لو
عنّ لنا التساؤل بخصوص مدلول دقيق يقارب تمثّلنا كمجتمع يمتلك حدا معقولا من
التجانس المحدّد للانتساب إلى وطن مشترك لإرثنا الغنائي والموسيقى، لاضطرنا ذلك
قطعا إلى معاودة زيارة أثر جامع مر على خطه اليوم قرن من الزمان، ولم يفقد بريقه
كحجة في ضربه ومرجع في معارفه. فقد أهدى محمد الصادق الرزقي (1874 - 1939)[1] للمكتبة التونسية أثرا
جامعا في عادات التونسيين وتقاليدهم وآدابهم في الفن والغناء، تخيّر له عنوان "الأغاني التونسية".
ولئن بدا لنا من الصعب تحديد مقومات ذلك التجانس معنًى
ومغنى، باعتبار قدم الممارسة الموسيقية تونسيا وعودة القرائن الدالة على إرهاصاتها
الأولى إلى آلاف السنين، فإن ما تناقلته الأجيال عبر التواتر الشفوي من إرث مجهول
الهوية، هو ما يشكل حاضرا مخزونا مهيمنا وصل إلينا وفق أشكال تعبير موسيقية يمكن
اختزالها في ضروب أساسية ثلاثة هي:
الموسيقى الشعبية، تلك التي تفتقت عنها عارضة مختلف
الفئات الاجتماعية وأثثت معاشها اليومي، معبرة عن أدق مشاعرها هزلا وجدا، زمن المسرّة والفرح وفي حال الشدة والكرب.
وموسيقى "المالوف" التي تحيل على طبوع
المغنى المغربي الأندلسي بتونس ومتقن التعبيرات الموسيقية الكلاسيكية ببلادنا.
والموسيقى الطرقية التي تمثل تعبيرات فنية غنيّة
ومتنوعة تحيل تاريخيا على بدايات التصوّف المنظم في القرن الثاني عشر. فقد ارتبط
هذا الضرب في أصوله بامتداد ظاهرة التزوي والاعتقاد في الصلاح وأربابه مغربا، وشكّل
منذ ذلك التاريخ محملا أساسيا لطقوس الاحتفال الديني كما الدنيوي.
والبيّن على لما أثبته العارفون بالشأن الموسيقى
التونسي، أن تفاعل مختلف تلك العناصر الثقافية، هو الذي أدى إلى بروز خصوصية أو
قالب معروف نشأت عنه بالتقادم هوية موسيقية مخصوصة، وشكّل الخيط الهادي في اتساق
توارثها عبر الزمن. كما أن توظيف تلك الضروب بشكل منفصل أو بطريقة متّصلة مع عناصر
موسيقية وغير موسيقية متنوعة، هو ما سمح بإنتاج ما أُطلق عليه تسمية "اللهجة
الموسيقية التونسية"[2]، تلك التي حدّدت ولا
تزال كيفية تلقي السامعين والمولعين بتلك الأعمال وردّها إلى إرث موسيقي مشترك.
ويفترض حضور "لهجة موسيقية تونسية" من وجهة نظر
العارفين بطبوعها، الاعتماد على لهجة محلّية، أو توظيف إيقاع موسيقي موروث أو طبع
أو نغمة أو صوت شكّل عنصرا مميّزا ضمن ضرب من ضروب الموسيقى التراثية التونسية، أو
التعويل على توشيح وإيقاع محسوب عليها. كما يفترض أن تتوفر تلك اللهجة على عناصر أخرى تكتسي
أهمية بالغة في عملية تذوّقها من وجهة نظر النسبة والانتماء، على غرار التعويل على
صوت موسيقى مميز، أو الاستناد على عنصر موسيقي يتوفر على بعد رمزي أو شكلي له صلة
وثيقة بصورتها النمطية، حتى وإن اندرج ذلك العنصر خارج مجالها الفني أو التقني
البحت، على غرار القيافة أو التزويق أو موضع العرض أو سياق الاحتفال.
لذلك تشكّل الموسيقى التراثية لا موسيقى التراث، عملية
توليف للعديد من التعبيرات تحيل على الثقافة الموسيقية للمجموعة خلال مرحلة معينة
من تاريخها، وتمكّنها من تمثل "لهجتها الموسيقية" المحلية وربطها بمدلول
ثابت ومحسوس لهويتها الموسيقية الجماعية.
تصدر الأمثال عن أفواه الناطقين بحكمتها، والخرافات عن
العارفين بتفاصيل وقائعها وحبكاتها، أما الأغاني فتصبو إلى أن يردّدها الكافة
فوريا في إخراج جمعي، حيث تعبر الجماعة عن ذاتها ضمن عرض تلقائي، يكتفي بذاته عن
جميع أشكال التواصل المعروفة وشروطها. لذلك يبدو مدهشا حقا أن يكون بوسع الفنون
المحسوبة على الشعب، أن ترتقي ومن خلال المغنى إلى مستوى التعبير الثقافي الرفيع، متوسّلة
في ذلك بالإنشاد، مقتطعة لنفسهما حضورا شاعريا يتسم بأدبية مستقلة تعشّش في
الذاكرة الجماعية وتشكل إطارا للخلق والإبداع يصعب التدقيق في مقتضياته ومعالمه[3].
ذاك ما أراد مؤلف كتاب "الأغاني التونسية" التعريف
به، لما عرض على راعي الفنون والآداب المستقر بقصر النجمة الزهراء في الضاحية
الشمالية لتونس، البارون الانجليزي الجنسية والفرنسي الأصول "رودولف ديرلنجي Rodolphe
d’Erlanger (1872 – 1932) وفي
أواسط العشرية الثانية للقرن الماضي فريدته التي استوفى تحريرها حول عادات
التونسيين الموسيقية وتقاليدهم. فآثر بها هذا الأخير خصيصة نفسه، حاجبا ظهورها عن
كل ناظر. إلا أن مشيئة القدر أعادت دّرها إلى مكمنه، لما أقامت على نشرها المؤسسة
الراعية للثقافة في دولة الاستقلال ونقصد كتابة الدولة للشؤون الثقافية والأخبار،
وذلك بعد نصف قرن من موعد الانتهاء من تأليفها.
يحتوي أثر الصادق الرزقي على لمحة تاريخية جامعة حول
علاقة العرب بالمغنى، وعرض لتاريخه خلال مختلف الأدوار الحضارية التي مرت بها بلاد
العرب والإسلام، متفرّغا بعد ذلك للوقوف عند مكونات الموسيقى المتقنة الموسومة
بالمالوف، فمضمون الاحتفالات الدنيوية والدينية والقائمين عليها، فضلا عن تعريفات
موجزة بالطرق الصوفية المنتشرة بالقطر التونسي وتوضيحات أتنوغرافية دقيقة ومفيدة
بخصوص طقوس الاحتفال وعرض مرقّم للطبوع التونسية في نوباتها الثلاثة عشر المتداولة أو
المعروفة. وختمت العروض بملاحظات قيّمة حول عدد من الظواهر الناسلة عن المغنى
التونسي مثل الموشحات الموضوعة في الطبوع والإيقاعات التونسية وملحون الأزجال الماجنة
للهامشيين.
ونعرض في ختام هذه النبذة إلى عينات مختارة من مخزون
الأغاني التونسية:
أبيات من أغنية "مع
العزّابة"
نا بكرتي شردت مع العزّابة خشّت
بلاد الشيح والقطابة
...
يا سايقين البلّ يا جمّالة تونس بعيدة والعرب قتّاله
يا تونس الخضراء يا مسميّة بلادي بعيدة والعرب قطعيّه
هاك الجبل لزرق جبل والدتي يا ليتها عقرت ولا جابتني
ها يا جبل وسلات وسّع بالك اللي جرى للحامة يجرى لك
أبيات من أغنية "يا مقواني"
نخطم على الأوهام يا مقواني الريح قبلي والعجاح عماني
زيد الحطب للنار خلّي ترقى طفلة صغيرة ما تطيق الفرقة
...
وشمة على البزول يا ما أزرقها حرقت
قلبي قبل ما نلحقها
يا زرعين الفل فوق عليكم لاش الغريب يموت بين يديكم
طيرة على القفّون ضبح جلجلها الما
حذاها والعطش قاتلها
هوني منازلهم وهوني كانوا هوّنتهم على خاطري ما هانوا
...
شيّعتهم بالعين مشيّع راجع والوحش والغربة يخلّي مواجع
أبيات من أغنية "فراق غزالي"
العين تنحب من فراق غزالي حتى لذيذ النوم ما يحلالي
رحــــــــــــــــلـــــــــوا
بـــــــــــــــــــــــــــــــــها
سود المِيَامِي مذبّلة عينيها
لو كان صابت حكمها بيديها يِحْدِثْ عليها تقول جيبوا خالي
يِحْدِثْ على العبد ساعات شيء الذي لا
يوالــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم
واللّي يقرا العقوبــــــــــــــــــات تبعد عليه
المظالـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم
وْزِنْت حكّرت الأوقات لا حد من حد
سالـــــــــــــــــــــــــــــــــم
حكّر
تنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــجى أُوزِن بعقلك في مثيل السنجه
محال نصبر على فراق الغنجه وفراقها ما كان شي في بالي
أبيات من أغنية "لميت لمّ
المخاليل"
لميت لمّ المخاليل عدّيت الأيام طالوا
خليت صُرْبَه مهابيل في غيبتي آش قالوا
يا لندرا يا جناني في غيبتي من يصونك
خايف يزوروك الأعدا
ويقطّعوا من غصونك
يا نار عفّي عليّ يا نار قلبي حرقته
يا نار اشعل شويّه في
قلب اللّي عشقته.
لا يزيد ما جمعه مؤلف الأغاني التونسية وفقا لما نعتقد
أن قارئ هذه العجالة قد تفطن له بعد، عن اقتناص مشبع الكلم بعد أن ترسّخ في
الذاكرة الجماعية لفظا وطبعا وإيقاعا، وأنشدته حناجر التونسيين صاغر عن كابر إلى
أن وصلنا مُعجما في لغة بسيطة وفي شكل ينم عن حسّ مرهف وذوق أخاذ.
تلك
لمحة خاطفة أردنا من خلالها تقريب تحفة في صُنعها وفريدة في ضربها، وشّحها مصنفها
بأفانين لم يبل الزمان من نضارتها،
ولا يمكن لمكتبة تونسية خاصة أو عامة أن تستغني عن حضورها ضمن أمهات كنوزها.
صورة نادرة للصادق الرزقي
[1] لد سنة 1874 ببنزرت وتعلم بها ثم
انتقل إلى تونس في حدود سنة 1909
ليعمل بإدارة الغابات ويسهم في تأسيس العديد من الشركات والجمعيات الثقافية. ثم
تخلى عن الوظيفة ليشتغل بالنيابات التجارية وأصدر مع بداية عشرينات القرن الماضي
مجلتي "العمران" و"إفريقيا"، فاتحا مكتبا للنيابة العقارية
وذلك حتى موعد وفاته في 22
من شهر ديسمبر
1939.
[2] Sakli
(Mourad), « Musique
néo-traditionnelle arabe et contrainte identitaire : le concept d’intonation
musicale », in Actes du Congrès des Musiques du Monde de l’Islam,
Maisons des Cultures du Monde, Asilah 2007, http://www.mcm.asso.fr/site02/music-w-islam/articles/Sakli-2007.pdf
[3] Febvre
(Lucien), « Folklore et folkloristes », dans Annales d’Histoire
Sociale, vol. I, 1939 p. 152 – 160.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire