mercredi 5 octobre 2011

أن نكون تونسيين



لو تجاوزنا لبرهة المدلول الاصطلاحي في انتساب الأفراد إلى أوطان تتوفر على سيادة حقيقية ينشأ عنها استقلال تام تجاه الغير وتقاسم لعملية أخذ القرار، ما الذي يعنيه حاضرا أن يعتبر الفرد منّا أنه تونسي؟ وما مدلول أن يعتز كل واحد منّا بجنسيته معتبرا أن الولاء لها سابق لجميع ما سواه؟
ما من شك في تعقد الموروث العرقي لهذه النسبة تلك التي قد يدفع بنا تجانسها الراهن إلى حد الاعتقاد في أزلية العناصر المشكلة لسكانها، والحال أن عمليات تركيبها لم تحصل دفعة واحدة، بل احتاجت إلى قرون من التكوين. على أن الإقرار بهكذا وضعية، لا يتعين أن يحجب عن أنظرنا قدرة ذلك المجال الذي وسمناه بـ"بلاد الأفاريق" على صهر مختلف العناصر الوافدة، معوّلا على خصوصيات العلاقات الاجتماعية التي تحيل على محورية القرابة الأسرية وفاعلية التضامن الاجتماعي والطبيعة التعاقدية للعلاقات المهنية.
يبدي التونسيون اهتمام كبير بما يحيل على التجذر في العائلة والنسب، ويبرز ذلك خاصة في تمسّكهم بالأصول العرقية، تأسيا بما درج عليه العرب الفاتحون من اهتمام بالنسابة. ويحيل ذلك الاهتمام في منطق التونسيين على شجرة النسب العائلي كما على الأصول القبلية، فضلا عن دعوى التحدّر عن أرباب الصلاح ووجوه الأشراف.
ولئن أثبتت الأبحاث قدم تاريخ الاستيطان البشري من خلال استكشاف مواقعه بجهات قفصة ووادي الزوارع وغيرها، فإن رد أصول البربر وهم أقدم سكان البلاد بالتعويل على تاريخ ابن خلدون إلى هجرات العرب القدامى الوافدين من اليمن والحجاز، ينمّ عن شدة تأثر المغلوب بالغالب، حتى وإن تطلب ذلك إعادة كتابة للتاريخ من زاوية افتراض حضور علاقة بين اعتناق الدين الإسلامي ورابطة العرق أو وحدة الأرومة. بل ليس يعيدا أن يكون هذا النوع من التلفيق وراء تصنيف المدرسة الاستعمارية لتجارب حكّام المرابطين والموحدين والحفصين والزيانيين والمرينيين برد جميعها إلى ما وسمته بـ"الدُوَّلِ البربرية".
أسس الفنيقيون القادمون من صور قرطاج، واستجلبوا السود من بلاد النوبة وخالطهم اليهود وامتزج الجميع ضمن حضارة فنيقية قرطاجية بونية استهدفها الرومان عسكريا، وعملوا على رومنتها في العمق، الشيء الذي ترتب عليه تفضيل لثقافة الروم وحضارتهم اندس عميقا في موروث إفريقية المسلمة وتواصل حضوره ولو بشكل فاتر بعد انجاز الأسلمة بقرون.
لم يبد العرب المسلمين بعد انتشارهم بإفريقية كثيرا من التصلب تجاه تلك المجموعات، ملية كانت أم عرقية. فقد حافظ اليهود من البدو الذين اختلطوا بأضرابهم المسلمين بباجة وتستور والسرس والأعراض وجربة على معتقدهم، على أن تثبت البحوث المنجزة ببلاد الجريد حضور أ عراق تحيل بالإضافة إلى العناصر البربرية والعربية على أصول إغريقية.
والبيّن أن مجيء العرب المسلمين قد رافقه توافد عناصر تعود أصولها إلى القبائل اليمنية والحجازية والشامية والقبطية، وهي عناصر اختلطت بالسكان المسيحيين من الأفارق أشارت مسالك البكري إلى وجودها بجهات الشمال بعد خمس قرون من حصول الفتح. كما أثبتت المصادر أن أغلب أمهات أمراء دولة بني زيري كن من أصول مسيحية، مشيرة إلى تضاعف عدد اليهود وإنشائهم لـ"حارة" أو حي خاص بهم داخل الحيز المسور لحاضرة البلاد القيروان، فضلا عن وفود ألاف من المسلمين من صقلية بعد استيلاء النّرمان عليها مع بداية العشرية الأخيرة من القرن الحادي عشر. على أن تعرف البلاد قبل ذلك زحف القبائل الهلالية التي أحدث حضورها تراجعا للعمران والتحضّر، حتى وإن أسهمت في تأصيل علاقة جمّاع السكّان باللغة العربية. فقد أدى زحف القبائل العربية إلى تحوير المشهد السكاني والاقتصادي للبلاد، فاحتلت تلك الفصائل المناطق الخصبة على غرار أولاد سعيد بالنفيضة، ورياح في الفحص وبوعرادة، ودريد بباجة، وهم الوافدون من الحجاز ونجد وتهامة قبل هجرتهم إلى الصعيد المصري. وتواصل حضور تلك الفصائل الهلالية المتمازجة مع بقية العناصر الأهلية حتى فترة ليست بالبعيدة وفقا لما أثبته تحريات العارفين بالبوادي التونسية.
ومع تحوّل حاضرة البلاد إلى تونس عاينت إفريقية حضور عناصر عرقية ومليّة جديدة وفدت عليها من المغرب والأندلس وآسيا الوسطى وبلاد الأنضول وممالك شمال المتوسط. فقد اختلاط التونسيون برعايا التاج الأسباني وتكثّف في المقابل توافد الغزاة من رياس البحر والقراصنة مع تراجع دولة بني حفص. على أن العنصر الجديد قد تمثل في استقبال البلاد مع حلول سنة 1609 لقرابة العشرين ألف عائلة من المورسكيين المطرودين عن وطنهم الأصلي، كان لهم إسهام محوري في إكساب السواحل الشمالية الشرقية للبلاد شخصية متوسطية لا تحتاج إلى كبير توضيح.
ومهما يكن من أمر فقد ساهم حضور الأتراك في توافد عناصر أروبية شرقية وآسيوية تابعة لمختلف ولايات الخلافة العثمانية، استقرت بالمدن الساحلية ونشّطت القرصنة على السواحل الأسبانية والإيطالية والفرنسية، وأدى تصاهرها مع العائلات التونسية إلى إقلاعها بالتدرج على النسبة التركية وتحوّل معظم أفرادها إلى "حنفيّة" تدين بالولاء إلى السلالة الحسينية الحاكمة. وإذا ما أضفنا إلى جملة هذه العناصر اليهود القُرنيين القادمين من "ليفورن" الإيطالية خلال القرن الثامن عشر والمعمرين الفرنسيين الذين حضروا إلى البلاد خلال المرحلة الاستعمارية وغادرها معظمهم بعد تونسة الأراضي الزراعية، يتمثل لنا تاريخ المشهد السكاني لبلاد الأفاريق وموطن التونسيين، وهو مشهد اتسم بتنوع العناصر الوافدة التي لم تُعرض رغم تعقّد فسيفسائها العرقية والملية على التمازج والاندماج مع العناصر المحلية، وحملت إرثا مشتركا، وشما على الأجسام كالصليب على الجبين والذقن والخد، أو برنسا بربريا مُتونسا، أو قلنسوة قرمزية فارسية الأصل أندلسية الصناعة، أو مرطبات تركية ومربعات لماعة من زليج أشبيلية وأزنيك.


هذه عناصر ماثلة في موروث ثقافتنا المادية وغير المادة قد نعود إليها لاحقا بأوسع تفصيل وتدبّر، غير أن ما يتعين التركيز عليه في مثل هذا المقام هو محتوى تلك الخصوصيات الاجتماعية التي ألمعنا إليها أعلاه والمتمثلة في ثالوث الصهر أو ختم التونسة، ونقصد طبعا العلاقات الأسرية والتضامنية والمهنية، تلك التي نزعم أنه قد كان لها دورا فعّالا في تسهيل عملية الربط بين مختلف العناصر العرقية والملّية التي شكّلت مجتمع التونسيين.
فقد أجمع مختلف الرحالة الذين زاروا البلاد أن سكان إفريقية قد عرفوا بحسن قبول الوافدين عليهم، وردوا ذلك إلى غياب المنعزلات الجبلية وانفتاح السهول على السواحل، الشيء الذي حول تونس إلى موطن للتمازج والاختلاط بين الأجناس وقبلة لموجات الهجرة المترتبة على الكوارث الطبيعية أو الاضطهاد السياسي والديني.
لعبت مؤسسة الأسرة دور طلائعي في تسهيل هذا التمازج وذلك عبر تشغيل آليات التصاهر والقرابة، وصاغت رابطة الرحم والدم إطارا اجتماعيا كفل حضور علاقات تضامن كلي بين الأفراد لعب ضمنها السن دورا أساسيا في تصريف الشؤون وتقسيم الأدوار وأخذ القرار. شكلت تلك الخليّة إذن ولا تزال، ملاذ الفرد الأخير إزاء ما يعترضه من مصاعب، ورافدا محوريا في النجاح في عملية تجاوزها وذلك بالرغم عن التحولات الكبيرة التي طالت تلك المؤسسة حاضرا باتجاه الانتظام النووي على حساب نظيره الموسّع، وتباعد المسافات الفاصلة بين مكونتها في السكن والمستوى الاجتماعي، كما في تطور الذائقة الفكرية والمرجعيّات الأخلاقية المتصلة بسجل القيم. ويتجلى ذلك التكافل بالخصوص في الحفاظ على الرابطة الأسرية من خلال الحرص على تبادل الزيارات وخاصة خلال المناسبات الدينية والشخصية، وتشغيل آليات التضامن تجاوزا للظروف الصعبة سواء تعلق الأمر بكفالة كبار السن أو التدخل قصد تذليل العقبات المعاشية لذوي الحاجيات الخاصة.
شملت علاقات التضامن داخل المجتمع الزراعي التونسي الأجوار عبر أنظمة التكافل الجماعي المعبر عنها بـ"التويزة" و"المعونة" و"العولة" وغيرها. ولئن تم ربط مثل هذه التصرفات بسجل القيم الدينية الإسلامية على غرار الصدقة والزكاة وغيرها، فإن أصولها تحيل على مشترك ثقافي للمجتمعات الزراعية ضمن حدا أدنى من التكافل بين الأفراد والجماعات في مواجهة صعوبات المعاش وقسوة الظروف الطبيعية والإملاق والمرض، وذاك عبر ربط المساعفة بالواجب الديني وتشغيل آليات التضامن التي تكفل احتضان الجماعة للفرد وتلبية حاجياته الأساسية دفعا للشعور بالإحباط والعجز، وتدخلا لرابطة الجوار والانتساب إلى القبيلة أو الجهة أو الحي (الحومة) بل والصداقة أحيانا من خلال تقديم المواساة أو المساعدة، مادية كانت أو معنوية في المناسبات السعيدة ونظيرتها الأليمة أيضا، وربط ذلك بالواجب الأخلاقي المكتفي بذاته عن حضور القدرة المادية من عدمها.
ويبدو أن التحولات المتسارعة التي عاينها واقع العائلة التونسية بعد حضور المرأة اللافت على الساحة المهنية وتطلّعها إلى مزيد مشاركة الرجال في مسؤوليات الكفالة خارج إطار تقاسم مصاريف الإنفاق بجميع أشكالها، هو ما أعاد ترتيب الأولويات بما حوّل المساعفة إلى مستويات جديدة اتصلت بالتكفّل باحتضان الأطفال الصغار من قبل المتفرّغين من بين أفراد العائلة الموسّعة أو من بين الأجوار مدة خروج الأزواج للعمل، ورفد مجهودهم عبر نظام السُلفة أو الهبة المالية أو توفير العقار قصد بناء أو اقتناء مسكن لائق، أو التدخل لفائدتهم بغرض تسهيل تشغيل العاطلين، إما بإلحاقهم بالمؤسسة الاقتصادية العائلية أو من خلال تشغيل شبكة العلاقات الاجتماعية تحقيقا لنفس الهدف.
والبيّن أن التطورات المتلاحقة التي شهدها الواقع المعاصر سواء فيما يتصل بسيطرة الحياة الحضرية على الهياكل الديمغرافية، وتطور حضور المرأة في المشهد المهني والانقلاب الطارئ على الذهنيات من خلال تقلص الحواجز النفسية بين الشبان من بين الجنسيين وتشعب علاقاتهم بالعالم الخارجي بفضل سهولة تملّك اللسان وتنوع وسائط الاتصال، تؤذن جميعها حاضرا بحصول تجاوز نوعي قد يخترق ضمنه مدلول التضامن الإطار التقليدي المتعارف الذي حدده البيان الخلدوني بخصوص أنظمة معاش المغاربة عامة وسكان بلاد الأفاريق بالتحديد.
ففد بينت الدارسات المتصلة بتاريخ التونسيين الاجتماعي ارتكاز العلاقات المهنية بين مختلف المتدخلين في عملية الإنتاج حتى فترة غير بعيدة على الشراكة أكثر من التأجير، وهي علاقات ترسّخت بالتقادم وشملت مختلف مجالات النشاط الزراعي عبر تمكين المتعاقد بعد استفاء جميع واجباته المهنية من الحصول على خمس أو ربع أو نصف المنتوج. ولم يصبح التأجير حقيقة سائدة إلا بعد حضور الاستعمار الفرنسي وخاصة ضمن القطاعات الجديدة على غرار المناجم والنقل والصناعات التحويلية. وأدى تمسّك إدارة الاستعمار بمنظومة شغلية عنصرية متخلفة إلى وعي الأجراء التونسيين بضرورة الانتظام داخل نقابات مهنية محليّة كان الهدف من إنشائها النهوض بشروط التأجير ومعاضدة مجهود التحرر من الاستعمار واستعادة السيادة على الوطن المسلوب.
نشأ عن هذا الانتظام وبالتدرج تطور لمدلول العلاقات الاجتماعية باتجاه تطوير النضال المهني الرامي إلى الدفاع عن الحقوق التي تكفلها علاقة التشغيل على غرار ضمان التغطية الاجتماعية للأجراء وتحمل صناديق الضمان الاجتماعي عمليات صرف منح المعاش ونهاية العمل والتعويض على المرض أو الحوادث المهنية وكفالة الأيتام القصر والأرامل العاطلات عن العمل عند حصول الوفاة.
سهّل هذا التراكم تمسك التونسيين بالتحصيل المدرسي وربط سلم الارتقاء الاجتماعي باستيفائه. وأدى تعارض توسع قاعدة التكوين مع ضمور فرص الانتقال إلى معترك الحياة العملية والاندراج ضمن سوق الشغل إلى تعقيد عملية تطور المجتمع التونسي باتجاه إعادة تنظيم أطر التعايش الضامنة لحقوق الأفراد الأساسية، وهو ما أدى إلى حالة لافتة من الانغماد (involution)، مؤيدها التعايش الفوضوي غير الصحي لأنظمة تكافل متنافرة تغلب على تشغيل آلياتها عقلية الانصياع إلى الوصاية الأسرية والدينية والسياسية والمهينة، الشيء الذي حال دون توسيع قاعدة التخلّق بالقيم المنتجة للمواطنة وتعويد الأفراد على تحمل مسئولية توجيه حياتهم ومواجهة مصائرهم أيضا بمعزل عن كل وصاية.
ولعل وصول مجمل هذه التناقضات إلى أوجها هو ما أدى إلى تفشي إحساس جماعي بالمهانة وانسداد الآفاق مع انعدام للحيلة خاصة داخل الجهات المحرومة التي لم يطلها من الحداثة المعلنة غير مزيد من الاحتقار والتهميش، مما عجل بحصول قطيعة مع نظام حكم أزرى بتواصله عدم اعترافه بالفشل وتسويقه لنفس الأساليب والخطط دون القبول بأي مراجعة، والحرص على تقاسم مسؤولية ما يترتب على كل فعل بشري من سلبيات أوهنات أو معضلات مع محكوميه .
ما من شك في أن جميع ما أوردناه حول تاريخ توطين البلاد التونسية ومدلول الانتساب إلى حياضها عبر ما وفرته مختلف الآليات الناظمة للإدماج الاجتماعي، واقع يتسم بحراك مستديم. غير أن ما يتعين الاحتفاظ به عند هذه المفصلة الفارقة من تاريخ وطن التونسيين هو ضرورة تنسيب جميع الأحكام المطلقة بخصوص أهمية أحد المفردات الاجتماعية أو العرقية أو الدينية دون تدبّر حقيقي لمضمون تعايشه مع العديد من العناصر الأخرى، تلك التي شكل تضافرها هوية سكان البلاد المشتركة على الحقيقة. كما أن تعرّض آليات الإدماج الاجتماعي التي مثلتها أنظمة القرابة والتكافل فالانتساب المهني المفضي إلى النضال المدني، إلى أزمة حقيقية اتضحت معالمها بعد فشل المشروع السياسي للدولة الوطنية، هو ما زعزع ضمير التونسيين وأعاد طرح موضوع الانتساب من بوابة رفع تحدي تجسيم مواطنة فعلية يتمسك الأفراد بمقتضاها بربط القبول بأي مشروع سياسي بتوفير الضمانات الكفيلة بصون حقوقهم وحرياتهم الأساسية تجاوزا لكل لغط أو مزايدة حول أي سيادة فضفاضة تسيّج مدلول الوطن وتحيله على قداسة مزعومة تعيد إنتاج الأساليب المبغوضة للإقصاء والتهميش والاستئصال.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire