لما نبحث في تمثّلات التونسيين وتصرفاتهم حيال الوسط الطبيعي، مركّزين على
المشترك منها، فإن تركيزنا سينصب على دراسة الجوانب الثقافية للممارسات المتصلة بإنتاج
خصوصيات المعاش المشترك، وعلى دور التمثلات الجماعية في صياغة المعرفة بمجال
الانتساب.
ليس هناك من سبيل إلى فهم ذلك الواقع من دون استكشاف الخصوصيات
الثقافية المتّصلة بالمعتقدات والقيم والأيديولوجيات المهيمنة والفنون والملكات في
بعديها اليدوي أو التقني والنظري أو الفكري. وهو ما يحيل على ما راكمته مجموعات وطن
التونسيين المختبرة من موروث ثقافي يتضمن معرفة مفصّلة ودقيقة بخصوصيات المجال
الذي استوطنته وبكيفية تعقّل تلك المجموعات لواقعها المعيش أيضا.
هذه النظرة إلى المجال كنتاج للتصورات الثقافية، هي ما
يتعين الاحتفاظ به حال تصفّح مؤلف محمد بن عثمان الحشايشي (1853 - 1912)[1]
"الهديّة والفوائد العلميّة في العادات التونسية"[2] وهو
مؤلف طريف في ضربه جمع فيه صاحبه لمن استنجبه من كبار أعوان الإدارة الفرنسية
الحامية صنوفا من المعارف، وضّحت ترتيب معاش التونسيين وكيفية جري عوائدهم
وأخلاقهم وطباعهم وطقوسهم في سراّئهم وضرّائهم، متأثرا في ذلك بما اطلع عليه في
صحف مؤلف مقدمة كتاب العبر، مع نزوع جليّ باتجاه محاكاة أساليب البحث الأتنو-جغرافي
التي أنجزها المستكشفون والمولعون بالرحلة من الأوروبيين على أيامه.
تقتضي مجادلة مختلف المعطيات التي أوردها مؤلف كتاب
"فوائد الهديّة في العادات التونسية" في تقديرنا تركيز التحليل على جملة
من الأبعاد آثرنا اختزالها في ثلاث مستويات:
-
النظر في تاريخ المجال الجغرافي كإطار لمختلف عمليات المدّ
أو الغزو conquête، وهي عمليات وضعت التونسيين في
مواجهة غيريات أجنبية غالبا ما سعت إلى استيعابها حضاريا وثقافيا بعد فرض غلبتها
عليها.
-
التعرّف على علاقة التجربة الشخصية quête في علاقتها
بتمثّل المجال الجغرافي، وتطوّر تقاليد التونسيين ومكوّنات ثقافتهم اللامادية.
-
تقييم المجهود الميداني enquête
المبذول من أجل تذليل الصعوبات
التي طرحتها مسألة فهم العناصر المحدّدة للانتساب تونسيا والتدقيق في مدلولها ضمن جميع
مستويات المعاش اليومي، وما تقتضيه من ترتيبات في التعامل مع المواضعات السلوكية والأخلاقية
والتعبديّة والطقسية، بغرض الحصول على صورة دقيقة عن تصرّفات مجموع التونسيين وردود
أفعالهم بطريقة عقلانية تنأى عن جميع التصوّرات الانطباعية أو الحسّية.
يكفل إجراء قراءة متضامنة لهذه الأبعاد الثلاثة في
تقديرنا إنجاز مقاربة منتجة للمعنى ومجدّدة له أيضا، حال التعامل مع توصيف
الحشايشي للعادات والتقاليد التونسية. فقد صادفت عملية تحرير هذا الأثر استكمال الإدارة
الفرنسية تركيز مؤسسات إدارتها الحماية لتتخيّر وضمن أبناء البلد، من ينقل لها
بدقة الباحث المتفحّص عصارة تجارب مجتمع تقليدي تعمّق اكتنافه، وذلك من خلال توصيف
ميداني فاقت دقته أبحاث معاصريه من المستكشفين الأوروبيين من حيث توضيح الخصوصيات المشتركة
لتمثّلات التونسيين لما حدّد انتسابهم إلى مواطن أبائهم وأجدادهم.
يبدو الحشايشي منبهرا بمنجز الدولة الحامية بل ومقتنعا بدعواها
وضع حد لسبات الشعوب المولى عليها والارتقاء بها حضاريا، وهو لا يختلف في ذلك عمّن
سبقة للتعبير عن ذلك ممن اصطدم بواقع الغلبة الأوروبية منذ أن خطّ عبد الرحمان
الجبرتي عجائب آثاره ونيكولا الترك كتاب الحملة الفرنسية على مصر والشام. فقد اعتنى
مؤلف "فوائد الهدية في العادات التونسية" بالتعريف بمختلف التنظيمات
والمؤسسات المحدثة من قبل الدولة الحماية وذلك ضمن الفصل الختامي لمؤلفه الذي
انتهى من تحبيره سنة 1904، معبرا عن رضاه التام بتلك التنظيمات وترحيبه بجميع من أوكلت لهم مهمّة
تصريف شؤونها من غير التونسيين. وهو توجه لا يخلو من استكانة وتزلّف لابد لمن يبغي فهم أسبابها من الحرص على عدم الخروج بها عن سياقها الزمني المخصوص. فقد تلوّن
تعامل التونسيين مع الغلبة الوافدة بمنطق المصابرة والاحتواء، ولم تعرف البلاد إلا
نادرا مواجهات حديّة تنمّ عن مقاومة شرسة، وذلك لاعتبارات ثقافية وحضارية لا يتعين
الذهول عليها بالنظر إلى تاريخ التونسيين وإلى إرثهم الحضاري المتشعّب.
شكل الحديث عن أخلاق التونسيين وطباعهم ضمن مقدمة الكتاب
ومقالاته الأولى والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والحادية عشرة والرابعة عشر،
فرصة لاستعراض جوانب مهمّة مما عَرِفه الحشايشي من "عوائد اجتماع أهل قطره
الإفريقي [ كذا ] من الحضر والبدو وسكان القرى والجبال وما يخصّ كل قبيلة"[3]،
ويقصد ردود فعل التونسيين وطبيعة تصرفاتهم، "حِلْمًا وغدرا وكذبا وخيانة
وحسدا وبُغضا وتفاخرا وهمجيّة وعرفا وشرعا[4]."
في حين حاول المؤلف وضمن المقالات الأولى والثانية
والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والعشرة والثانية عشرة والخامسة عشر استعراض نتائج
جرده الميداني المستفيض لملكات التونسيين ومصادر رزقهم وأنشطتهم اليومية ومواقع
رسمها الحضرية منها والبدوية، على غرار التوليد وتعليم الصبيان وتراجم شيوخ العلم
واعتلاء منابر الخطبة والأسعار الجارية للمنتجات والبضائع وأسواقها وأماكن بيعها.
إن ما يثير الانتباه شكلا وضمن الصيغة التي اختار
الحشايشي التدرّج من خلالها في استعراض مختلف فصول كتابه هو ذهوله حيال ترتيب
مقالاته على تقديم الفصلين الرابعة عشر المخصّص للـ"تعريف بالقطر التونسي
وموقعه الجغرافي" والمقالة الختامية المتّصلة بـ"عوائد [كذا] المملكة
السياسية وما يتعلق بإدارتها وجميع خططها الملكية" عمّا سواهما من عروض
مؤلفه، مما ينهض في تقديرنا الخاص حجة على حقيقة الاكتناف التي سبقت الإشارة
إليها، والتي لم تسمح "للتَوْنَسَة" بتجاوز ضيق مستوى التعيين الجغرافي
لتنافس مستويات التعيين المحورية آنذاك ونقصد الانخراط في رابطة العروبة وإعلاء
مكانة الصدور عن الإسلام، وهو ما ضمنته لزمن طويل الروابط القبلية الدموية وأفشته آصرة
الأخوة في الله والتقرب إليه من خلال الاستغاثة بالصلاح والاحتماء بأربابه.
أما بخصوص مضمون الكتاب، فقد عكست أراء الحشايشي في
جملتها وعلى دقتها التي لا تمارى حقيقة وقوفه مع اجترار السائد والتزامه بحدوده مع
تهيب صارخ من كل جديد أو خروج عن العرف أو تهاون بالتقليد أو العادة . كما تبرز
جليا وفي مستوى محايث نزعة الاستعلاء لدى سكان حاضرة تونس عن جميع من سواهم من أهل
"الآفاق" الذين غالبا ما أحالتهم دونيتهم على "الدرك الأسفل"
كلما عنّ للحضر الحديث عن باديتهم ومفاوزهم الخالية من كل عمران.
تلك صورة انقضى فصلها بمجرد أن أدرك التونسيون أن لهم
حيال بقية أوطان العالم وشعوبه موقع سيادة وتدبّر مستقل لشأنهم، وهو وعي لا نخال
جمّاعهم بغافل عن محوريته راهنا، قياسا لما قدّره توصيف مؤلف "فوائد الهدية"،
حتى وإن انفرطت مخلفاته النزقة حاضرا لتندرج ضمن خطاب سكان الدواخل المحرومة وشعارات
مختلف الفئات المطحونة كلما هبّت قصد لفت الانتباه إلى تشوّفها إلى استعادة
كرامتها المغدورة والتعبير عن أهليتها للدفاع عن حقوقها المشروعة.
[1] ولد
محمد الحشايشي في وسط عائلي متعلّم فقد شغل والده خطة العدالة مصيبا من ذلك شيئا
من المشاركة في تأليف النصوص الدينية، في حين اشتغل جده بالقضاء أيام حمودة باشا
الحسيني (1782 - 1814). تلقى تكوينا زيتونيا حصل في نهايته على شهادة التطويع. ووافق
تدرّجه في التحصيل انتشار الطباعة وتعدد الصحف فكتب في أكثرها انتشارا ورواجا بين
النخب المتعلّمة على غرار "الرائد التونسي" و"الحاضرة" و"الزهرة"
وغيرها، واضعا العديد من المؤلفات المفردة في توصيف رحلاته الصحراوية إلى طرابلس،
والأوربية إلى باريس. مثّلت بقية أعماله همزة وصل بين عالمين متباعدين معاشا
ومعرفة، حتى وإن نمّت توجهاته عن انحياز للسلطة الحاكمة في شقيها التونسي
والفرنسي. وعلى الرغم من تغليبه للخمول
والمهادنة فقد أصابه ضنك العيش وعسره، وتعيّش من قيس الأراضي والعدالة وحزّ في
نفسه عدم تمكينه من الالتحاق بالتدريس بالمعهد العلوي وقَصْرٍ أمله في حفظ رصيد
المكتبة الأحمدية بحامع الزيتونة. (راجع تعريف محقق "فوائد الهدية"
الجيلاني بن الحاج يحي ص 13 - 21 ).
[2] الحشايشي (محمد بن عثمان)،العادات
والتقاليد التونسية الهدية أو الفوائد العلمية في العادات التونسية، تحقيق
الجيلاني بن الحاج يحيى، سراس للنشر، تونس 1994. في 464 صفحة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire