهكذا يتبين لنا إجمالا بإن توافق مختلف الفاعلين المدنيين والسياسيين على الاحتكام في الصراع إلى انتهاج الأشكال السلمية المتحضّرة، هو الكفيل وحده بتعديل التجاذب بين مختلف المتدخلين أو الفاعلين بوصفهم مواطنين مسئولين، وهو الطريق السالكة على درب ممارسة تعددية سياسية ومدنية حقيقية تُحتَرم ضمنها قوانين اللعبة الديمقراطية. فالتجاذب الدائم بين المقترحات المتعارضة للفاعلين ضمن هاتين الساحتين هو عماد الديمقراطية التوافقية التي تعتبر أن الغرض من الصراع هو بناء حياة مدنية فعلية سواء داخل الهيئات التمثيلية أو ضمن الإطار الموسّع للحياة المدنية.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire