vendredi 30 septembre 2011

بلاد الأفاريق ووطن التونسيين *




أفريكا وأخواتها:


اقتبست لفظة إفريقية من الأصل اللاتيني "أفريكا" إذ يبدو من الثابت أن تلك الصيغة مشتقة من الجذر اللغوي "آفر" وجمعه أفري، وهو ما أوردته المصادر اللاتينية القديمة التي تعود إلى ما قبل سقوط قرطاج بزمن طويل. فقد مُنح "سقبيون الأكبر" (235 -183 ق.م) بعد انتصاره على "حنبعل" في واقعة جامة سنة 202 ق.م لقب الإفريقي، كما وسَمت روما الأرضي الملحقة بسلطتها بــ"المقاطعة الإفريقية"، واعتبرتها وطن الأفارقة مع الفصل أحيانا بين أولئك وبين البونيين وهم سكان قرطاج في التمثل اللاتيني دائما.
لكن ما أصل كلمة أفريكا بالتدقيق؟
نحن نجهل تماما أصل هذه الكلمة، حتى وإن تشكلت العديد من الفرضيات بخصوص مدلول تلك اللفظة منها ما يمكن اعتباره أسطوريا، ومنها ما يمكن رده إلى أصول اشتقاقية أو ربطه باعتبارات جغرافية ومجالية.
إن الانتساب إلى أصل جوهر يحيل على جذور إلهية وبطولية وخرافية يجعل من أفريكا بلادا لأولاد "آفر"ابن ليبيا، سليلة جوبيتار أو نبتون. وقد يُربط "آفر" أيضا بهرقل ليبيا أو بكرونوس إله الزمن وكذا بالنبي إبراهيم. ولم يكن العرب أقل مدٍ لحبل الخيال فيما يتصل بتقصّي الأصول ممن سبقهم من الشعوب الوافدة على مجال المغارب، حتى وإن ارتبط إرثهم الأسطوري بالتصوّرات النَسَبِيَّة التي قادت طريقة نبشهم في الأصول، لذلك فإن علاقة الأفاريق بجدٍ مؤسس قد أحالتهم على أفريقس أو أفريقش. وهو تصوّر تبناه رواة الأخبار والجغرافيين لاحقا على غرار النسابة ابن الكلبي (ت 819م) والراوية ابن عبد الحكم (ت 871م)، الذي ندين له بأقدم الأخبار المتصلة بفتوح بلاد المغرب وإفريقية. فقد اعتُبر العرب البربر مشارقة كنعانيين أو حميريين، مؤكدين أن أفريقس هو من كبار ملوك اليمن على أيام سليمان الحكيم، وهو فاتح بلاد المغرب ومن أطلق عليها اسمه، مركّزا بها على وجه الاستقرار بعض قبائل جنوب الجزيرة العربية.
ويشدّد البلاذري في فتوحه نقلا عن هشام بن محمد الكلبي أن اسمه افريقس بن قيس بن صيفي الحميري. أما لدى غيره كالمسعودي في المروج، والبكري في المسالك، وياقوت في المعجم، فهو أفريقس بن أبرهة بن الرائش، على أن تحيله روايات أخرى وبالاستناد على الأساطير اليونانية اليهودية على الأنبياء التوراتيين، معتبرة أنه أفريق بن إبراهيم الخليل من زوجته الثانية فاتوراء. وهو عين ما ذكره البكري في المسالك وابن أبي دينار في مؤنسه، حتى وإن رد نسبه إلى سلالات توراتية مغايرة.
أما بخصوص الاشتقاقات اللغوية فقد أورت المعاجم على غرار تاج العروس للزبيدي أن الجذر اللغوي (ف ر ق) ومدلوله فصل، هو المعوّل عليه في حسم الدلالة في لفظة افريقية، اعتبارا لتفريقها جغرافيا بين مصر وبلاد المغرب، أو بين أوروبا وجزء من آسيا لوجود البحيرة المتوسطية، وفقا لتفسير الحسن الوزان في وصفه
لإفريقيا. بينما تذهب تفسيرات لغوية أخرى، على غرار ما أورده "إزيدور"، إلى ربط علاقة بين اللفظ اللاتيني "أبريكا" ومعناه الساخنة و"أفريكا"، وهو ما أقره مؤلف المؤنس وأوّله بِرَدِ معناه إلى لفظة بريق السماء وصفائها في اللغة العربية. كما تمت العودة بالأصل إلى لفظة "أ-فريك" اليونانية ومعناها بدون برد، حتى وإن ذهبت بعض التأويلات إلى اعتبار ذلك اللفظ متصلا بالتسمية القديمة لقرطاج ومعناه المركز المنفصل، أو المستعمرة المفصولة عن قاعدتها الفينيقية صور. وهو تأويل يفتقد إلى سند مصدري يُعتد به، فكلمة "آفر" ومشتقاتها أو أخواتها غير اللاتينية لم ترد في أي نقيشة بونية في ما عدا ردّها إلى معنى المغارة في اللغة البربربة، لذلك فإن تفادي المجازفة يقتضي القول بأن لفظ "أفريكا" قد يكون مشتقا من الجذر اللغوي السامي (ف ر ق)، علما أن الإغريق قد وسموا ذلك المجال بليبيا، فلا يبقى لنا عندها غير ربط تلقي الرومان للتسمية عن البونيين بعد الاحتكاك بهم وانتزاع قرطاج من أياديهم لتحويلها إلى مستعمرة تحمل تسمية "أرض أفريكا" أو "مقاطعة أفريكا".
بقي أن ندرك أن تردّد العرب في النطق بالتسمية، مرده قلة ضبط الحركات ضمن المعاجم. فتأرجح النطق بين التخفيف والتشديد في كلمة "أفريقيا" أو"افريقيّة"، هو ما دفع بالتدرج إلى إحالة الدلالة المخفّفة على القارة، بينما سُحبت نظيرتها المشدّدة على البلاد التي انتشر عليها المسلمون خلال الفترة الوسيطة، وهي مجال ترابي لازمه الغموض ولم تتضح معالم حدوده المدركة حاضرا إلا بشكل تقريبي. فقد طابقت الحدود الأصلية أيام الانتشار الإسلامي الأرض التي حكمها البطريق جرجير تلك التي امتدت من طرابلس إلى طنجة، حتى وإن نقل البلاذري في الفتوح فصل عمرو بن العاص الجليّ بين أرض طرابلس وأرض افريقية، مما يقوم حجة على أن نقطة الانطلاق في الانتشار قد سُحبت على كامل مجال المغارب، على أن يطرأ عليها بعض التعديل في مؤلفات الإخباريين المتأخرين تساوقا مع التحولات السياسية التي عاينها ذلك المجال الممتد، باعتبار توافق اللفظ في كلمة افريقية مع مجال الامتداد السياسي للإمارة الأغلبية، وهو ما شدّد عليه كل من البكري والاصطخري وياقوت والمراكشي واليعقوبي، وواصل غيرهم الإشارة إليه حتى حسم ابن أبي الدينار المسألة، مبيّنا أن تسمية افريقية على أيامه (أواخر القرن السابع عشر) لم تعد تشمل سوى سهل مجردة الموسع، وهو المعنى المستعمل حاضرا في توصيف مجال النجعة البدوية.
ومهما يكن من أمر فإنه يمكن الجزم بأن الرقعة الجغرافية لافريقية قد ضمت في نواتها الأصلية ولايتي البروقنصلية والمزاق الرومانيتين، على أن يشمل ذلك أحيانا مقاطعات طرابلس ونوميديا، مما يشي بحضور نوع من التلازم المربك بين الدلالتين الجغرافية والإدارية جعل الرقعة العائدة بالنظر إلى قاعدة القيروان ثم المهدية فتونس تمتد وتنكمش وفقا للسياق التاريخي، مُدخلا على تسميتها كثيرا من اللَبس الذي تلازم مع المرحلة التاريخية والسياق الزمني المقصود.

التونسيون أو مغامرة البحث عن وطن:


ما من شكّ في اعتبار حملة سنان باشا خلال خريف 1574 م مفصلة زمنية فارقة في تاريخ تونس الحديث، وهي التي أسهمت في وضع حدّ للحضور الأسباني، منهية الحكم السلالي للعائلة الحفصية. ولئن وضعت تلك الحملة حدا لحالة التجاذب المجالي من خلال سحب هوية مستقلة على البلاد وربط مصيرها قانونيا بالخلافة العثمانية باعتبارها واحدة من إيالات الغرب الثلاث، فإن تلك الوضعية القانونية لم تسمح بضبط الحدود الجغرا-سياسية لتلك الإيالة تلك التي بقيت رهن التشكّل على امتداد الفترة الحديثة.
ولعل في الحملات العسكرية التي نظمتها السلطة السياسية القائمة بمدينة تونس والتي استهدفت الوصول إلى نتيجة مزدوجة، تمثلت في ضبط الحدود مع الجارتين الغربية والشرقية وإخضاع بدو الدواخل (السعيديين والشنانفة)، ما يثبت انبثاق مجال خاضع للمراقبة الإدارية والضريبية لحكاّم تونس الأتراك، شكّلت دفاتر الدولة دليلا صارخا على طابعها الواقعي الملموس، مما يحسم الجدل في حضور علاقة تلازم بين الدفتر وبين قدرة الجهاز الإداري والعسكري للدولة الجديدة المتمركزة بتونس على مراقبة المجال الداخلي عبر تسجيل مختلف المجموعات المحلية المشكّلة للقاعدة البشرية للدواخل، مُثبتا تلازما في النشأة بين الدفتر والمجال الترابي، ومبرهنا على أن الطابع الهلامي للمجال يتنافي مع إمكانية تدوين الدفتر كدليل على المعرفة الميدانية بالمجال وإقرار بحقيقة سيطرة المؤسسات الإدارية والعسكرية للدولة عليه.
والمهم بهذا الصدد تلمّس ما عكسته ديباجة تلك الدفاتر المتصلة بالأرشيف الرسمي للدولة بخصوص تطوّر الصورة التي حملها ذلك الجهاز حول المجال الترابي الـمُخضع وكيفية تنظيمه بالشكل الذي يكفل حسن تصريف الأمور داخله. فقد أحالت الصورة التي عكستها عملية تمثّل ذلك المجال ضمن الدفاتر الضريبية على تقسيم ثلاثي للجهات ضم مناطق الشمال المرتبطة بفحوص تونس والممتدة ترابيا بين سهول ماطر وبلاد الدخلة أو الوطن القبلي فبلاد فريقه وسنجق الكاف، وجهات الوسط وضمت الساحل وسنجق القيروان، وبلاد الجنوب التي احتوت على منطقة الجريد وسنجق قابس، ذاك الذي وسمته الدفاتر أيضا بجهة الأعراض الممتدة بين مدينة قابس وتخوم ولاية طرابلس.
ما يلفت الانتباه ضمن هذا التقسيم الترابي هو البحث عن صيغة تمزج بين المورث المجالي للبلاد في تسميات افريقة والساحل والجريد، وإثبات الانتساب إلى هوية عثمانية حادثة من خلال استعمال التقسيمات العسكرية الاعتبارية لفرق المراقبة التركية في لفظة سنجق، فضلا عن اكتساب التسميات القديمة لمدلول ترابي محدّد، والقطع تبعا مع الإطار الجغرافي الفضفاض الذي شكلته سابقا. على أن جديد هذا التقسيم وإذا ما تملينا المسألة بشكل دقيق، هو بروز الحيّز الحضري لمدينة تونس كإطار ناظم للمجال أو كمنطلق في تشكّل القاعدة الترابية للدولة، بعد أن سيطرت البداوة سابقا على الحراك السياسي لقيام الدولة المخزنية الوسيطية مغربا. ومع ذلك فلئن عكست الدفاتر توجّها مطردا نحو مركزة عملية مراقبة الدولة للمجال، فقد حافظ هذا الأخير على تجزؤه حتى أواسط القرن الثامن عشر ولم يحمل أي تسمية تعكس توافقا ملموسا بين الموروث والمحدث، وتبرهن عن توصّل المجال الحضري والجهات التاريخية المستقرة لفرض سيطرة نهائية على مجال البداوة. وهي حقيقة لم تعاينها البلاد إلا مع حلول النصف الثاني من ذات القرن بعد أن تبلور مدلول الحكم الفردي للبايات، وعكست الدفاتر ذلك الواقع الجديد من خلال إعادة تملك لفظة افريقية عبر افتراض تطابقها مع حدود إيالة تونس العثمانية.
والبيّن أن عملية التدرّج باتجاه اكتساب تلك الهوية المجالية هي التي كانت وراء تخلي كتاب الدفاتر الضريبية للدولة على التسميات القديمة على غرار "محلة الهواء" و"وطن دار الباشا" والساحل والجريد واستبدالها بتقسيمات جديدة أحالت على القيادات أو العملات الحضرية كأوطان تونس وباجة وماطر ومثيلاتها بالنسبة لبقية الجهات الجغرافية للبلاد، الشيء الذي أدى - وفي تأخر ظهور التمثيل الخرائطي- إلى الاحتفاظ بتلك الصورة الكتابية الوحيدة بيد الدولة للحصول على تمثل منظور لمضمون سيطرتها الواقعية على المجال الترابي. ذلك المضمون الذي لعبت المدينة عبره دورا محوريا قلب التوازنات التقليدية التي شفّ عليها البيان الخلدوني حول تشكّل الدولة المخزنية طوال الفترة الوسيطة.
لم يقتصر تصوّر البنية الترابية لمجال الإيالة العثمانية الجديدة على ما رصدته فواتح الدفاتر و"برامجها"، بل شمل نظرة مؤلفي كتب الأخبار الموالين للحكّام والعاملين على تشريع سلطتهم وهم من بتّ في مدلول تلك السلطة الجبائي ومضمونه الترابي أيضا. ومن المفيد هنا الإشارة إلى سيطرة التكوين التقليدي على ذائقة الإخباري، وكذا للطابع التجميعي لتعامله مع الأخبار واقتفائه لدور الحاكم كفاعل في مقابل هدوء المجال المتماسك والقابل سياسة وشرعا لقرارات حكّامه، فضلا عن سيطرة سجل القيم الحضري على هوى المؤرخ الذي بقيت توجهاته وجميع مواقفه حبيسة التصورات الرسمية ولم تعبّر عن أي رغبة في تجاوزها أو الانقلاب عليها.
ولعل أبرز تحوّل يهذا الصدد قد تمثل في الميل إلى ربط الشرعية الحاكمة بمدى نجاح حكامها ومؤسستها في فرض التبعية ومد سلطة قهرهم الشرعية على مجال ترابي محدّد. غير أن ابتسارهم لمدلول الشرعية في البعد السياسي قد نمّ على ما سمّته بعض الأبحاث التاريخية بـ"الاكتفاء المجالي"، وهو ما يقوم حجة على أن محورية الجغرافية السياسية في انبعاث أو قل في "اختراع" تونس الحديثة وقبول التونسيين بمجال ترابي متسم بالضمور أو التواضع، قياسا لما عاينته بقية مجالات والكيانات السياسية المجاورة. كما يتعين التنويه عند هذا الحد بالنظرة المنحازة لجلّ الإخباريين الذين لم يرو في سيطرة مدينة تونس على بقية المجال أي تعاظم لدورها، حتى وإن لم تتوصل تلك الحاضرة إلى استيعاب أو وراثة نفس الأدوار التي لعبتها إفريقية في الفترة الوسيطة.
ومهما يكن من أمر فقد بقيت نظرة الإخباري حبيسة تقيم مرضي يجعل من الدولة شأنا خاصا بالأمير، مما ينم عن صعوبة القطع مع الموروث الثقافي والسياسي للدولة الإسلامية. فعلى امتداد القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تبلورت صورة المجال التونسي لدى كتّاب الأخبار متفاعلة مع صورة الأمير القوي الذي تحوّل إلى رمز "للمملكة". فقد عكست لنا الصورة التي نقلها صاحب الإتحاف مثلا عن أحمد باي، تمثّلا "مشخصنا" للمجال وبالتالي مساهمة في تدعيم سلطة الإطلاق التي أوقف ابن أبي الضياف تأليف مدونته على نقدها. والمضنون أن تفتح المؤلف على الفكر الإصلاحي في توجهاته المشرقية أو الأوروبية، هو الذي كان وراء إعادة صياغة تصوراته الفكرية بخصوص المجال، حتى وإن لم يرتق تمسّكه بالانتساب إلى تونس، التي ساوى بين حبها وبين الإيمان، إلى مرتبة التقديس، ولم يكن ميّالا، لا هو ولا خير الدين، لسياسة أحمد باي الاستقلالية، رغم تمسّكهما بضرورة إنجاز عملية إصلاح عميقة لهياكل الدولة المخزنية التقليدية، كي تنهض البلاد وتتجاوز صورة "المملكة الفقيرة حسّا ومعنى".
هذا بخصوص أدبيات المخبرين وأراء المصلحين، لكن ماذا بخصوص تجارب التمثيل الخرائطي لمجال الإيالة العثمانية أو المملكة التونسية تلك العمليات التي تزامنت مع الحضور الاستعماري الفرنسي بالجزائر؟
يتعين أن نضع في اعتبارنا شاغلين أو هاجسين أثرا بشكل بالغ على موقف حكّام تونس بخصوص هذه المسألة: أولاهما يتعلق بتطوّر تقنيات التمثيل الجغرافي بعد دخول الاستعمار إلى الجزائر وانطلاق عملية استكشاف ميداني ساهمت في إكساب المجال مدلولا ماديا غير مسبوق، وثانيهما يتصل بالكشف عن طبيعة الاستراتيجيات التي رافقت عمليات التمثيل الخرائطي والتدقيق في طبيعة العلاقات التي ربطت بين المهندسين الأجانب وبين الفاعلين السياسيين في كلا البلدين، والتي ترتبت عليها مشاكل اتصلت بالخصوص بضبط المسالك ورسم الحدود مع أجوار تونس الجدد.
عاينت عملية التمثيل الخرائطي لمجال البلاد التونسية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر تجربتين محوريتين عقبتهما منجزات خرائطية شكّلت في مجملها منجز شخصيتين هامتين هما: قبطان البحرية وقنصل الدانمارك بتونس بين (1821 و 1832) "كرستيان تكسان فالب"، والمقدم الملحق بالفيلق الثاني للجيش الفرنسي الذي تم إنزاله بإفريقيا بداية من سنة 1834 "بريكو دي سانت ماري". فقد تولى الأول انجاز تصميم لمدينة تونس وضاحية قرطاج مشفوعا ببحث ميداني إحصائي وتاريخي مع عملية قيس طوبوغرافي. ومكنت تلك التمثيلات من التعرّف بدقة على البنية الحضرية والأوضاع السكانية والرصيد الأثري والقدرات العسكرية البرية والبحرية لحاضرة البلاد تونس. كما استعان "فالب" في انجاز عمله بما حوته الخريطة التي وضعها الرحالة الانجليزي "توماس شو" للبلاد التونسية في أوائل القرن الثامن عشر (1727)، متنقلا بين بنزرت وتونس والقيروان والكاف وتبرسق وماطر وصولا إلى القصرين، مما سهل عليه انجاز العمليات الحسابية والهندسية الخاصة بأكثر من 265 نقطة ارتفاع، وإعداد أول منجز خرائطي جامع لجانب من المجال المستكشف للإيالة وذلك في حدود سنة 1839.
أما "بريكو دي سانت ماري" فقد التحق رسميا بتونس في نفس تلك السنة بعد أن كلفه الجنرال كلوزو القائد العسكري الفرنسي لجهة الشرق القسنطيني باستكمال تمثيل مجال إيالة تونس، مستعينا في ذلك بأعمال سابقيه، من "توماس شو" إلى "كرستيان فالب"، وهو ما تُوّج بوضع مجسمات خرائطية للإيالة أنجزت تباعا بين سنة 1842 وسنة 1857، وامتدت لتشمل مناطق شط الجريد غربا وتخوم طرابلس شرقا.
والأكيد بعد هذا أن هذه العمليات الاستكشافية قد حركت فضول السلطة ممثلة في شخص أحمد باي واستفادت من معرفة سكان البلاد بالمسالك والطرقات ونقاط النزاع بين مختلف المركزيات السياسية حول التخوم الفاصلة بينها. كما سهّلت على الجيش الفرنسي اقتحام البلاد التونسية لاحقا، وشكّلت لبنة أساسية في عملية وضع أول خريطة مستوفية لمختلف مقاييس التمثيل الجغرافي للبلاد، تم الانتهاء من إعدادها سنة 1891 وذلك بالتعويل على خرائط المسالك التي أنجزها الضباط الفرنسيون بين سنوات 1881 و 1887.
والظن عندنا أن استفادة الطرف الغازي من تلك الـمُـجسمات ودخول عملية إتمامها في نطاق خطته الرامية إلى ما وسمه بـ"الاستكشاف العلمي" للمجال تسهيلا لعملية استعماره واستغلاله، لا تنفي حصول انتقال ذو دلالة فارقة في معرفة النخب السياسية والعسكرية التونسية بطبيعة المجال والبحث على تمثيله بالشكل الذي يُسعف في تسهيل عمليات مراقبته واستكشاف تركيبته الجغرافية والسكانية، مع إعادة تملّك وعبر تدريب طلبة المدرسة الحربية التونسية على تقنيات التمثيل (80 خريطة لجهة الساحل وجزيرة جربة على مدى عشرين سنة)، للتمكّن من تحديد مقدّرات البلاد وجردها وتحويل ما حوته الحجج والعقود والاتفاقيات المبرمة ضمن وثائق الدولة إلى تمثيلات دقيقة ملموسة، من شأنها تسهيل مراقبة مجال البلاد بشكل أفضل، خاصة وقد بات من المؤكد لدى النابهين من أبنائها أن تعقُب الهزات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية لستينات القرن التاسع عشر مصاعب سياسية وعسكرية خارجية، أفضت في الأخير إلى وقوع البلاد تحت نير الاستعمار.
وهكذا فلئن تحوّلت صورة البلاد التونسية القريبة من عقل التونسيين ووجدانهم إلى مسلّمة بديهية متقاسمة لا تثير أي نوع من الغموض، فإن مدلولها الملموس لم يكن بتلك الدقة طوال مراحل ممتدة من تاريخ البلاد الطويل. والطريف في هذا الصدد أن انبثاق الدولة الترابية الذي عاينته البلاد بشكل جد متقدم، هو ما مكّن مجتمع المدن، وفق ما عاشته المجالات الأوروبية بالتزامن، من لعب دور أساسي في تشكيل الهوية الترابية التونسية تلك التي انطبعت أزليتها وبديهيتها حاضرا في ذائقة عامة التونسيين.

* يدين هذا العرض التوليفي في جوانب منه لما حوته الأبحاث الواردة ضمن أعمال ندوة
Perceptions de l’espace au Maghreb et ailleurs, Travaux réunis et présentés par Lotfi Aïssa, Université de Tunis, Faculté des Sciences Humaines et Sociales 2O11.
وبالتحديد إلى مقالي:
Fatma Ben Sliman, « De l’espace au territoire de l’identité, registres fiscaux et représentations de l’espace dans la Tunisie ottomane (fin 17ème – début 19ème siècles) », p. 83 – 100.
ومبروك الباهي، "صور مجال إيالة تونس في الأسطوغرافيا الحديثة" ص، 171 – 191.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire