vendredi 26 septembre 2014

طلياني شكري المبخوت كاماسوترا بنكهة يسارية











لست أدري ما الذي دفعني حيال قراءة رواية "الطلياني" لشكري المبخوت، وهو عمل روائي أول غاص بمبضع جراح ماهر في سمك سياقات الثلث الأخير من القرن الماضي، عارضا على قراءه وضمن سردية قصصية محكمة الحبك، "نثارا من [سير] جيل الخسارات المبهجة والأحلام المجهضة" تونسيا، إلى استعادة أحداث رواية الكاتب المغربي محمد الأشعري "القوس والفراشة"؟
فلئن غاب التواشج بين مضمون الحكايتين، فإن السياقات الزمنية المربكة التشابه لا يمكن أن تخطئها كل عين متدبّرة. يكفي أن تُعرض تلك السياقات على الإضاءة المركّزة، حتى نكتشف كبوات جيل ضائع أضناه التأرجح أزلا بين عالمين متخالفين دون فكاك أو رحمة.
فالفاجعة التي نزلت على رأس "يوسف الفرسيوي" المناضل اليساري ذي الأصول البربرية الألمانية حال فقدانه لفلذة كبده "ياسين" الذي راح ضحية انتسابه إلى الجماعات الإرهابية بعيد انتقاله إلى باريس لمزاولة دراساته الهندسية وتوجّهه بغتة للقتال بجبال أفغانستان حيث قضى نحبه، لا يكن أن لا  تعيدنا إلى الدوافع الحقيقة التي كانت وراء خروج المناضل اليساري "عبد الناصر" عن طوره يوم تشييع جنازة والده الوجيه "الحاج محمود"، لما انهال أمام أعين الحاضرين ضربا مبرّحا وتقريعا مقذعا على الشيخ "علاّلة" وهو من تولى إتمام مراسم لحد والده ووجيه رأس درب.
بين أحضان ريحانات متقلبات الطباع والسجايا أمضى عبد الناصر المشهور بـ"الطلياني" و"يوسف الفرسيوي" حياتهما المفتوحة على احتمالات لا متناهية، عكست تحولات مسارهما الشخصيين وتطورات السياقات التاريخية التي كيّفت طموحاتهما وحدّدت إخفاقاتهما أيضا.
تتعدد محطات قطار حياة عبد الناصر ضمن متاهة الرواية المكانية التي شيّدها شكري المبخوت بين أزقة وشعاب، ومنعرجات، وأروقة، ومنحدرات، وثنايا، ومسالك، وسكك، ومفترقات، ودروب، ومضايق وطن التونسيين، تقابلها تحولات سيرة يوسف الفرسيوي في علاقتها بالانقلاب الكلي الذي عاينه مشهد مربع الدار البيضاء - زرهون - الرباط ومراكش على إثر حصول التناوب وصعود ملك المغرب الشاب إلى سدة الحكم.
ما مدلول التحولات التي طالت فكر اليسار ونضاله جنوب المتوسط؟ ما المعنى الذي يمكن أن تكسبه المقاومة ضمن مجتمعات اجتاحتها العولمة، وشارفت على فقدان سيادتها في غفلة تامة من شعوبها؟ ما قيمة الحرية داخل مجتمعات تعاني الهشاشة المادية والنفسية، وتدار من خلال تشغيل ثقافة الوصاية وتأجيل الاعتراف بحرية الأفراد ريثما يتم الانتهاء من معركة النماء واللحاق بركب الأمم المتحضرة؟
ثم ما حقيقة القول بانغلاق قفص الهامشية على حياة المحسوبين على نخب المعرفة والرأي؟ وما وتيرة تدرّج تأثيم النجاح الفردي وانقلابه إلى ما يشبه الخطيئة الأصلية، حيث يتدحرج المثقف إلى مجرد عابث أسود يندفع قدما نحو سقوط مدوي في مستنقعات الرداءة والدناءة المعمّمتين؟
تقريظ على معنى الرثاء أو لعبة الكاماسوترا بنكهة يسارية، هو على الحقيقة العنوان الذي نعتقد اختزاله لمضامين حكايات قصها علينا كلا المؤلفين دون عجل، نقلتنا من مضاجعة الابن الضال والزعيم اليساري عبد الناصر لربة الصون والعفاف "للاّجنينة" إلى معاشرة الفيلسوفة البربرية "زينة" والاستمتاع بغنج السويسرية "أنجيليكا" الفاتن والاهتبال بمتعة الخيانة الزوجية صحبة أستاذة التربية البدنية "نجلاء" والاغتباط بضم طالبة الفنون الفارعة الطويل "ريم" إلى سجل عشيقاته. يقتفي يوسف الفرسيوي في قوس محمد الأشعري وفراشته المفتون على شاكلة المناضل اليساري عبد الناصر بصاحبة الجلالة، نفس المسالك المظلمة متنقلا بين زوجته الرضيّة "هنية" وصديقته الخبيرة فاطمة وعشيقته المطلّقة ليلي.
اختار المؤلفان عن قصد الحفر في التحولات المتلاحقة التي عاينتها حداثة الدولة الوطنية المعلنة وذلك من نافدة التطورات الفارقة التي طالت مسارات حَدِيَّة، اعتقد أصحابها وبقدر غير قليل من السذاجة أن قدر قطار النضال من أجل تحقيق قيم الحداثة وفقا لمبادئ الاشتراكية الماركسية، سبيل معلومة من المستحيل أن تحيد عن مسارها قيد أنملة. فكان اصطدامها بالواقع المتقلّب مفزعا حوّل مسارات حياتها إلى ما يشبه تراجيديا فاجعة لأبطال مأساة اجتماعية تعمّد المؤلفان بعناد مهرة الرواة الحفر في ثناياها الملتويّة والتكشّف على إنسانيتها المربكة وبطولتها الموهومة وإخفاقاتها المستجّلية لطباعها البشرية.
جنوب المتوسط حيث زرقة السماء وعافية الماء يجثم فكر الجماعة الوصي على خضوع الجميع لبرد اليقين المعدم لنعمة الشك والتساؤل، لا فكاك من القبول بأنصاف الحلول المعدّلة بدهاء على عقارب ساعات تشبه حركاتها دورات الطبيعة الأزلية. لا يسار ولا يمين لا حرية ولا عبودية لا مواطنة ولا رعية لا إفراط ولا تفريط، اعتدال فجّ ومخزن يعيد إنتاج نفسه بمنتهى الدهاء والمكيدة. رحلة في عطالة الفكر والروح، نجوس عبر منعطفاتها في عاصف ذكريات عبد الناصر من مختبر تنشئته العائلية ورفاق نضاله في الجامعة ومستنقع الصحافة الموبوء الذي ساقته الظروف لمعاشرة دينصوراته، لكي نصل في الأخير إلى انكسار ألواح أشرعته وأزف روحه النزقة على صخرة الاعتداء الفاحش على طفولته الغضة.
نفس تلك الأقدار تضع بطل رواية محمد الأشعري أمام مساره العاثر الذي دفع بابنه الوحيد ياسين إلى السقوط في مخالب الإرهاب، وإصراره العبثي على استحضار روحه قصد مساءلتها بخصوص الدوافع التي جرت وحيده إلى اقتراف رزيّة بذلك الحجم من دون الحصول على شفاء للغليل. فر الفرسيوي من فجيعته المتمثلة في فقدان أمه الألمانية التي قررت بعد أن رافقت والده لسنين وضع حد لحياتها عند موقع ولّيلي الأثري المصاقب لمرقد شريف الأدارسة بزرهون، ليجد نفسه مغدورا في فلذة كبده المنتسب لخفافيش الظلام ومدبري الجرائم الإرهابية. تحت سماء الكيد المعمّم واللعنة الأبدية تعيد الحكايتان رسم عبثية أقدار من أصابوا قدرا من المعرفة متشوّفين إلى رسم أفق مفارق. يغرق والد يوسف الفريسوي في العمى بعد أن يخسر واسع الثروة والجاه، متحوّلا إلى دليل سياحة مجنون يطوف بزائريه في أركان موقع أثري مهيب، تماما مثل ما اضطر "سي عبد الحميد" مدير الصحيفة الرسمية التي آوت عبد الناصر مصحّحا مبتدأ فصُحفيا لامعا، إلى التفريط في إنسانيته في خوف مريع وجبن مخزي إلى شياطين المخزن وزبانيته. ينغلق قفص الهامشية على ذوات قلقة يدفعها مصيرها الحالك قسرا دون رضا إلى الشعور بالصغار والمهانة، فراشات ترقص في زهو حذو اللهيب المستعر لتتلظى بألسنته وتسقط في الدرك الأسفل من نيرانها.
تقريظ عبثي لمفتعل الأفراح ومسترق اللذات يتسلل من تجاويف مشاهد الحانات المعربدة والغرف المغلقة التي تغشاها روائح الانعاض وتعرّق الأجساد المتلويّة من فرط الالتحام وتدفق صنابير الشهوة، لكي يفتح أعيننا على جسامة تكلّس فكر النخب اليسارية تونسيا وغربته المؤذنة بفساد مادته طوال عشرية ثمانيات القرن الماضي الحالكة. كاماسوترا باذخة تذكّرنا بأجواء "ديكامرون" بوكاش و"ساتيركون" بيترون الفاجعة، تلك التي يندفع أبطالها تحت مفعول خوف مدمّر في طواف هستيري وجنوح ماجن إلى الهروب إلى الأمام حيث لا فكاك من السقوط في الهاوية.
رواية شكري المبخوت البكر تشريح مفزع بنكهة شبقية لسياقات انحدار "نخب" اليسار الرثة تونسيا، "نخب" لم تبرح الوقوف عند محطات لم تعد تصلها بقطار اللحاق بالأمم المتحضرة أية سكة.                                        
                       

4 commentaires:

  1. مقال شيّق وقراءة مدقّقة

    RépondreSupprimer
  2. قراءة مُمتعة جماليًا وفكريًا في رواية ذات حبكة روائية متينة، مُفعمة بالخفة، الشبقيّة والتناقضات.
    وهنا أقترح عليك "خارج الإطار الزماني لرواية الطلياني " : قراءتي للرواية
    http://tunisiabook.blogspot.com/2014/10/blog-post.html

    RépondreSupprimer

  3. أيا كانت فضاعة الاستبداد والتجني، فإن طاقة تحمل الشعوب حال وصول مأساتها تلك العتبات المروّعة تتأرجح دوما بين التدحرج نحو الانقراض أو الهروب إلى الأمام أو الثورة على أوضاعها المخزية .
    أملي أن يكون حظنا من ذلك موصول بقدرتنا على مجابهة حقيقة حاضرنا المربك، المفتوح على جميع الاحتمالات.

    RépondreSupprimer
  4. حتى وإن كان الواقع لا يدعو إلى التفاؤل، فإن أملي كذلك أن نختار الخيار الثالث، أو فليكُن الانقراض...

    RépondreSupprimer