mardi 29 mai 2012

صالح بن يوسف في قصر قرطاج: "الذاكرة الحلال"





 وُشِّحت أمسيات السبت في قصر الجمهورية بقرطاج برداء ثقافي معلن، فقد سن القائمون الجدد على هذا الفضاء عادة غير مسبوقة تمثّلت في استضافة وجوه الفكر والثقافة من داخل البلاد وخارجها لتقديم أسمار حول عدد من الشواغل الفكرية شملت "الذاكرة والتاريخ" (هشام جعيط) "السياقات التاريخية لنشوء العلمانية وأنماطها" (عزمي بشارة)، بينما خُصصت أمسية السبت الماضي لعرض شريط وثائقي حول ملابسات اغتيال المناضل الوطني صالح بن يوسف يحمل عنوان"صالح بن يوسف جريمة دولة"، تولّى إخراجه جمال الدلالي وأنتجته قناة الجزيرة الوثائقية وعاد أمر تنفيذ إنتاجه إلى شركة "آفاق للإنتاج الإعلامي Horizons for media productions ".
محمود أن يُعاد لقاعة العروض المسرحية والسينمائية بالقصر الرئاسي، تلك التحفة المعمارية ذات النمط الايطالي الـمُشرب بإحالات جليّة على المعمار التونسي الأصيل نشاطها لكي تستقبل إبداعات التونسيين في شتى المجالات المعرفية والفنية. فمن أفّضال الهبّة التي عاشتها البلاد ضد مختلف مظاهر ارتهان السيادة وسلب التونسيين مواطنتهم، تكريس رئيس المرحلة الانتقالية الثانية لرمزية احترام النخب من خلال الاستضافة الدورية لعدد منهم كي يُسّهموا في تأثيث تلك الأمسيات بفسح المجال واسعا أمامهم للتعبير بحرية، ومن موقع غير المعني بإكراهات صناعة القرار السياسي، عمّا يخالجهم من هواجس ويعتمل في صدورهم من تصوّرات بخصوص إرث البلاد التاريخي وواقعها المعقّد ومستقبلها المنظور.
قد لا يتفهّم البعض مثل هذا التوجه النخبوي المترف أو لا يستسيغوه بالرمة، متعلّلين بالحرج الناتج عن العودة اللافتة في الفترة الأخيرة لمختلف مظاهر الاحتقان الاقتصادي (تراجع الترقيم الائتماني التونسي دوليا) والاجتماعي (بلوغ عدد العاطلين سقف المليون) والسياسي (المماطلة في رسم أفق حقيقي للتداول الديمقراطي واستباق المخاوف بالمصارحة والتعجيل بتطبيق القانون)، نتيجة لأسباب غير خافية عن كل من ألقى السمع وهو شهيد. لكن سلامة المقصد ونبل المبادرة لا يمكن أن تخطئهما كل عين ناقدة كانت أم كليلة.
حسبنا القول أن مؤسسة رئاسة الجمهورية قد احتفلت يوم السبت بكثير من التأثّر وبقدر غير قليل من التحفّظ والتدبّر أيضا بدخول رمزي لافت يحمل دلالات متباينة حول مضمون إعادة تملك الذاكرة "الوطنية"، للزعيم صالح بن يوسف لقصر قرطاج. فقد أشاد رئيس الدولة الذي أشرف على العرض/ الحفل بحضور رفيقة درب "الزعيم" وعدد من المنتسبين إلى عائلته الشخصية والنضالية الموسّعة، بخصال المناضل الوطني الفذّ، مُعلنا على الملإ صدوره عن نفس الخط النضالي باعتبار العلاقة المتينة التي ربطت والده بالأمين العام لحزب الدستور، مبيّنا أنه قد تحرّك صبيا على هدّي خطاه، وأن بيت المرزوقي بالضاحية الجنوبية لتونس قد وُصم لسنوات مديدة عَنَتًا، وبعد الضلوع في تصفية المعارضة اليوسفية بــ "بيت الخونة" !
ولئن كنا لسنا في مجال التشكيك في المشاعر التي انتابت الرئيس المؤقت للتونسيين وهو يشرف على هكذا حدث، فمن حقه أن يجد في الخط اليوسفي - لا البورقيبي- منارة يهتدي بها في انتسابه إلى مشروع الإصلاح التونسي الذي تعود إرهاصاته الأولى إلى قرابة القرن والنصف من الزمن، فإن، مربط الفرس في احتفالية دخول "صالح بن يوسف" الرمزي لقصر قرطاج، ونقصد محتوى الشريط الذي بُث لتخليد الحدث والذي قامت عليه إنتاجا مؤسستان، هما الجزيرة الوثائقية والشركة البريطانية "آفاق للإنتاج الإعلامي" التي يشترك في رأس مالها النائب عن حزب النهضة بالمجلس التأسيسي عامر العريّض - وهو ممن حضر احتفالية "السبت الثقافي" وشدّد في تدخله بعد عرض الشريط على ضرورة إعادة قراءة تاريخ النضال الوطني من بوابة رد الاعتبار لجميع من أسهموا في الحَرَك السياسي خلال القرن الماضي، والقطع مع احتكار الزعامة تفاديا للنظرة الأحادية المدمّرة التي هيمنت على القراءة الرسمية للتاريخ طوال مرحلة استفراد الدستوريين بالحكم- هو ما اضطرنا إلى وضع هذه المبادرة وعلى نبل مقاصدها، موضع المسافة النقدية.
أسندت شركة بريطانية لواحد من المساهمين في رأس مالها أو القائمين عليها (فالأمر يحتاج إلى توضيح) مُهمة تنفيذ إنتاج أشرطة وثائقية حول عدد من أعلام النضال الوطني التونسي (فرحات حشاد – المنصف باي – صالح بن يوسف) أخرجها مخرج تونسي يُعلن انتسابه لحركة النهضة ونقصد جمال الدلالي وذلك لفائدة قناة الجزيرة القطرية الوثائقية.
لئن كان الشريط في غاية الحرفيّة (صورة ونسقا وحجّة أرشيفية مصوّرة ومسموعة ومروية عن صدور شهود عدل، فضلا عن مقاربات عدد من العارفين بتاريخ تونس المعاصر وتعقيدات مراحل النضال الوطني)، إلا أن معضلته قد تمثّلت في إعادة إنتاج التوجّهات الأحادية لحزب الدستور، حتى وإن بدا متمنطقا بلبوس المصارحة وردّ الاعتبار. فالمدلول الدقيق للبديل السياسي الذي صدر الفكر اليوسفي كخط سياسي فاعل استقطب اهتمام جانب كبير من المجتمع التونسي إبان الاستقلال وحتى من بعده عنه، هو تركيزه على البعد الوحدوي العروبي المصطبغ بطرح أصولي جذّرته المزايدة السياسية واحتداد الصراع بينه وبين الطرح التحديثي المرحلي la modernisation gradualiste المشدود بشكل بارز إلى الفكر الغربي الذي انتهجه الخط البورقيبي داخل حزب الدستور. ولئن كان بمقدور هذا التمشّي - لو كتب له أن ينخرط ضمن سياق ديمقراطي تعددي مستبطن لمبدأ التعايش- الوقوف بندية في وجه الطرح التحديثي المنجذب إلى الغرب بقوة، وإدخال توازن على المسيرة السياسية والتوجهات الفكرية للبلاد، فأن الحقيقة أثبتت قصور الذهنيات السائدة عندها على الـمُـضي في هذا التوجه وتغليب منطق الإقصاء والاستئصال والتشفّي الذي لا يقبل بنجاح أي فعل السياسي خارج الخط السائد لحزب الأغلبية، وهي هِنَةٍ طالت سلبياتها الفكر المعارض بجميع توجهاته يسارية كانت أم إسلامية وليس من سبيل لتجاوز هكذا انحراف حاضرا إلا بفك الحصار السياسي ودعم الاختراق الـمُفضي حقيقة إلى التكافؤ غير القانع بتشغيل آليات المناورة والاحتواء.
نحن نقدّر، وليعذرنا شهداء العدل وغيرهم، وكذا المختصون الحقيقيون وغيرهم ممن تموقعوا بعد خطيا وحادوا عن مسافة العارفين ونزاهة الخبراء أولئك الذين وَلّف القائمون على هذا الشريط الوثائقي من خلال تواتر أرائهم لحمة شريطهم، أن صالح بن يوسف قد وقف على هذه الحقيقة منذ أن فضّل المراهنة على منازلة بورقيبة من داخل نفس الحزب، وهو تصرّف أتاه هذا الأخير أيضا إبان صراعه مع جماعة اللجنة التنفيذية غداة انشقاق قصر هلال سنة 1934، لذلك سارع الحزب إلى فصّله عن الأمانة العامة وسحب بساط الشرعية من تحت أقدامه، وهو توجه استئصالي أنجرّ إليه الشق البورقيبي بعد أن استوفى جميع محاولات المناورة واحتواء الخلاف بتقديم سخي العروض على غرار القبول بتصدّر صالح بن يوسف للحكومة التفاوضية مع فرنسا. ولعل انفجار الوضع الأمني في البلاد بل وصولها إلى حالة استحراب داخلي، هو ما رجّح كفة الحكومة الانتقالية الموالية لبورقيبة وتفويض الصلاحيات الأمنية لها من قبل الإدارة الفرنسية تلك التي تورّطت تبعا في تصفية الشق المعارض بعد أن دخل من جانبه في تحالف معلن مع قيادات الثورة الجزائرية، وما ترتب عن هكذا تموقع من ترجيح لكفة ممثلي الديوان السياسي في انتخابات المجلس التأسيسي. على أن انحياز القصر في شخص محمد الأمين باي ووليّ عهده الشاذلي لشخص بورقيبة هو ما لم يترك أمام ابن يوسف غير الفرار بجلده يوما واحدا قبل تفتيش مقر إقامته الواقع بحي "مونفلوري" وتصويره بمظهر "المتآمر على أمن الدولة الناشئة وسلامتها"، الشيء الذي أخرج خطابه عن دائرة السجال الفكري والسياسي ليدرجه ضمن بوتقة التمرّد على الشرعية قاطعا أمامه كل سبيل لنيل شعبية لا يمكن أن تُقصد دون حياد إدارة ودولة تستبطنان عميقا مدلول التعددية الفكرية والسياسية وتقبلان بمنطق التناوب على السلطة.
وهكذا فإن شعبية صالح بن يوسف لم يكن مصدرها في ما نعتقد غير الإسراف في إعلاء الحقيقة الواحدة التي لم تنجح إلا في تسييج سيرة الزعيم المضطهد برفعها إلى درجة القداسة والتنزيه، متيحة للخطاب السلفي استغلال صورة الزعيم المضطهد والشهيد الوطني التي تلقّفها رجل الشارع في بلادنا وكرّستها عقود مديدة من التعتيم والمغالطة.
هذه القراءة الشعبويّة هي التي أقرّها القائمون على هذا الشريط الوثائقي تحديدا، وتلقّفها السياسيون والمعذبون من العروبيين والإسلاميين ممن طلهم صلف الاستبداد وجبروته، فازّوروا عن الفصل بين طِباعه وبين مسيرة الإصلاح التي شكّلت من منظورنا الخاص مظلة التونسيين جميع التونسيين، وحاضنة حقيقة للمشروع المدني الحديث لدولتهم، ذلك المشروع الذي ليس من الدقيق في شيء أن نحمله وزر ما دبّرته الأيادي الدستورية الآثمة المستبدة وحتى على سبيل الإثارة الإعلامية واصمين  تدبير شق من الدستوريين اغتيال صالح بن يوسف بــ"جريمة دولة" !   
         





     

4 commentaires:

  1. Sidi Lotfi, lors de ma lecture de ce très beau article, j'ai commencé à réfléchir sur la nature du rapport qui devait exister entre "l'historien" et "le politicien". Cette problématique est montée fortement sur la scène publique après le 14 Janvier 2012. Beaucoup, on parler d'une relecture et réécriture de l'Histoire Nationale selon une nouvelle optique. Ce qui nous amène à pauser la question de la méthodologie et la question du niveau de la participation des politicien dans le métier d'Historien. Personnellement, je crois que le métier de l'historien à ses technique propre et seul l'historien sait quand et où on doit innover. La distinction entre la "Mémoire collective" d'une part, et l'Histoire on tant que science doit être faite pour que tout le monde savent dans quel limite il peuvent y participer.

    RépondreSupprimer
  2. تبادر إلى ذهني مباشرة بعد الانتهاء من مُطالعة هذا المقال الممتاز قصة إحراق علي باشا للجزء الرابع من كتاب الحلل السندسية للوزير السراج و رغبة السلطة دائمًا في قولبة التاريخ على مقاسها و "المؤرخون الطرازون" أو رواد مدرسة التاريخ الحلال :)
    http://www.tunisiabook.blogspot.com/2012/05/blog-post_31.html

    RépondreSupprimer
  3. الحب إصرار لا يفتر عن السؤال.. وصناعة التاريخ فيما أظن

    RépondreSupprimer