samedi 22 octobre 2011

التونسة فناّ وإبداعا


ليس من السهل الحديث عن التونسة من بوابة العلاقة بالفعل الإبداعي. ولا يعود ذلك بالضرورة إلى نقص في الحسّ الجمالي أو حضور عائق نفسي يحول دون قدرة التونسي على تحويل الشواغل اليومية المتقاسمة إلى تعبير متسامي يعيد صياغة العادي من بوابة الإلهام الفني المجدّد والمتفرد، بل لعوامل موازية تحيل على تهيب من تجاوز الإجماع وخشية من تشغيل الجماعة لآليات الزجر ضد جميع من تشتم منه رائحة السعي إلى الانقلابية - وهي لب كل عمل إبداعي على الحقيقة- بصرف النظر عن المجهود الجمالي المبذول بغرض مجادلة السائد والرغبة في الارتقاء به أو تثويره.
ويستقيم الزعم بأن تصفية الاستعمار قد ساهمت في تعميق تساؤلات النخب الحاكمة الجديدة بخصوص أحسن السبل المفضية إلى تجاوز أسباب التأخر الذي طال العديد من الميادين؟ ولماذا تجد جميع الشعوب الفقيرة الخارجة لتوّها من التبعية نفسها إزاء واقع التناظر بين التحديث والتغريب؟ الشيء الذي أجج الصراع داخل مجتمعاتها بين أجنبية المحدث وأصولية الهوية المحلية، والتفريق في نفس الوقت، وضمن تمثّلات الفاعلين، بين التحديث الاجتماعي والثقافي وبين قاعدته التقنية والاقتصادية والمادية.
والبيّن أن تجربة التحديث ضمن بلدان العالم الإسلامي عامة قد طغى عليها التشنج. فلئن شملت البعض من مظاهر الحداثة النخب السياسة والاجتماعية والثقافية، فإن محاولات توسيع قاعدتها الاجتماعية غالبا ما أفضت إلى مواجهات خطيرة مع منظومة القيم التقليدية. فقد تم اعتبار تلك التوجهات داخل المجال الإسلامي عامة على أنها مسقطة من فوق، فرضها الغزو الخارجي ولم تنبع مطلقا عن حراك الفاعلين الداخليين. لذلك كثيرا ما أخذت تلك المبادرات في تصوّر غالبية الفئات الاجتماعية شكلا تغريبيا، مؤججة الخلافات ومنتجة مزيدا من الضغائن بين المتغربين ومن سواهم.
والبيّن في هذا الصدد أن هذا المسار لم يطل تأثيره إلا بعض مظاهر الحياة المعيشة السطحية، وعدد محدود من القطاعات الاقتصادية دون غيرها. كما أن الفئات الميسورة وجانب من كبار أعوان الدولة هم من انخرط شكليا في سياق ذلك التأهيل الفكري والثقافي، مما زاد في سخط المدافعين عن التوجهات المغالية في "الوطنية" أو في "العروبة" أو في "الإسلاموية"، مُضخما من الفوارق الاجتماعية ومُعمّقا مشاعر التفسخ الأخلاقي والذوبان الثقافي.
وبصرف النظر عن مدى صحة ما كنا بصدد زعمه، فقد حاول بعض العارفين بثقافة العرب وتراثهم إنجاز تحليل معمّق لبعض مظاهر تلك الأزمة التي طالت منظومة القيم الثقافية، فتبين أن مسار التحديث قد وضع الشعوب والدول المنتسبة إلى الثقافة الإسلامية عامة في مواجهة أساسية مع هويتها وقيمها الثقافية. فمن خلال دراسة الأشكال الأدبية والفنية الحديثة التي برزت في عالم عربي لم يعرف قبل قرن أو يزيد فنون الرسم والنحت والأدب والمعالجة الفنية الركحية والسينمائية بالمعنى الذي سحبته الحداثة على جميعها، تفطنت تلك البحوث إلى حضور قطيعة ضمن لغة التخاطب العربية حاضرا بين ما هو عصري / وما يحيل على التقليد، وتم الكشف عن حضور تناقض وعبر مختلف مظاهر الفعل الإبداعي كالمقال والرواية والموسيقى والفنون التشكيلية والمسرح والسينما...بين المتمسكين بالسائد والداعين إلى تجاوزه غالبا ما أدى إلى حصول تشنجات لافتة تحوّلت في بعض الحالات إلى التعبير عن تصلّب غير مسبوق للقيم الثقافية السائدة. ففي ظل مثل تلك القيم الثقافية التي لا يخلو ضمنها عاديُ الأمور من تمسّك مرضي بالتقليد، يُلحَق كل استثناء "يجرؤ على الزيغ" عن هذا الإطار، وفي متقاسم المجتمع الذهني إن بشكل مباشر أو بطريقة غير مباشرة، بأصول أجنبية. مما ينهض حجة على أن الحداثة لا تشغل عربيا وإسلاميا دور الإبداع الحر المثوّر لقيم المجتمع، بقدر ما تحيل مضامينها على النقل أو على المثاقفة، وذلك ضمن إطار تبادلي عقيم بين مفاهيم مشدودة إلى أصالة لا تخلو من حسّية وتسطيح، وقيم خارجية منقولة دون تدبّر عن ثقافة الأخر الغربي.
ويتعين إذا ما رمنا تجاوز مختلف هذه الملاحظات النظرية الأولية بوضعها موضع المعالجة العملية الملموسة، تقصي حقيقة الأمر من خلال التوقف عند مضمون الفعل الإبداعي التونسي في تمظهراته المتعددة سواء تعلق الأمر بضروب الفن التقليدي كالأدب الشعبي أو الإنشاد أو الموسيقى والغناء، أو بالفنون المحدثة على غرار الرواية والفنون التشكيلية والمسرح والسينما.

تقريظ التقليد واجترار السائد:


لا تنطوي الفنون التقليدية السائدة تونسيا على منظور عميق للحياة أو للوجود مكتفية بالاحتفال بالقيم
المتوارثة والتعبير عن تصورات لا يلغي التصاقها بطبيعة المعاش وتشوّفها إلى الخلاص، اتسامها بكثير من السذاجة والسطحية. فعلى صعيد الأدب الشعبي لا يتوفر التونسيون على سير فارقة إذ ما استثنينا "التغريبة الهلالية" بشخوصها المعروفة وخاصة "الجازية" و"العلاّم" و"بوزيد" و"ذياب" و"الخفاجي" و"الزناتي خليفة". أما على صعيد الأسطورة فإن حضور الحكاية ذات التوجهات الوعظية المكرّرة، تلك التي غالبا ما تحيل وتبعا لاتصالها بالذاكرة المشفوهة على واقع الفترة الحديثة المتأخرة، قد غيّب كل إمكانية في فسح المجال للتخيل الخلاّق الرافض للعادي المعوّل على العجيب. كما انطبعت الأغنية الشعبية بارتباطها الوثيق بمظاهر الاحتفال بمختلف مراحل الحياة على غرار أغاني الولادة والهدهدة أو "التربيج" والختان والأعمال اليومية والأعراس والرثاء. ولا تتضمن الأقوال والكنايات والأحاجي مضمونا بلاغيّا مخصوصا، معبّرة عن ندرة الرغبة في تجاوز القديم والاستعاضة عنه بالتجديد.
فالتعبير عن الفجاءة يحيل على ندرة الخروج عن النسق العادي المجتر وقلة اكتراث بما يفضي إليه الصراع حول الشأن العام. وتتلخص مظاهر التعبير عن البهجة في استقبال الأعياد أو وضع مولود ذكر وظهور غلة الفصل، مع تطيّر ملفت من نحس الألفاظ على غرار التعبير بـ"الصلح" على الغلق وبـ"الربح" على الملح وبـ"البصر" على العمى. أما الأمثال المستجلبة كـمركز للتعبير أو "محل الشاهد" والعظة الملخّصة للكلام، فمعظمها يتقصى دفع الضرّ والتنويه بالعمل والإشادة بقيم الشجاعة لدى الذكور وحسن التدبير وطاعة الأزواج في حق الإناث. بقي أن نعرف أن مضمون الشعر الشعبي وأغراضه، وهو ثمرة ارتجال لأهل النجعة والترحال، لا تتعدى التغزل بوصف لواعج الحب ومرارة الفراق وحرارة اللقاء، والتغني بعناصر الطبيعة كالبرق والمطر والصحاري الممتدة أو "الضحضاح" والمفاوز والوحوش، فضلا عن تعشّق للخيل أو "الكوت" وخوف من الإملاق والكبر وتهيّب مما تخبئه الأقدار. في حين ارتكزت أغراضه السياسية على ذم التفريط في الأوطان وتعظيم أهل المروءة والجلد والرافضين لحكم أعداء الملة على غرار "الدغباجي" و"بن سديرة"، والاستغاثة بشيوخ التصوف والصلاح والتقرب إلى الله بشأوهم قصد رفع الضرّ ونصرة بلاد الإسلام.
والبيّن أن جذور الإنشاد الصوفي تعود إلى الفترة الأغلبية حتى وإن لم تحقّق انتشارها الواسع إلا خلال فترة حكم الحفصيين. فقد برزت في هذا الصدد أذكار الطريقة الشاذلية وأورادها وأحزابها وبحورها التي توفّرت على تأثيرات مغربية غير خافية شكّلتها بالخصوص المشهدية التي تضمنها الإنشاد لدى أتباع الطريقة العيساوية. على أن هذا الضرب من العمل الصوفي لم يَخْلُ من تأثير الطبوع الموسيقية الأندلسية. كما أن حقيقة الأغراض التي دار حولها هذا النوع من السماع لم تخرج عن مدح النبي وإثمار سيرته وسير مختلف أرباب الصلاح، وهو ما وشت به قصائد المديح الكبرى على غرار "الشقراطيسية" و"المنفرجة" اللتان طعمتا من المشرق والمغرب بـ"همزية" البصيري و"بردته"، فضلا عن "دلائل خيرات" الجزولي و"ورده"، كما "مولدية البرزنجي".
وتتوفر مختلف حلقات الإنشاد الصوفي على عناصر موسيقية يتولى المنشدون الترنم بها دون استعمال آلات موسيقية كما في الإنشاد الشاذلي، أو بالاعتماد عليها على غرار الدف والرق والنغارات وغيرها من الآلات ذات الأصول الإفريقية كالقندي والقنمبري والشقاشق أو الكراكب، ضمن حلقات الإنشاد "الرحمانية" و"العزوزية" و"البوعلية" (نسبة لأبي علي السني دفين نفطة) و"العوامرية" و"سطمبالي" الأقليات السوداء المنسوب لطريقة "سعد شوشان". وتتضمن السلايمية الوافدة على البلاد التونسية من القطر الليبي أشغالا فنية متكاملة ضمت على ما حدّده العارفون بها "السليلة الذهبية" وهي أرجوزة باللغة العربية الفصحى تذكر مشايخ الولي وكبار أرباب التصوّف، و"سلسلة الفزوع" وهو قصيد بالعامية خصّص للاستغاثة بالأولياء الصالحين، و"التصلية" المقصورة على ذكر شمائل النبي، و"البحور" المتقصّية لمعاني الوعظ وتحقير الذات ومدح شيوخ الطرق الصوفية. وتُنشد جميع هذه الفقرات وفق إيقاعات بطيئة، مرتجلة في الطبوع التقليدية التونسية المستعملة في المالوف. أما "الشطحة" و"الختم" و"التهليلة" أو "الجذبة"، فجميعها عناصر يتسم إيقاعها وضمن الإنشاد السلامي دائما بسرعته قياسا لما تضمنه ما يسبقها من أناشيد.
ومهما يكن من أمر فقد أجمع المطّلعون على تاريخ الموسيقى التونسية على عراقة نوبات المالوف وهو توشيح ملحّن في إيقاعات قصيرة يتخلله تلوين في مقام أو أكثر وتغيرات في الإيقاعات تقطع مع رتابة وحدة المقام. واتصل هذا الضرب من الموسيقى تونسيا بتوافد المهاجرين الأندلسيين في موجات هجراتهم الثلاثة ( خلال القرون 13 و 15 و 17 م) وتأثر بالتدرج ببقية أنماط الموسيقى المحليّة والشرقية، وخاصة التركية والحلبية والمصرية.
ولئن اعتبرت النوبة تراثا مشتركا تعود أصوله إلى بغداد والأندلس، فقد حدد التيفاشي القفصي (ت 1253 م) عناصرها ضمن مؤلف "ممتع الأسماع في علم السماع" في "النشيد" و"الاستهلال" و"العمل" و"المحرّك" و"الموشح" و"الزجل"، ثم ما لبث أن أصبح ذلك اللفظ يدل على قالب موسيقي مشتمل على مجموعة من المعزوفات والموشحات والأزجال تؤدى في أحد المقامات أو الطبوع وتحمل اسمه. ويعود ترتيب النوبات التونسية إلى الباي محمد الرشيد (ت 1759م) الذي رتبها موسيقيا على قاعدة أربعة عناصر متتابعة هي "الاستفتاح" والمصدّر و"التوشية" و"الفارغة". كما أنه وبصرف النظر على النوبات تضمّن السجل الموسيقي التونسية المتأثر بالموسيقى الأندلسية والتركية والمشرقية الموشحات والأزجال والفوندوات والبشارف والسماعيات والأشغال.
وعموما ينقسم التراث الموسيقي التونسي حاضرا إلى متقن وشعبي أو فلكلوري. وتسيطر على الجانب الأول "النوبة" المرتكزة على المقامات في المالوف، بينما لا تلتزم الموسيقى الشعبية بنفس الترتيبات لذلك أصابها الإهمال ولم يتمّ التعامل معها بوصفها عنصر تراثي حري بالاهتمام والحفظ. وينقسم الموروث الشعبي إلى ألوان ريفية وأخرى حضرية، وتتسم الأغاني الحضرية بتركيزها على "الفوندوات" وأغاني الغزل والأفراح أو المناسبات السعيدة، فضلا عن حفلات "الربوخ" التي ترتكز على استعمال آلات موسيقية شعبية أشهرها المزود. أما الأغاني الريفية أو البدوية فمن آلاتها "الزكرة" و"القصبة" و"الفحل" و"الطبل" و"البندير". ويشتمل الموروث الغنائي الشعبي على أنماط متعددة من بينها "الجحافي" المرافق لهودج العروس جنوبا، بينما يشكّل الأداء الجماعي وارتفاع الطبقة خاصيّة تُفرّق الغناء الشعبي عمّا سواه. وتتسم الإيقاعات البدوية ببساطتها مُحتوية على العديد من الموازين على غرار "البوحلّة" و"البونوارة" و"العلاّجي" و"المربع بدوي" و"السعداوي" و"الجربي" و"الفزاني".




والبين بعد جميع هذا أن واقع الحياة الموسيقية والفنية في تونس قد اتسم طوال النصف الأول من القرن الماضي بالتجاذب بين ما هو وافد وما هو أصيل. فقد أثرت المدارس الفنية المشرقية على ذائقة النخب الحضرية، بينما سيطرت على ساحة العمل الفني فرق "العوادة" التي كان أغلب عناصرها من اليهود والتي عرفت لدى عامة الناس بأغانيها الماجنة والهابطة. ويبدو أن هذا التردي الذي تزامن مع دفع السلط الاستعمارية باتجاه فسخ الذائقة العربية بالتوسع في نشر الأنماط الموسيقية الغربية نحاسية كانت أم كلاسيكية، هو الذي كان وراء الدفع باتجاه إحياء الموروث التونسي وذلك عبر بعث جمعية أدبية وفنية تعنى بالشأن الموسيقي أطلق عليها تيمنا اسم الرشيدية (نسبة إلى الباي محمد الرشيد الحسيني المعروف بولعه الشديد بالموسيقى) وذلك في أواخر سنة 1934، أي بشكل متزامن مع التحولات التي طالت الحركة الوطنية وتطوير العمل النضالي داخل حزب الدستور. وليس بعيدا أن يكون للحراك الذي عاينته النوادي العامة على غرار الزوايا، والخاصة على غرار المحلات الحِرَفية وكذلك المقاهي، أدوار مكمّلة بل ومفصليّة أحيانا في هذا الصدد. ومن أكثر المقاهي شهرة مقهى "تحت السور" أو "سيدانه" أو "خالي علي" بربض باب سويقة بحاضرة تونس الذي ارتاده جم من الرواد ذوي التكوين العصامي الموازي للمدارس المنقلب على رسومها، المشدود إلى الآداب والفنون والمؤمن بدور القلم في نفض الغبار على الذوائق، مع انحراف مقصود باتجاه كره النسقية وأخذ الحياة من جانب المغامرة الوجودية والتسكع وحتى البهيمية.
ومن بين أولئك برز بالخصوص الأديب والروائي "علي الدعاجي" الذي عرض ضمن أحد مقالاته الصادر بُعيد وضع الحرب العالمية الثانية لأوزارها للواقع اليومي لتلك المقاهي، مشدّدا على ما ألمعنا إليه من تجاذب في الذائقة الفنية من خلال توصيف نسق العمل ضمن تلك الخلايا الاجتماعوية حيث يترنم نادل المقهى بأغنية شرقية مبتكرة وفق نغمات أغنية شعبية تونسية هابطة، وهو تهكم مقصود يلمع إلى تعجّب "الدوعاجي" من كيفية إعادة تملك الذائقة التونسية للفنون الوافدة، بل وتوفقها إلى المزج بينها وبين هابط مغناها رغم انتفاء الصلة بين الضربين بالكلّية.
تمكّن هذا التيار وفي ظروف مأسوية غلب عليها الضنك والمرض والحاجة وانسداد الأفق إلى تشكيل شبكة شغل ضمنها التصعيد الفني دورا محوريا. فقد حصل تلقي طريف غير مسبوق بين كتّاب كلمات الأغاني والملحنين والمؤدين والقصاصين والروائيين والفنانين التشكيليين والصحفيين والمناضلين النقابيين والوطنيين غيرهم، كان هدفه القطع مع القديم وبناء علاقة صحيّة بالحداثة تجادل الأصيل، غير متهيبة من جبّ ما أبلاه التقادم تجاوزا لواقع الإسفاف المعمم والتردي الفكري والفني الذي أوشك أن يحوّل البلاد إلى حديقة أو متحف فني لم يعد يصلح ومن وجهة نظر الثقافة الاستعمارية إلا للمعاينة الاستشراقية.





المخاض العسير للحداثة الفنية:



بالتوازي مع هذا المشهد الفني الذي طغت عليه الاتباعية وعول على اجترار القديم، برزت حركة فنية يافعة شملت العديد من ضروب الفعل الإبداعي الحديث المفصول في نشأته عن المجال الثقافي المحلي والمعروف بطابعه التجديدي المنقلب على التقاليد، استوقفتنا من بينها أدبيا الرواية، في حين بدت لنا الفنون التشكيلية والركحية والسينمائية حمّالة للعديد من المؤشرات الدالة على عسر المخاض وصعوبة التعاطي مع حرية التعبير كشرط ضامن لجمالية الإبداع .
ولئن حاولت بعض الدراسات النقدية المتصلة بفن الرواية ربط ولادتها بأرضية محليّة من خلال التشديد على أهمية الرواية ضمن الموروث الديني والحضاري العربي في استحضار القصص القرآني والسيرة النبوية والولوع بجمع النوادر والحكايات العجيبة والمقامات والرسائل الأدبية، فإن تعويل الرواد على الترجمة واقتباس الأعمال الروائية الأجنبية عن "تولستوي" و"شاتوبريان" وغيرهم أو الحنين للماضي الإسلامي التليد، يكشف ضمن محاولات الروائية لـ"حسن حسني عبد الوهاب" و"صالح السويسي القيرواني" "السهرة الأخيرة" و"الهيفاء وسراج الليل"، وهي أعمال تعود إلى أوائل القرن الماضي، عن غياب الاصطدام بالحاضر والرغبة الجامحة في تثويره، مثلما شفّ عن ذلك الجزء اليتيم من مشروع "الصادق الرزقي" الروائي "الساحرة التونسية" المنشور في حدود سنة 1915 الذي يصحّ اعتباره البذرة الحقيقة في توجيه الفعل الروائي التونسي توجيها يغلب عليه البعدين الواقعي والنضالي.
ومهما يكن من أمر هده البدايات المحتشمة فقد تشكلت ملامح الرواية التونسية خلال ثلاثينات القرن الماضي مع جماعة "تحت السور" وتحديدا مع ظهور نصوص "علي الدوعاجي" "جولة في حانات البحر الأبيض المتوسط" و"شارع الأقدام المخضبة" الذي لم ير النور. وحتى وإن عوّل "محمود المسعدي "على الشكلانية اللغوية مستلهما التيار الفلسفي الوجودي، فإن نصوصه الأدبية لم تخرج رغم طابعها الذهني المهيمن عن تمثّل للتجربة الوطنية التونسية من بوابة الفعل النضالي الشخصي سواء في "السد" أو في غيره من النصوص الروائية الأخرى من "حدث أبو هريرة قال" إلى "مولد النسيان". لذلك نستطيع القول دون تهيب أن النصوص أو التجارب اللاحقة على غرار روايات "المطوي" و"منيف" و"خريف" و"الفارسي" و"جنات" و"الحمزاوي" و"الحابري" فضلا عن أعمال "عبد القادر بالحاج نصر" و"محمد الهادي بن صالح" و"الناصر التومي" و"البشير بن سلامة" وغيرهم، قد شكّلت في أغلبها ذائقة لجيل تأثر على صعيد التوجه الإبداعي والجمالي بتوجهات واقعية وتقويمية ونضالية غير خافية.
وإذا ما عوّل جيل المؤسسين على استيعاب تقنيات السرد الفني كما طوّرتها إبداعات الروائيين الغربيين والمشارقة، فإن ذلك لم يمنعهم من احتذاء منهج التجريب الذي تقاطع ضمن مشاريعهم الفنية مع اقتناعهم بدور الروائي النضالي داخل مجتمعه. ويبدو هذان العاملان محوريان في التوجهات التجريبية التي قادت "عز الدين المدني" ضمن فصول قصته الروائية "الإنسان الصفر"، حيث برز بجلاء الاهتمام بالكلمة والدفع باتجاه تناصّ مع الخطابين التراثي والديني، بالإضافة إلى المعرفة الواسعة بالتطوّرات التي طالت الفن الروائي كونيا والتي برزت بالخصوص ضمن أعمال "بروست" و"كافكا" و"جويس" و"فولكنير" و"ساروت" و"روب غرييه" وغيرهم، وهي ذات التوجهات التي عبّرت عنها الأعمال اللاحقة في روايات "إبراهيم الدرغوثي" و"سمير العيادي" و"رضوان الكوني" على سبيل المثال لا الحصر.
ومهما يكن من أمر فإن تصنيف الروائيين التونسيين المعاصرين يثبت وفقا لما أبرزه العارفون بتاريخ هذا الفن حضور أصناف ثلاثة، تتصل بالروائيين المنسوبين في بدايتهم إلى كتابة القصة كـ"محمود طرشونة" و"الحبيب السالمي" و"حسن بن عثمان" و"حسونة المصباحي" و"ظافر ناجي" و"عبد الواحد ابراهم"...) وأضرابهم ممن جربوا طقوس الكتابة الشعرية قبل الإقدام على كتابة الرواية كـ"حافظ محفوظ" و"عبد الجبار العش" و"فضيلة الشابي" و"محمد علي اليوسفي"... ) ومن لم يُعرف عنهم فنيّا غير كتابة الرواية كـ"فرج لحوار" و"صلاح الدين بوجاه" و"آمال مختار"...)، بصرف النظر طبعا عن أولئك الذين لم تتوفر تجاربهم الإبداعية على أكثر من بضعة أثر مُعلِّم أو واعد أو اثنان كـ"عروسية النالوتي" و"محمد رضا الكافي" و"كمال الرياحي"... ).




وبالجملة يمكن القول أن فن الرواية تونسيا وإن لم يحقق طفرة عددية ملفتة وانحصرت عناوينه في بعض المئات وكميات سحبه في بعض الآلاف من النسخ، فإن مبدعيه لم يعرضوا على اقتفاء التنويع من خلال البرهنة على تجاوز الكتابة النمطية وتجريب المضامين النفسية والعاطفية والذهنية والوجودية، بصرف النظر عن تمسكهم الملحوظ بالخط الواقعي النضالي الذي سيطرت عليه توجهات اجتماعية وسياسية لا يمكن أن تغفلها كل عين بصيرة.
نفس هذا التقييم يمكن أن يصدق بالنسبة للفنون التشكيلية التي كان لحضور الجاليات الأجنبية ولسلطة الحماية الفرنسية دور أساسي في بروزها. فقد عاينت البلاد بداية من 12 ماي 1894 م تأسيس "الصالون التونسي" الذي حرص القائمون عليه على تنظيم عرض سنوي للفنون التشكيلية كُتب له التواصل حتى سنة 1984. والملاحظ في هذا الصدد هو تمسّك الأعمال المعروضة خلال المرحلة الاستعمارية بالذائقة الفنية الفرنسية مع إقصاء مقصود لجميع ما سواها. وهي توجهات تحيل عليها الأعمال المستجلبة من فرنسا أو الوافدة من المستعمرات الفرنسية بمجال المغارب، وكذلك تلك المنجزة بالبلاد من قبل رسامين أجانب على غرار لوحات أندري ديلكروا André de La Croix ولومونيي Lemonnier ورودولوف ديرلنجي Rodolphe d’Erlanger وأرمون فرجو Armand Vergeaud وألكسندر روبتزوف Alexandre Roubtzoff، وجميعها أعمال تحيل على تيارات فنية وتشكيليّة كسدت سوقها ضمن منابعها الأصلية كالأكاديمية والانطباعية المحدثة والوحشية، ولم يعد لها من ملجئ غير المجال الاستعماري.
لذلك يمكن أن نزعم أن نشأة الحركة الفنية التشكيلية قد تمت على هامش الثقافة التقليدية المحلية وتحت تأثير التيارات الفكرية الغربية، حتى وإن لم تعدم إبداعات الفنانين التونسيين العديد من المؤشرات الدالة على تأثرهم بالتراث الجمالي العربي الإسلامي في فنون العمارة والرقش والخزف والسجاد والتجليد والرسم على الزجاج وبقية الصناعات الحرفية ذات الصلة.
إلا أنه وفي تعارض مع جميع هذه الفنون والقيم الجمالية والروحية الجماعية، يضع التعبير الفني ذي الأصول الغربية الفنان التشكيلي قبالة اللوحة كي يعرض فوق مساحتها البيضاء تأويله الشخصي للعالم. لذلك نزع الرسم المسندي إلى الخروج من قصور أمراء البيت الحسيني لينفتح تذوّقه وعبر إرساء تقاليد العروض التشكيلية السنوية للصالون التونسي على شرائح أوسع ضمت ميسوري المدينة ومتنوريها من المتعلمين، تمكنت من التعرف على أعمال فنافين تشكيلين طليعيين على غرار الكسندر فيشي Alexandre Fichet الذي ترأس الصالون التونسي على مدى 53 سنة وأرمان فرجو Armand Fargeaud الذي شغل منصب مدير مدرسة الفنون الجميلة، فضلا عن لوحات روبتزوف وبيار بوشارل Pierre Boucherle وهنري دابدي Henri Dabadie وموزيس ليفي Moses Levy وغيرهم.
على هامش هذه المعارض السنوية أو في إطارها بدأ الفنانون التشكيليون التونسيون خطواتهم الأولى على غرار "الهادي الخياشي" و"عبد الوهاب الجيلاني" و"يحي التركي" و"عبد العزيز بن رايس" و"على بن سالم" و"حاتم المكي" و"عمار فرحات" و"عمارة دبش". أما الجيل الثاني للفنانين التشكيليين التونسيين فقد انتمى في معظمه إلى "مدرسة تونس" التي أسسها "بيار بوشارل" والتى التحق بها بالإضافة إلى "يحيى التركي" و"عمار فرحات"، "جلال بن عبد الله" و"عبد العزيز القرجي" و"الزبير التركي" وغيرهم. وحتى وإن تنوّعت المسارات الفردية لكل واحد من أعضاء تلك "المدرسة" فقد اتفق أغلبهم على جملة من القيم الجمالية مع توفر جميعهم على قدر لا يستهان به من الانضباط والتماسك.
والأكيد أن ما جمع بين مختلف تلك التجارب الفنية المتباينة هو التأثّر بالقيم الفنية التقليدية في استكشاف جماليات المنمنة كما عند القرجي، والإفادة من الرسم على الزجاج والخط العربي وتقنيات الحرف الشعبية، كما تشف على ذلك أعمال علي بلاّغة، ورواية العالم اليومي التونسي في إنسانيته بخطوط مجرّدة وعمق تأملي شعبي لافت، كما في لوحات الزبير التركي. لذلك نستطيع القول بأن الفضاء الجمالي لهذه المدرسة قد علّم نظرة دولة الاستقلال إلى الفن، مُساهما في صياغة القيم المادية والروحية للوطن الناشئ.
ومهما يكن من أمر التماسك الذي أبداه الفنانون المنتسبون إلى تلك المدرسة، فقد اخترق الاختلاف أو التباين في الروئ أعمالهم الفنية وبحوثها الجملية بعد أن تأكد توفر الجماعة على تيارات تحيل على التجريدية والتعبيرية والسريالية وغيرها، مُقتنعة أن الهوية لا تكتمل بتحويل قيم البيئة إلى اللوحة ضمن إطار حكائي سردي أو رمزي، وأن الابتعاد عن التناغم مع البيئة وتجاوز المضمون الحكائي لمظاهر الحياة اليومية هو الكفيل وحده بتمكين الفنان من التعبير الحر دون قيود قصد الإفادة من التجارب التشكيلية العالمية.




والبين أن هذا السجال الفكري والفني قد أدخل حركيّة على الوسط الفني وفرض على الرسامين التشخيصيين مزيد الاهتمام بالمشاغل التشكيلية الصرفة، وكذلك بوسائل الانجاز وتقنيات التكوين الفني. وتعبر أعمال "الهادي التركي" الذي عرف بتأثره بالمدرسة التعبيرية التجريدية الملهمة لـلرسام الأمريكي "جاكبسون بولوكJackson Pollock " (ت 1956) عن علاقة معقدة بين الواقع والتجريد تحيل في تعويلها على الشفافية على حس صوفي. ومن بين التجارب التجريدية المحايثة في هذا الضرب من الرسم التجريدي تستوقفنا عوالم "الحبيب شبيل" و"رضا بن الطيب" و"عمر بن محمود" و"حبيب بوعبانة" و"رفيق الكامل" الذي أثرت أعماله وتوجهاته الفنية في أجيال من طلبة مدرسة الفنون الجميلة بتونس. وحتى وإن تراجع بريق هذا التوجه التجريدي في الرسم مع موفى السبعينات وعادت التشخيصية ضمن تيارات جديدة على غرار التعبيرية والفطرية، فإنه سرعان ما عاد التجريد إلى احتلال مكانة متميزة ضمن أعمال الأجيال الجديدة للتشكيليين على غرار "رشيد الفخفاخ" و"الحبيب بيدة" و"أسماء منوّر" و"آمال بن نيس".
ولا تخرج التجارب التأصيلية وفي خطيها البنائي والحروفي على هذه التوجهات التجريدية. فقد شدد "نجيب بن الخوجة" على ضرورة ربط الأعمال التشكيلية التونسية بالتيارات العالمية وذلك من خلال موقف نقدي يرفض الإتباع، محاولا الاستفادة من العناصر التراثية في الخط والعمارة وبناء علاقة ثابتة ومتكررة بين الخطين المستقيم والمنحني في إحالة ضمنية على الخط الكوفي. بينما انتحى "نجا المهداوي" توجّها حروفيا يرتكز على التأثير البصري للتكوينات مع الالتصاق بتقاليد الخط والزخرف الإسلامي الذي يحيل على الحيّز الجمالي التقليدي.
أما رواد التشخصيّة المحدثة الذين واجهوا مدرسة تونس على غرار "محمود السهيلي" و"الحبيب السعيدي" و"البشير لخضر" و"الصادق قمش" و"عادل مقديش" وغيرهم، فقد رفضوا تحلّل عناصر الواقع واندثاره في المادة واللون مفضلين اختزال تلك العناصر وعرضها بطريقة تغلب عليها عوالمهم الذاتية. لذلك اعتبرهم العارفون بتاريخ التجربة التشكيلية التونسية أصحاب مشروع جمالي عوّل على التقنيات الفنية التي تسمح بها التيارات التعبيرية والسريالية والتشخيصية المحدثة والفن الفطري، بغرض عرض صورة تحليلية أو توليفية للواقع يتداخل ضمنها ووفقا لميول الرسام الوجود الخارجي للأشياء والكيفية الباطنية لإدراكها.
كما ضمت التجربة التشخيصية الجديدة تونسيا تجارب حالمة منقطعة عن التفاعل مع البيئة وهو ما عبرت عنه مناخات "البشير لخضر" و"فتحي بن زاكور" و"فؤاد الزاوش" و"أحمد الحجري" الخاصة.
بقي أن ندرك الدور الذي لعبته تجارب الرسامين الفطريين الممزوجة بكثير من الحنين إلى معالم المدينة القديمة ودفء الحياة العائلية التقليدية، مع تحرّر من القيود التقنية المغرقة في الاستكانة إلى الضوابط الأكاديمية المكبّلة، وذلك ضمن تجارب "البغدادي شنيتر" و"علي القرماسي" و"محرزية غضاب" وغيرهم. هذا بالإضافة إلى ما قدمته التجارب التشكيلية غير المسندية التي لم تعاين غير ظهور فاتر أو خجول على غرار النحت في تجربة "الهادي السلمي" والخزف الفني في أعمال "خالد بن سلمان" و"السجاد في تجارب "صفية فرحات" و"محمد مطيمط" والحفر الفني في أعمال "البشير الضحاّك" والطبع الفني ضمن أعمال "خليفة شلتوت" و"قويدر التريكي و"الهادي اللبان" و"محمد بن مفتاح"، فضلا عن "التنصيبات" و"الأحداث التنشيطية" في تجارب "عبد الرزاق الساحلي" و"نور الدين الهاني".
في المحصلة تبدو الفنون التشكيلية باختلاف توجهاتها وفيّة لنظرة كلاسيكية للفعل الفني حتى وإن بدا واضحا فعل التحولات الذي شدّد على ضرورة إدراج الحركة المبدعة ضمن السلوك وإخراجها من إطارها التقليدي قصد تجاوز المدلول الضيق للّوحة أو للإنتاج المادي. ولئن تعدّدت المعارض وتحوّل التشكيل إلى متقاسم ذوقي يتم الإقبال على تعلّمه في نطاق التخصّص والهوية والارتفاع بالذائقة الفنية، فإن معضلات متعددة لازالت تحول دون تحرّر هذا الضرب من الفنون على غرار تقييد الاحتفاء بالجسد وتواضع الذائقة التجسيمية وعدم القدرة على توسيع مجال التذوق الذي يكاد ينحصر - اعتبارا لارتفاع الكلفة - ضمن الأوساط الحضرية الميسورة، هذا فضلا عن توافق الفن التشكيلي في الذائقة الجماعية مع رواسب تحيل على الترف الحضري والمعالجة المغتربة المنبتّة عن الجماليات التقاليدية للبيئة المحلية التونسية.
ولا تختلف الحركتين المسرحية والسينمائية التونسيتين في أصولهما على ما عينته الحركة التشكيلية، فقد اتصل إدراجهما ضمن المشهد الثقافي التونسي مع بداية القرن الماضي بالتعويل على الاقتباس أو النقل عن المولعين بهذين الضربين من الوافدين على البلاد سواء من المشرق أو من فرنسا. ولم تعرف البلاد تذوقا حقيقيا للعروض المسرحية المحلية أو إقبالا على مشاهدة الأفلام التونسية العاكسة لحقيقة الواقع اليومي المعيش، إلا منذ ما لا يزيد عن ثلاث أو أربع عشريات. وفي ما عدا ذلك فإن الطابع الهزلي أو التقويمي الوعظي أو الغنائي أو التوثيقي أو الوطني التاريخي قد طغى على مختلف العروض المسرحية والسينمائية للفترات السابقة على الحقيقة.
وتتسم الحركة المسرحية والسينمائية التونسية الحديثة منذ ثلاثين سنة باستقلاليتها عن الخطاب الرسمي للسلطة، حتى وإن دفعتها ظروف عملها الصعبة والمعقدة إلى ترك الباب مفتوح أمام جميع إمكانيات الاستفادة من دعمها المالي وقدراتها اللوجستية وهيمنتها الإدارية على أغلب الفضاءات التنشيطية والثقافية. وتتخذ الحركة المسرحية الحديثة تونسيا طابع تجريبي ونضالي غير خافي، من خلال الإعراض عن مسرح المؤلف والاستعاضة عنه بالكتابة الركحية الجماعية، وهو توجه سارت على هديه مجموعة المسرح الجديد التي أنضجها الخماسي "الفاضل الجعيابي" و"الفاضل الجزيري" و"محمد إدريس" و"الحبيب المسروقي" و"جليلة بكار" في مختلف أعمالهم وذلك منذ ظهور مسرحية "غسالة النوادر" سنة 1980.
طبعت هذه التجربة المدافعة على مشروع مخالف لسائد الحركة الإبداعية المسرحية ومتباين بالكامل مع طرق عملها وجماليتها المشهد الذوقي والفني التونسي. فقد أثرت في العديد من المبدعين المسرحيين التونسيين الذين جايلوا روادها أو قاسموهم النظرة الإبداعية كـ"مسرح فو" لـ"رجاء بن عمار" و"المنصف الصايم" و"التياترو" لـ"توفيق الجبالي"، أو بنوا تجاربهم الخاصة بشكل مستقل عنها بصرف النظر عن واقعية استفادتهم أكاديميا من التكوين الذي وفره لهم عدد من أعضائها على غرار تجربة "المسرح العضوي" لـ"عز الدين قنّون"، هذا فضلا عن العديد من التجارب الركحية الحادثة التي بدت لنا مشدودة لنفس الاختيارات الجمالية على غرار المقترح المسرحي لـ"لطفي عاشور" في "حب ستوري" وغيرها من الأعمال الأخرى.




بقي أن تعرف أن الالتزام الاجتماعي والجمالي ضمن التوجهات التي تقود الحركة المسرحية حاضرا لم تخلو من تصوّرات إبداعية متفردة اتسمت بعمق الحس الدرامي وشاعرية اللغة التي قلبت التمايز التفاضلي التقليدي بين لهجة الريف ولهجة المدينة على غرار تلك التي أنجزها الثنائي "نور الدين وناجية الورغي" في "مسرح الأرض". على أن هذا التوجه نحو التجربيّة في صياغة الأعمال الركحية، لم ينه التجاذب في الكتابة بين الفصحى والدارجة، وهو واقع نجده حاضرا بقوة ضمن الأعمال المنجزة من قبل رواد المسرح الجهوي كـ"المنصف السويسي". كما توفرت بعض التجارب الراسخة في المشهد المسرحي التونسي على كتّاب نصوص مهرة ومتميزين بدت لنا أعمال "عز الدين المدني" أكثرها اكتمالا.
أما بخصوص الاتجاهات التي طبعت السينما التونسية فليس من المغالاة في شيء الزعم أن أصولها قد التصقت بحركة نوادي النقد والسينما الهاوية، وهي خلايا نشطت بشكل ملحوظ مع نهاية ستينات وخلال سبعينات القرن الماضي على هامش الحركتين الطلابية والتلمذية، ومكّنت من ظهور "سينما المؤلف" التي قطعت الطريق أما توجه الدولة الوطنية لفرض وصايتها على هذا المجال الإبداعي بتحويله إلى أداة طيّعة لصنع ذائقة ثقافية منخرطة ضمن مشروعها السياسي والتنموي وذلك من خلال ربط تقييم المشاريع السينمائية وتمويلها جزئيا بهياكلها الرسمية.
ومهما يكن من أمر فقد عاين الإنتاج السينمائي التونسي انتقالا من الأشرطة المخصّصة لذاكرة النضال الوطني والنقابي في أفلام "عمار الخليفي" (الفجر والفلاقة وصراخ) و"عبد اللطيف بن عمار" (سجنان)، إلى الأشرطة المحلّلة للتحولات الاجتماعية والاختيارات التنموية في "وغدا" لـ"إبراهيم باباي" و"تحت مطر الخريف" لـ"أحمد الخشين" و"شمس الضباع" لـ"رضا الباهي". أما أشرطة مرحلة الثمانينات وما بعدها فقد عاينت تنوعا في التوجهات وكثافة غير مسبوقة في الإنتاج، معبّرة بشكل ملموس عن محورية سينما المؤلف في الإبداع المرئي من خلال تنوع التجارب الفنية والتقنية في أفلام "فريد بوغدير" (عصفور سطح) و"النوري بوزيد" (ريح السد وصفائح من ذهب وبنت فاميليا وعرائس الطين وآخر فيلم) و"محمود بن محمود" (قوائل الرمان) و"مفيدة التلاتلي" (صمت القصور وموسم الرجال) و"الناصر خمير" (الهائمون وطوق الحمامة المفقود وبابا عزيز) و"المنصف ذويب" (يا سلطان المدينة والتلفزة جات) و"فاضل الجعايبي" (عرب وشيشخان) وفاضل الجزيري (ثلاثون). وهي في معظمها أعمال احتفى بها الجمهور العريض، بصرف النظر عن خطابها الجمالي المنفلت وما تترتب عليه من سجال حاد بخصوص مسائل حارقة كمدلول الهوية وتصاعد خطر التيارات السلفية الجهادية ومضمون الحداثة وحرية التعبير عن الجسد وضرورة إعادة كتابة التاريخ المعاصر، وغيرها من المواضيع المتّصلة بالمساواة بين الجنسين، فضلا عن حرية المعتقد والتفضيل الجنسي المثلي. وبالجملة فقد شكلت سينما المؤلف التونسية خلال الثلاث عشريات المنقضية وعلى غرار المسرح التجريبي ظاهرة لافتة انطوت على قدر كبير من الجرأة وعكست بكثير من الصدق النسق السريع لتطور المجتمع، واضعة إصبعها عند مآزقه الاجتماعية والثقافية والفكرية وإخفاقاته السياسية والتنموية أيضا.




ويستقيم أن نتساءل في المحصلة عن حدود العلاقة التي تربط التونسيين دوقا وإبداعا بالحداثة؟ ما من شك في تواصل هذا الشعب مع الحداثة بل وإصراره على الانخراط فيها رغم ما ترتب عن ذلك من هزات أو إكراهات تحيل على صعوبة إعادة التملك أكثر من اتصالها بحالة نكوص أو تراجع وانطواء. غير أن هذا التقييم الايجابي لا ينبغي أن يحجب عن أنظارنا حضور نوع من الشدّ القوي إلى الخلف المترتب عن سرعة نسق التحولات والتباس مدلول الحداثة بل وصعوبة التعامل معه من وجهة نظر الحفاظ على الثوابت الشخصية والعائلية والمجتمعية. فقد حاول بودلير Baudelaire تقديم تعريف الحداثة ضمن مقاله المنشور سنة 1863 والموسوم بـ"رسام الحياة الحديثة Le peintre de la vie moderne"، معتبرا أنها تجسيم "لكل ما تنجلي عنه الصيرورة التاريخية من شاعرية"، مبينا في الآن نفسه عدم خلو الطارئ العابر وضمن أي سياق زمني، من معنى ما للخلود. لذلك عمد هذا الشاعر الفذّ إلى اشتقاق مدلول التقليعة أو الموضة في كلمة mode، رابطا بذلك بينها وبين لفظة حديث moderne التي طغى عليها راهنا مدلول الاعتناء بالميسم والحركة والقيافة والديكور، فضلا عن سمياء الإشارات وفكّ شفرة دلالتها.
يعتبر بودلير أن لكل مرحلة تاريخية طريقة مخصوصة في ذلك فالتقليعة في الموضة ما هي إلا مؤشرا هاما يمكّن من التعرّف على تطور الذوق المعبِّر عن عالم الـمُثل الذي يرقى بنفسه وضمن الذائقة البشرية عمّا نكدّسه في حياتنا اليومية من تافه التصورات وضئيل أو منحط الممارسات. ويتساوق هذا التصوّر مع فهم الناقد "رولان بارط Roland Barthes"، حاضرا للحداثة، فقد أشار في معرض حديثه عن منجز المؤرخ الفرنسي "جيل ميشلاي Jules Michelet" أن هذا الأخير قد يكون من "أول الكتاب الذين لم يكن بوسعهم تقريظ مكتسبات الحداثة إلا عبر اللجوء إلى مستحيل العبارة"، مما يجعل تلك الحداثة مغامرة للسير على الأطراف تنجز على الهامش، غير متوافقة مع الضوابط الناظمة للتصرفات المقبولة اجتماعيا وأخلاقيا، وهي تصرفات تحميها سلطة القديم وقداسته في آن.
وهكذا يتبين أن ما تمثله الحداثة على الحقيقة هو فكر يتسم بعدم الاكتمال يقبل عن طواعية تسرّب الشك إليه والخضوع إلى النقد على الدوام. كما أنها تشكل نزوعا باتجاه الخلق وقطيعة معلنة مع جميع التوجهات الفكرية والنظريات المستندة على التقليد الذي يجعل من القديم مرجعا ومن التصوّرات المدرسية قاعدة. لذلك يعتبر التساؤل حول مستوى انخراط الفعل الفني والإبداعي التونسي في هذا التمشي مربط الفرس في إدراك طبيعة الحراك الذهني الذي يطبع المجتمع وينبئ عن نجاحه في إعادة تملك الحداثة من زاوية رفع القداسة عن القديم بعد قتله معرفة، ثم الإقبال ذوقيا على الانقلاب عليه وتعليم طريق سالكة باتجاه التماهي قولا وفعلا مع الانخراط في الكونية.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire