lundi 2 novembre 2015

كلاش أو في مدلول ثقافة الأوندرغروند تونسيا









       
تقع ثقافة الاحتجاج السفليّة أو الأوندرغروند culture underground التي نشأت بالأحياء الصعبة للحواضر الغربية في أواخر القرن الماضي، على هامش التوجّهات الجمالية أو الفنية السائدة، معلنة عن تصادمها الصريح مع الضوابط الاجتماعية وسجل القيم الأخلاقية. وتنأى تلك الثقافة بنفسها عن وسائل الإعلام الجماهيرية، حيث يحمل المنتصرون لها تصورات انقلابية مستفزة للأعراف الاجتماعية السائدة.
وتشمل ثقافة الأوندرغروند توجهات فنية واحتجاجية متباينة يقتضي التواصل بين أفرادها حضور شفرة خاصة تسمح بتبليغ أفكارها بالتعويل على التجليات الفنية الموسيقية والتشكيلية والأدبية والسينمائية، تلك التي مثلت بَعْدُ مادة حيّة للصحافة التحتية أو "الفانزين fanzines (fanatic magazine)، "، فضلا عن الإذاعات الحرة والمواقع الالكترونية والمنابر الحوارية الافتراضية المتخصّصة في ثقافة "البينك" و"التكنو" و"المودس" و"السكين هاد" و"الميتال" و"الغوتيك" و"الهيب هوب"...
تتعرض مختلف هذه التوجهات الثقافية السفليّة إلى تصرفات مستهجنة تمارس نوعا من القمع ضد توجهاتها المعادية - بزعمها- لمكارم الأخلاق ودواعي الفضيلة، وهو ما يفسر اتسام ردود فعل المحسوبين عليها بطابع عنيف غير خاف، يستوي في ذلك مضمون خطابها أو الطبيعة الصاخبة لكتابتها الموسيقية والصوّر الصادمة لمشاهد قيافة المنتسبين إليها أو قراءاتهم الركحية.
ولا يعود استعمال لفظ موسيقى الأوندرغروند ضمن مختلف وسائل الإعلام التونسية إلى ما قبل سنة 2006 حيث سُحبت هذه التسمية في البداية على جميع أنماط الموسيقى غير المتداولة، على أن يساهم الربط بالانترنت وتوسّع الانتساب إلى مختلف الشبكات الاجتماعية بشكل حاسم في انتشار هذا الضرب من الأنماط الموسيقية، عبر بوابة "تونزيك" التي ساهمت في التعريف بمجموعات "زمكان" و"نشاز" على سبيل المثال لا الحصر، ليدخل البث الإذاعي على الخط من خلال ما قدّمته ولا تزال برامج "زنزانا" و"أوازيس" و"هاك تراك" وغيرها.
وإذ تعاين ساحة موسيقى الراب تونسيا ازدهارا غير مسبوق، فإن واقعها السفلي المنكفئ خلال مرحلة ما قبل 2011 لم يمكن على تلك الحالة، اعتبارا لجملة من الأسباب نحتفظ من بينها خاصة بالتضييق على خطابها الانقلابي المنتقد بحدة لتفشي البطالة واستشراء المحسوبية، وملاحقة مبدعيها الذين تحوّلوا بالتدرج إلى أيقونات لدى الأوساط الاجتماعية الشبابية المعدومة، تلك التي وجدت ضالتها في كلمات أغانيها المحمومة المنفلتة، على غرار أغنيتي "حوماني" لـ"كافون" ومحمد أمين حمزاوي أو "البولسية كلاب" لـ"ولد الكانز".
وليس بعيدا أن يكون لتواصل الاهتبال بأغاني الراب آصرة بتفاقم صعوبات الواقع اليومي للأوساط الشبابية داخل الأحياء الفقيرة، حيث تَعْرُضُ ثقافة الأوندرغروند بشكل عفوي وفوري للمشاكل المترتبة عن الهجرة السرية والبطالة والمحسوبيّة وتعاطي المخدرات، مشهّرة باستقالة مؤسسات الدولة عن تحمّل مسؤولياتها، وفشل جميع السياسات الرامية إلى الحدّ من تفاقم المضاعفات السلبية  للانحراف، تلك التي تؤذن بتعاظم الخرق وطي بساط الانصياع الإرادي للقوانين والأعراف السائدة، تشريعا لعنف الجميع ضد الجميع.
ويعبّر اللجوء إلى المساجلات اللفظية أو تشغيل آليات "الكلاش" بين المنتسبين لموسيقى الراب بطريقته الخاصة عن التحوّل الذي عاينته ساحة الثقافة السفليّة تونسيا. فقد كشف الاصطفاف الأيديولوجي عن نفسه منذ خريف 2010 وذلك على خلفية السجال حول أغنية  manipulation لمحمد الجندوبي المعروف بـ"بسيكو ام Psycho – M "، وتعاظم الخرق باستفحال السباب المجاني بين من نجحوا في السباحة فوق موجة المال والشهرة مثل أحمد العبيدي المشهور باسم ـ"كافون Kafon" و"محمد صالح البلطي المشهور بـ"بلطيروشيما Baltiroshima"، وبين أغلبية المحسوبين على موسيقى الراب الذين انتابهم شعور حاد بالحرمان جعلهم لا يستنكفون من استعمال أرخص أساليب التشويه وأقذع ألفاظ السبّ والشتيمة بغرض الحطّ من قيمة من صادفت أغانيهم قبول الجماهير ومختلف المتدخلين في ما لا نتهيب من تسميته بـ"الاقتصاد الموازي للموسيقى".
على أن انزلاق فضاء السجال العمومي في هذا المنحى الانتحاري وتحوله بعدُ إلى ما يشبه "موالد" شيوخ الدجل ومواسمهم، وتعاظم الخرق باستشراء أساليب الإثارة الرخيصة والاهتبال باللعن المقذع وتبادل نابي السباب وأبشعه، من شأنه أن يحوّل ظاهرة "الكلاش" موضوعيا، وإذا ما تواصلت حالة التردي التي يعيشها مخاض انبثاق نخب سياسية وفكرية ومعرفيّة وفنية معافاة، إلى بؤرة متعفنة لا يخدم امتدادها إلا مزيدا من التسوية إلى أسفل وتسريعا للنسق الكارثي لالتهام مزيّف النقد لصحيحه.  

افتتاحية محيّنة صدرت ضمن العدد الرابع من مجلة "الفكر الجديد"     

2 commentaires:

  1. استاذي العزيز شرفني و سرّني العثور على مدونتك كنت طالبة لديك منذ اكثر من 15 سنة بكلية 9 افريل عدت بي الى مقاعد الدراسة و تحليلاتك الرائعة لقد استمتعت بقراءة مقالك و نشرته عندي قد يكون منارة تحليلية لظهارة نراها و نمر عليها بدون ان نتأملها

    RépondreSupprimer
  2. أهلا بك سيدتي الفاضلة، أتمنى لك التوفيق والتالق في مواصلة مسيرة التحصيل والمعرفة
    كما أشكر لك حسن الظن بما أخطه من أراء ومتابعات تحتمل مثل غيرها الخطأ والصواب
    مع خالص الاحترام وصادق التشجيع

    RépondreSupprimer