lundi 14 juillet 2014

حول رواية " القرن الذهبي أو "الكواتروشنتو" لـ "ستفن غرينبليت




        



                

       عاين القرن الخامس عشر أو القرن الذهبي أبرز اختراعات الأزمنة الحديثة، فقد ساهمت الطباعة في إحداث انقلاب في نمط انتشار الثقافة، تلك التي تحولت تبعا إلى أداة محورية في توسيع دائرة انتشار محدث التصوّرات والأفكار. في خضم أحداث ذلك القرن يعرّفنا "ستفن غرينبليت Stephen Greenblatt" على شخصية الرحالة "بوجي الفلورنسي Poggi le Florentin" الطريفة المولعة بالتفتيش عن كنوز المخطوطات الدفينة المتصلة بالمعارف الإنسانية القديمة داخل الكنائس وأديرة الرهبان. فقد شغل بطل هذه الرواية مهمة كاتب خاص للعديد من بابويات الكنيسة الكاثوليكية، موظفا التصاريح التي مدوه بها للتنقيب عن ضالته في مختلف أماكن التعبد والانقطاع للعمل التي زارها، وهي التي شكلت أهم مراكز القراءة والحفظ وإنتاج المعرفة والائتمان على المصنفات النفيسة بكامل أرجاء إيطاليا القرون الوسطى.
لم يكن من السهل على شخصية لا تنتسب إلى الوسط المتدين أن تُفتح لها أبواب تلك الخزائن، غير أن بطل "الكواتروشنتو" قد نجح في كسر الطوق وتكشّف على المحظور عن أعين الفضوليين من أمثاله. فقد توصّل في يوم من أيام قرن بداية عصر الإحياء إلى العثور على قسم مخطوط من ديوان الفيلسوف الروماني لوكريس Lucrèce الذي عاش خلال القرن الأول قبل الميلاد يحمل عنوان: "في طبيعة الأشياء" De natura rerum وهو قصيد فلسفي مكتوب باللغة اللاتينية يُحسب على الجنس الملحمي، شكّل ترجمة مستحدثة لمختلف الأفكار والتأملات التي بشرت بها الأبيقورية في دعوتها لكسر أصفاد الأبواب الموصدة والتكشّف على حقيقة الكون عارية حتى يتمكن البشر من القطع مع التهيؤ والخرافة ويترقى في سلم التأمل حتى بلوغ مقام السكينة الروحية.
من بوسعه أن يتصوّر أن فلسفة في قيمة ما خلفته الأبيقورية مضمّنة في ديوان الشاعر الروماني لوكريس ستبقى محفوظة في خزانة مكتبة دير للتبتل والانقطاع يُحرّم سدنته الاطلاع على نظريات "إلحادية مشبوهة" كتلك التي خلّفها فلاسفة اليونان الماديون الموصومون بتقريظ اللذة والإرجاف بالزندقة. ثم من هو ذاك الراهب الذي عكف على نسخ أثر كهذا في غضون القرن التاسع الميلادي ودسه بعيدا عن عيون الفضوليين في ركن معتم رطب حماية له من صروف الزمن وأرزائه ومن غائلة التلف والحرق والغرق دهرا لا يقل عن خمسة قرون، وذلك في انتظار أن يقع في يد "بوجّي الفلورنسي" المولع بالتفتيش عن كنوز المعارف الإنسانية القديمة ذات يوم من أيام سنة 1417.
حكاية ذلك الكشف الفارق والصراع من أجل خروج أفكار قدامى الإغريق والرومان من ظلمة الأديرة إلى ساطع الأنوار، هي ما قصه علينا "ستيفن غرينبليت" بتدبر وبالتعويل على ألفاظ ميسرة لا تنقصها الدقة أو التبحّر تحتاج إلى زاد ثقافي رفيع حتى يدرك القارئ أهمية هذا الكشف في انطلاق إرهاصات الإحياء الأولى والقطع نهائيا مع أفكار القرون الوسطى وخرافاتها.
تم اعتبار "الكواتروشنتو" أفضل رواية تاريخية لسنة 2013، حتى وإن تفطن كل من قُدر له الاطلاع على مضمونها أنها لا تمت للجنس الروائي التاريخي بصلة، وأن علاقتها بالمقابسة الأدبية أمتن وأوثق.  وهي حقيقة سيدركها قراء هذا الأثر بسهولة بعد اطلاعهم على مضمون التصدير الذي مهّد به الكاتب لعمله، فضلا عن طول فصوله وأسلوب سرده الذي يتعارض مع تقنيات القص الروائي، دون أن يتنقّص جميع ذلك من قيمة عروضه الممتعة وجاذبيتها.
لم يقتف مؤلف رواية "الكواتروشنتو" أساليب "أمين معلوف" أو "جلبارت سينوي Gilbert Sinoué" و"كريسيان جاك Christian Jacques " الروائية التي تقحمنا دفعة في مغامرات تحيل على سياق تاريخي بعينه، فقد تمسّك كاتب هذا الأثر الشيّق وفي أغلب فصول مؤلفه بنظرة الباحث في علم التاريخ لا بتلك التي يوظفها القصاص في كتابة نصوصه الروائية، يكفي أن نحيل على كثرة الشواهد والمقولات والملاحق المتصلة بالمتن، حتى ندرك أن تقاطيع شخصية "بوجيّ الفلورنسي" بطل رواية "الكواترشنتو" منغرسة بكليتها في التاريخ لا في القصّ والروائي، لكن مثل تلك الحقيقة لم تشكل البتة حاجزا بين المؤلف وبين حصول مقابساته على جائزة البولتسر الذائعة الصيت أمريكيا.
ينقلنا مؤلف "القرن الذهبي" على كفوف الإمتاع والمؤانسة لاكتشاف تفاصيل مرحلة معلِّمة من تاريخ الغرب الأوروبي. فحال حديثه عن واقع الكنيسة الكاثوليكية يقرّبنا "غرينبليت" من تفاصيل أيامها وأعمالها حتى نخال أنّنا تحوّلنا إلى جزء لا يتجزأ من مشهدها الكدر، وعندما يحفل بتاريخ دير من الأديرة نجد أنفسنا إزاء زخم من التفاصيل الدقيقة المتصلة بالمكان وسياقه، لكأن عارضها قد تخلى عن مشروع روايته الأصلي مفضّلا التمسك بعمل المؤرخ عن التورّط في دور الراوية، غير أنه سرعان ما يعود إلى بطل روايته "بوجّي الفلورنسي" ووقائع اكتشافه لديوان "لوكريس" وأجواء اطلاعه على فلسفة "أبيقور" وطقوس المعرفة عند قدامى الإغريق.

يلعب "لوكريس" دور الدليل المثالي لفهم "حقيقة الأشياء" وإعادة تشييد الذات كي تكون أمضى عزما على شقّ طريقها في الحياة بفضول الملتذ، مستقبلة نهايتها المحتومة بما يحتاجه ذلك من إباء وعزة وكرامة. فالذات البشرية هي الباعثة على التفكير في كل شيء، والكون ليس له من خالق أو مصوّر، كما أن انتظامه أو اختلاله لم يصدرا البتة عن تدبير مقدس، أما الإنعام فلا يعدو أن يكون محض تخيّل بشري. ذاك ما ردّده أبيقور وأعادت أشعار "لوكريس" تصويره خلال عصور غابرة تحكّمت الأرباب أثنائها في كل شيء. ولنا أن نتصور وقع الانفجار المدوي الذي خلفه إخراج "بوجّي الفلورنسي" لكتاب "طبيعة الأشياء" في قلب إيطاليا البابوية المتزمتة، حيث لم يكن من الهين ولا من المعقول أيضا أن يتعمد المرء حال عثوره على مخطوطة نفيسة وفريدة كتلك التي نحن بصددها، أن يعرّضها مجدد للضياع أو التلف من دون أن يجهد نفسه في عرضها على واسع القراء كي يتفحصوا مضامينها الراقية وذلك بعد الاحتفاظ لنفسه بنسخة من أصلها.         

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire