mardi 25 septembre 2012

الشعب وأقنعته بقلم: هشام عبد الصمد



الشعب وأقنعته بقلم: هشام عبد الصمد

في البدء كان الشعب "دون أدنى خصال" ذاك الذي يقوم المختصون في الإحصاء بتعداده، فتُعرض المعطيات الخاصة به وفق أرقام مطلقة، قبل أن يتم العمل على إعادة توزيعها إلى طبقات وفئات اجتماعية ومهنية أخرى.
خلال فترات "السكون التام" ينظر إلى ذلك الشعب على أنه شيء جامد ليس له من حسّ يرزح بإرادته في مذلة الخدمة[1]. غير أن ما نسميه بالحراك الاجتماعي - ذاك الذي يأخذ على الدوام وكما يعلم الجميع شكل المطالب المهنية- يثبت عدم صحة حضور ذلك السكون اعتبارا لما يشوبه من موهوم الاستقرار...حتى وإن لا تتوثق عرى الشعب من جراء ذلك بشكل خاص. فالفاعلون الاجتماعيون غالبا ما يتم تمثّلهم في وحدتهم المغرورة، مما ينهض حجة على قلة متانة ذاك النوع من البشر الذي نسحب عليه اسم الشعب.
يتسم الاجتماعي بوجود حقيقي، في حين لا يشكل الشعب سوى خليط أو جمهرة من الناس غير محدّدة المعالم. فلنطلب من "شعب المناجم"[2] وفي حدود سنة 2008 أن يوافينا برأيه في "بقية الشعب التونسي".  
كم يبدو الآن جميع ذلك بعيدا، بل غارقا في مرحلة ما قبل الثورة، أو لنقل في فترة ما قبل التاريخ. لأنه وفي الأثناء استعاد الشعب ألقه وتم تأبيد مجده السامق من خلال أبيات أبي القاسم الشابي في قصيدة إرادة الحياة، والاحتفاء بذلك من أدنى العالم العربي إلى أدناه، بل وفي مواطن بعيدة كل البعد عن ذلك الحيّز أيضا.
وبالرغم من جميع ذلك يطرح لفظ الشعب علينا أعوص وضعيات التناقض المترتبة على حدث الثورة. فكثيرا ما تم اعتباره الطرف الوحيد في حصولها والإعلاء تبعا من شأنه من قبل الجميع. فقد أطّراه النقابي القاعدي، والموظف السامي العائد لتوه من حجرة تبريد الجثث الميتة، والجامعي المرتعد حال خروجه من برجه العاجي، وكذا أهل السياسة على اختلاف توجهاتهم وأجيالهم. الخيول المسنّة العائدة بعد تبرئتها وإلباسها رسن البورقيبية، كما اللّحيّ الجديدة الكثة للسلفيين المندفعة من حيث لا نعلم، بل من حيث جهلنا بلا شك بأعماق مجتمع اختار الاحتفاظ إزائنا بكامل إلغازه. الجميع يمثل الشعب، بل كل شخص يختلط بالشعب يدعي احتكار أحقية تمثيله بمفرده.
ولنستعد (لفهم الأوضاع) شريط الأحداث. اندلع الغضب الاجتماعي من أعماق تونس الدواخل من سيدي بوزيد، من تلك المنطقة بالضرورة ومن القصرين أيضا...كيف يمكن للأمور أن تحصل  بشكل مختلف؟ فالتضامن بين علم الاجتماع والتاريخ يتخذ على الدوام مظهر حتميا بعد حصول الأحداث لا قبلها. تابعت تونس الحواضر، ومن خلال الجلبة المترتبة على تغطية المدونين والناشطين على الفيسبوك الأحداث، ونجحت بامتياز في تأطيرها إعلاميا بالشكل الواسع الذي عرفناه. كما توصّلت مختلف تشكيلات المجتمع المدني وفي مقدمتها المحامين إلى كسر دائرة الصمت التي عتّمت حتى ذلك التاريخ على ما أبدوه من طويل مقاومة. نقلت عملية التعبئة النقابية غير المسبوقة مركز الثورة أو قطبها مضخّمة في مدى الرجة التي أحدثتها وقوّتها. وأتت ضربة الخلاص النهائية أو عملية الدفع الأخيرة من داخل السلطة ذاتها. لن يكون بوسعنا التعرف حاضرا على مجريات انهيار النظام، قبل أن يكون بمقدور المؤرخين إنجاز أبحاثهم بعيدا عن الضجيج واحتداد التشنج الغاضب.
ساهم تداخل اللقطات والتكامل شبه العجيب لعمليات التعبئة المتساندة، الحافزة لبعضها البعض، في كتابة سيناريو الثورة بأيادي وأصوات متعدّدة، فحافظت عملية إنجازه على طابعها غير المحسوم إلى آخر مدى. فقد اتسمت الأوضاع بحالة من الحيرة سيطرت على مختلف الفعلة المحدّدين لما يمكن أن تأول إليه أوضاع البلاد، لذلك يستقيم الزعم بأن الطابع المتدرّج لنسق حصول الأحداث واتّسامها بصعوبة الحسم، فضلا عن الطابع المتضامن للتحركات الحاصلة، هو ما حوّل الأوضاع إلى ما يشبه المعزوفة السنفونية ذات الأصوات المتعاضد، تلك التي ترتب عليها في الأخير انهيار نظام بن علي على الحقيقة، ليقدم لنا الدليل القاطع غير القابل للطعن في أن ما جد في تونس ما هو إلا نتاج للشعب الذي استعصى تعريفه عن الشخصنة، والحال أن التشخيص في السياسة هو الشيء المتقاسم بشكل متساوي بين مختلف أطراف المشهد ولدى فاعلي زمن الثورة أو من لحقوا بما تلاه من الأزمان.
سحبت على الشعب الثوري وفقا للتمثلات التي يحملها كل فريق أو عائلة سياسية على حدة جملة من المزايا توافق ما تدعيه تلك العائلة لذاتها، بعد تخليصه طبعا من مختلف الدناءات التي حمل أوزارها جمّاع الأعداء السياسيون.
هناك في البداية "ثورة الياسمين" التي أقام عليها شعب وسطيّ المنازع لم يعد بوسعه تحمل تجاوزات نظام الحكم العائلي ومساوئ الدكتاتورية، فلجأ إلى طاقات شرائحه الشبابية "السبرناتيكية" أو الناشطة سياسيا على شبكة الانترنيت لكي تخلص البلاد من العائلة والأصهار الذين تزايد نبذهم وتعاظم الحقد ضدهم.
ترسخت هذه الصورة حول الثورة في الأذهان لفترة طويلة ودافعت عليها أقلام نافذة وقوية. فقد قدّر لنا أن نتأمل إبان اندلاع الثورة وبعد الترحّم في خشوع على روح الشهيد البوعزيزي في التقاطيع المميزة للمتمردين على السلطة والذين صوّروا في ثوب أبناء شعب ينعم برغد العيش محترم للمؤسسات، تتسم تصرفاته بنزوع نحو تحضر ليس له من نظير على امتداد المنطقة العربية المجاورة له. فهو شعب لم يحصل أن هاجم على الإطلاق لا المؤسسات القائمة للدولة ولا القائمين على تسييرها أيضا[3].  لا تقلقنا هنا بالضرورة حالة العمى التام أو عدم القدرة على النفاذ إلى الكيفية التي جد بها الحدث، ولكن ما يزعجنا حقيقة هو هذا الإصرار على رسم صورة للشعب كما نرغب في أن يكون عليه، شعب مُتوهّم أملس مسالم غير مشاكس. واصلت النخب المتوجّسة من حصول ذلك الحدث الجلّل إذن التعامل باستعلاء مع التصرفات المتعجرفة للمستبدين، لكنها لم تظهر تعاطفا خاصا أيضا مع الشعب بمعناه الحسّي ذاك الذي تحفظت على رعونة طباعه واتسام تصرفاته بالتهوّر.
برزت للعيان مباشرة وعلى إثر انتخابات الـ 23من أكتوبر 2011 فكرة مختلفة حول الثورة متبوعة بصورة جديدة للشعب. فقد ادعى السيد سمير ديلو الوزير الحالي لحقوق الإنسان ومن بعده السيد المنصف بن سالم الوزير الغريب الأطوار للتعليم العالي، بأن الشبكات النائمة للإسلاميين قد شاركت في الثورة إذ لم تكن هي القائمة عليها فعلا[4] . لكن وإزاء التكذيب القاطع لشباب الثورة بسيدي بوزيد والطابع القاطع للوقائع التي لا تحتمل أي تأويل، فضلا عن التصريحات المورِّطة التي أدلى بها السيد حمادي الجبالي[5] بخصوص تأخر رد فعل مناضلي حركة النهضة إزاء حدث الثورة، فإن جميعهم بما في ذلك زعماء الحركة التاريخيين قد اكتفى بالحديث عن "ثورة للشباب جاءت لمصالحة المجتمع مع قيمه الإسلامية"، وتلك صيغة تحمل إبهاما مقصودا مُفادها وقوف "شعب من المؤمنين" ضد نظام كافر. ويرمي هذا الخلط المقصود بين المضامين السياسية والدينية عبر الربط بشكل فاضح بين الكفر والدكتاتورية ونسول تلك الصفة من سبقتها، إلى فرض تمثّل جديد للشعب يتسم بطابعه العتيق وغير المسبوق في آن.
أدى التدرّج في عملية التراجع عن مضمون التصريحات الأولى إلى ثورة صغيرة في خطاب الإسلاميين. ولنتذكر جميعا الوعود المضلّلة التي قدموها سنة 2005 بعد حصول تحالف 18 أكتوبر[6]لما كان السيد راشد الغنوشي يكرّر على مسامع كل راغب في تصديقه: "نحن لا نريد أن نشكّل سوى تغيير لوني بسيط على مساحة لوحة الديمقراطية المنتظرة"، في حين أبدى شق أخر من قادة حركة النهضة مواقف اتسمت بمزيد من الهروب إلى الأمام، عندما عبروا على أنهم لا يرون غضاضة في الموافقة على السياسة المدنية التي أعلى من شأنها النموذج الإسلامي التركي. إلا أن الإيماء بذلك شفويا كان مشوبا بكثير من التورية والغموض حتى وإن ليس هناك من شكّ في أنه قد قيل فعلا.
كما قد يتذكر جميعنا أيضا شدة الحذر الذي أبداه أولئك القياديون في اختيار المصطلحات اللغوية التي اعتمدوها في الفترة الفاصلة بين 14 جانفي والـ 23 من أكتوبر، لكن كل تلك التفاصيل تبدو بعيدة عنّا الآن. فالخطاب الإسلامي الذي تموضع بَعْدُ في قلب الساحة السياسية يتسم بقدرته على تجاوز عقده القديمة مع اتصافه بضعف التجانس في المواقف: فمن الأصوات شبه السلفية حتى التبشير الضبابي وغير المحسوم بالسير على خطى "إسلام الشباب التركي"، هناك تنويعات موسيقية واسعة غالبا ما تفضي إلى ترابط غير صحي بل وإلى حالة من فوضى الأصوات. على أن القاعدة المشتركة للقناعات تحيل على هوية الشعب غير القابلة لأي تأويل، تلك التي تجعل الإسلام أصل في الأشياء، لأن المعتقدات والأعراف والعادات و...حتى المؤسسات أيضا تصدر جميعها عنه بعد أن نكون قد أخضعناها إلى بعض "التحويرات المقبولة"(شرعا ودينا).
يتمكن الشعب من فرض ذاته منذ اللحظة التي يشهر فيها عقيدته، غنيا كان مثل كريزوس Crésusأو فقيرا صابرا صبر أيوب Job. أما جميع ما سوى ذلك فبوسع القادة الإسلاميون التفاوض بشأنه مع عدم التهيب عن الانقلاب على المواقف الأصلية بخصوص المسائل الدينية والسياسية الكبرى، وكذا تلك التي تقل عنها أهمية. يكفي أن نعمد وكلما ألجأتنا الظروف إلى النكوص على أعقابنا والتراجع عن مواقفنا، بل وعدم الالتزام بما تعهدنا به في السابق. فالانتحار حرقا لم يعد يشكل كبيرة على غرار بقية حالات الانتحار على اختلافها. يحلّل ما أبداه أهل سيدي بوزيد من بسالة تخصيصهم بإصدار فتوى تبرّر تصرفاتهم أو تجاوزاتهم من وجهة نظر شرعية. ثم من بقي يتذكر الآن محمد البوعزيزي؟ وقس على  ذلك بالنسبة للسجال الحاد حول مسألة التنصيص على الشريعة ضمن نص الدستور المنتظر؟ وما الداعي أصلا إلى إرهاق النفس في مزيد السجال أو المناكفة حول مسائل اشتقاقية ولغوية، في حين لم تبرح "الدولة موقعها كمؤتمنة على تطبيق الأحكام الشرعية الإسلامية"؟ (تساوقا مع ما صرح به رئيس الحركة ومرشدها).
لقد عوّل زعيم حركة النهضة على مصطلح التدافع (ومعناه لغة المكاتفة والاحتكاك الاجتماعي والسياسي)، من أجل توصيف التنافس الديمقراطي الموعود، أو للتنبؤ بانتصار القيم التي يدافع عنها الإسلام السياسي، وهو انتصار غالبا ما أعلن عن نفسه بوصفه عودة للأوضاع إلى نصابها أو تصويب لا رجعة فيه لمدلول الهوية: فالشعب المسلم هو من أنجز ثورته من أجل استعادة هويته الإسلامية (المسلوبة)، وهو يستعد الآن لإعادة تأصيل مؤسساته ضمن الحدود التي تسمح بها المبادئ الأساسية لتلك الهوية الإسلامية.
من المنطقي أن يرفض غالبية الفعلة غير الإسلاميين مثل هذه التصوّرات، معتبرين أنها لا تشكّل إلا محاولة للاستفراد بالإرث المشترك على الحقيقة. وتذهب الأطراف الأشد تطرفا إلى حد رفض فكرة الثورة في حد ذاتها بل والتشكيك في وجود شعب ثائر، مكتفية وفي أحسن الحالات بالقبول بحصول انتفاضة. فالثورة من منظور أولئك هي إبداع تصوغ أحداثه عبقرية التاريخ، مع افتراض حضور طليعة تسهم في إنضاج وعي الثورة بذاتها. على أن حصولها يدفع إلى تقسيم المراحل التي تمر بها من أزمنة مقاومة صبورة، تليها وضعيات رفع للنسق أو للسرعة وصولا إلى الذروة من خلال الاستيلاء على القصر الشتوي... (إحالة على الثورة الروسية طبعا).
لكن إذا ما نحن تجازونا مثل هذه التصورات الحالمة التي انقضى فصلها، والتي لم يحد عنها إلى يومنا هذا قلة من بين المتمسكين بالشيوعية البولشفية، فإن الفكرة المنتشرة بين العديد من الأوساط - وليس بين المنتسبين إلى اليسار المتطرّف وحدهم - هي حصول عملية انتزاع للثورة الاجتماعية من يد أصحابها. حيث يصّر المدافعون على هذه التصوّرات على وجود ما يشبه التحالف بين الفقراء (أو الزواولة باللهجة التونسية المحلية) وبين المهمّشين سواء بالأرياف أو بالمدن، وهو ما يمثل آخر أشكال التعبير عن التحالفات الطبقية بين العمال والمزارعين القادرة وحدها على إنجاز "مهام" الثورة، حتى وإن لم تعدم هذه الأخيرة أعداء أشداء هم "فلول" النظام السابق و"أزلامه"، وكذلك انتهازيو مرحلة ما بعد الثورة.
يتم تمثل هذه الثورة المضادة غالبا على قاعدة امتدادها في الزمن، مع اختزال مدلولها بشكل دائم في تنكر النخب، من بين جميع المنتسبين إلى العائلات الفكرية والسياسية لمبادئ الثورة[7] تلك التي لا يحرص على الوفاء لها في المقابل سوى من انتسب للمربع الأخير من الثوريين، أولئك الذين غالبا ما يوَاجَهون بعدم التفهم من قبل جمهور الناخبين، على الرغم من أنهم أصدق الناطقين باسم الشعب "الحق".
يبدو التوليف المقترح ومن دون شك مبتسرا، بل وغير عادل أحيانا. كما أعترف بأنني أشعر إزاء هذا الفصيل من المدافعين على فكرة الصراع الطبقي بمشاعر لا تخلو من التعاطف، لأنهم يُبدون تمسّكا بعد تداعي كبريات الرويات الأيديولوجية، بالدفاع ومهما كلفهم ذلك من تضحيات، على المطالب الاجتماعية. غير أن ما احتسبه ضد هؤلاء هو توجّههم المغلوط نحو تدبّر الأحداث بعد حصولها، واعتقادهم الراسخ بأن الحقيقة والحضور الذهني فضيلتان مصدرهما الأصلي الشعب، لذلك لا يقوم أولئك وفي آخر التحليل إلا بمقايضة الواقع بالنظرية الفكرية. والحال أن من العادات المأثورة عن لينين في زمانه التذكير بهذا البيت للشاعر لألماني قوته:
" يا صديقي، رمادي هو لون النظريات جميعا / خضراء هي الشجرة النفيسة للحياة"
صحيح أن الدغماية لم تتعض بأقوال الشعراء، إلا أن أصحابنا لا يبدون حاضرا وعلى ما نقل عنهم تمسّكا كبيرا بنظرية لينين، لذلك تراجعت توجهاتهم ولحسن الحظ كثيرا عن مواقعها.
وتبقى اللوحة التي شكلناها غير مكتملة إذ لم نُلحق بها تمثّل آخر للثورة يتصل بتصوّر للشعب يعتبر أن الثورة قد حصلت من دون ثوار، وأن توجهاتها الدستورية قد سبقت جانبها الاجتماعي بحيث قام مدلول المواطن بالتهام مدلول الشعب. تعمد تلك القيمة التي شكلت مصطلحا فضفاضا على فسخ النتوءات البارزة على سطح الفعل الاجتماعي، فيتوارى من جراء ذلك الصراع الاجتماعي مقابل تعاظم "الحراك المواطني". فانجذاب القوى السياسية للدفاع عن القيم المدنية – المعروفة بالعلمانية – إلى وسط رقعة الشطرنج يعكس بجلاء تخليها عن التوجهات الاجتماعية وعن المشروع الذي حمل ماضيا تسمية اليسار التونسي الهرم حاضرا. لذلك فإنه إذا ما تمكن النضال الاجتماعي من مغالبة الاندثار زمن حكم بن علي، فإنه لن يستطيع التغلب على قدره المحتوم بالانقراض بعد حصول الثورة.
لقد تم الاستهزاء عبثا بعياض بن عاشور عندما اعتبر أن الشعب الذي أنجز الثورة ليس هو ذلك الذي توجه للاقتراع يوم الانتخابات. لكن هذا الاستنتاج الذي يقره الحسّ السليم له من دون شكّ انعكاسات أكثر ثقلا بالقياس لما تم التعبير عنه من قبل هذا المناضل المدني. إذ هو يقودنا إلى طرح سؤال أنطلوجي يحمل أشكال متعددة: فعمّن نحن نتحدث تحديدا؟ وهل أن مختلف المجسَمات المتصلة بالشعب تعكس بدقة حدث الثورة وتضبط قائمة فاعليها؟ 
أنتج مشهد ما بعد الثورة وإذا ما تجازونا الاختلافات في المواقف لغة خشبية جديدة تزعم أن الثورة قد أصدعت بجملة من الأهداف والمهام المتولدة عنها، تلك التي شكلت على الحقيقة الشرعية العميقة لمختلف المؤسسات التي تم تلفيقها إما بعد قيام الثورة في 14 من شهر جانفي أو هي بصدد الانجاز منذ 23 من شهر أكوبر موعد إجراء انتخابات المجلس التأسيسي. إلا أن ما حصل للثورة ما هو في الحقيقة إلا تحوّل من النطق بالفم إلى المخاطبة بالبطن، لذلك نجدها تتحدث باسم شَعْبٍ يتغيّر شكله ويعاد تركيب مفرداته اللغوية من خطاب إلى آخر. على أن هذا الاختلاف العميق حول الصورة المتمثَلَة للشعب يُفصح من جانب آخر عن حضور العديد من الصراعات.
ولا يمثل الصراع في حد ذاته نذير شؤم، إذا ما تمّ القبول به كقاعدة حقيقية للإسراع في تطبيق الفكر الديمقراطي. لكن حتى نقوم بتنظيم عملية احترام الاختلاف لابد على الأقل من تحقيق توافق حول تلك الصورة غير المؤكدة التي أطلقنا عليها اسم الشعب،  مما ينهض حجة على سعينا وفي آخر المطاف إلى تحقيق اتفاق حول مسألة هي بين الأخذ والردّ أصلا. ففكرة الشعب الحاضرة بقوة غير القابلة للتجسيم في آن، هي شاهد صارخ على حضور مأزق. فالشعب ليس بالوسع ابتساره في مختلف المجسَّمات التي أحدثناها قصد تطويقه، وهو على ذلك يتسم دائما باتخاذ مسافة إزاء مختلف القيم الكونية التي سبق وأن عمدنا إلى إكراهه على ارتدائها.
الثورة ليست من فعل شعب مُلمٍّ بتقنيات الرقمنة تمخضت بطولته عن مرحلة ما بعد الحداثة أو العولمة الجديدة. كما هي لم تنتج عن هبّة شعب من المؤمنين قام ضد هيمنة اللائكية. ولم تصدر عن جماعة هلامية غير محدّدة النسبة أو الشكل، تم التواضع بمقتضى الكسل الذهني أو بفعل حسابات سياسية على ربطها بمدلول فضفاض للمواطنة.
كوجتو الثورة، أو الشيء المؤكد الذي يقف ضد جميع حالات الريبة والشك، هو أفقها الاجتماعي. فأولى صوّر المنتفضين كما هو واعز أبرز فاعلي المجتمع المدني أو دافعهم،  والشعارات المرفوعة سواء حال انطلاق الثورة أو عند التعبير عن نفاذ الصبر خلال المرحلة التي تلتها... تدل جميعها على أن مرد قيامها هو تغيير المجتمع بشكل أعمق.
ما حصل بعد ذلك، هو استبداد الأطراف السياسية على تنويعاتها بشعارها الأهم "الشعب يريد" عاملة، كل وفقا أجندتها الخاصة، على مزيد إرجاء مسألة التغيير الاجتماعي.
لندرك القصد جيدا، نحن لسنا بالمرة بصدد إنكار فكرة الشعب أو بصدد تمييع مسألة اللجوء إلى استعمالها، ولكننا نبغي وضع مختلف أشكال احتكارها موضع أزمة وتفكيك، مشدّدين على شدة تضارب مختلف الرؤى الصادرة عن اتجاهات سياسية تحمل في معظمها إيديولوجيات شعْبوية بصرف النظر على ما تتوفر عليه من قدرات مادية وإمكانيات تعبوية. 
فالشعب كموضوع سياسي هو التعبير المــُتمثَّل بامتياز للصورة الاجتماعية والديمقراطية، حتى وإن تم تبليغ ذلك أو نقله بشكل مسرف في الكليّة Tautologie. لذلك يتعين علينا أن نرسم أفق لتلك الرغبة الواسعة الانتشار والعاملة على استدعاء الشعب كفاعل يمتلك حضورا قبّليا، كي نتوصل إلى تعقّله كفاعل قادم، أي كمنجز يتم في رحم الحدث ومن داخل العملية المضنية والصبورة للبناء الديمقراطي.
يتحدث الفيلسوف الفرنسي جيل دلوز Jules Deleuze عن "شعب مفقود"، يتعين علينا اختراعه بشكل مستمر. يحسن بنا إذن أن نعثر على استعمال يتسم بأوفر قدر من الحذر، بل أكاد أقول بأكثر قدر من التواضع لمثل هذا المدلول المحوري للفلسفة وللممارسة السياسية في آن، عامدين إلى تخليصه من جميع الماهويات المنافسة له، مع العفو التام عن توظيفه بهكذا طريقة « des-essentialiser » معيدين له بذلك تشعّبه الاجتماعي واتسامه بعدم الاكتمال أيضا.
    


[1]   دافعت بياتريس هيبو Béatrice Hibou  وضمن مؤلفها "قوة الطاعة" جزئيا على مثل هذا الاستعداد للخدمة المستكنة الذليلة، حتى وإن توفرت العروض المدرجة ضمن كتابها على معطيات تقيم تمايزا جليا مع ما اختارته له كعنوان.  
[2]  تجاوبا مع عنوان مقال يوسف الصديق وك. غانتينK. Gantin الصادر بصحيفة لومند دبلوماتبك le Monde Diplomatique في عدد شهر جويلية لسنة 2008.
[3]  يمكن العودة للتدليل على حضور مثل ذلك التوجه وعلى سبيل المثال لمقال هالة الباجي Hélé Bejiالصادر بمجلة لونوفيل أوبسرفاتر Nouvel Observateur بتاريخ جانفي 2011 الذي حمل عنوان "القديس البوعزيزي". ما من شك في قدرات المؤلفة الأدبية وطيب النوايا الديمقراطية البراقة في ثنايا مقالها ذاك الذي يخفي مضمونه سلسلة من الأفكار الجاهزة حول "الشعب المهذّب" المتّسم "بأخلاق عالية". كما يحيل على حالة نادرة من العمى حول "ثورة حصل بخصوصها إجماع، لا يمكن بأي حال من الأحوال اختزالها في أي حركة معارضة سياسية. فلفظة معارضة ذاتها لها هاهنا مدلول الحدث الوقتي المتلاشي. كما لم تكن الدولة التونسية خلالها وفي أي وقت من الأوقات عرضة للتهديد، في حين اعتبرت الوظيفة الرئاسية السامية بالنسبة لأغلبية التونسيين الضامن لكرامتهم الشخصية. ..."      

[4]  ضمن خطاب الترحيب بالشيخ يوسف القرضاوي خلال زيارته لتونس في شهر ماي 2012 استعار راشد الغنوشي لحسابه الخاص "التهمة" الموجهة ضد داعية الجزيرة والتي أسندت له تصريحا قال فيه بأن "الربيع العربي خرج من تحت عباءته".   
[5]   راجع الحوار الذي أدلى به رئيس الحكومة المرتقب بتاريخ 17 فيفري 2011 لمجلة حقائق، والذي أشار فيه إلى أنه "خلال العديد من السنوات لم يعد لتنظيم حزب النهضة أي وجود فعلي، فتشديد الملاحقة وتعاظم غطرسة الجهاز القمعي للدولة قد ألجمت ألسنة المناضلين."
- هل يفسر هذا السبب مساهمتكم الضعيفة في التحركات الشعبية التونسية في بداياتها على الأقل؟ 
" بالضبط،  فالبعض من مناضلينا قد تظاهروا منذ الأيام الأولى، لكن أغلبية إخواننا لم يلتحقوا بالحركة إلا لاحقا، وبعد أن تمت زعزعة حائط الخوف الذي أصيب بالتشقق، وهذا لم يخصّ حركة النهضة وحدها، فجميع القوى السياسية قد ردت الفعل بنفس تلك الطريقة."
[6]  جماعي، انظر الملف الذي خصصناه ضمن مجلة نشاز لحركة 18 أكتوبر 2005.
[7]    حول الصورة الطوباوية للثورة كمنجز إبداعي يمكن الرجوع إلى عمر الشارني، الثورة التونسية تستولي على التاريخ، البراق 2011.

 مقال لهشام عبد الصمد صدر في العدد الأخير من المجلة الالكترونية نشاز: 
تحت عنوان " Le peuple et ses masques قمنا بترجمة مضمونه مع بعض التصرّف إلى اللغة العربية.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire