lundi 1 mars 2021

بين المعرفي والسياسي: مساءلة الإنتماء من منظور المباحث التاريخية

 











 

        لا يجافي هذا التأليف الجماعي الذي أنجزته أيادي متعددة التصوّرات التي فرضتها سياقات ما بعد سنة 2011 تونسيا، وهي سياقات أعلت من القيمة الاعتبارية -وبشكل غير منتظر- للمعرفة التاريخية التخصصية وللنضال من أجل الحريات الأكاديمية في آن.

كما أن الأبحاث المتخصّصة التي أفردت للبتّ في مدلول السرد باعتباره قرين للثقافة وفق ما بينته حفريات "رولان بارت" اللغوية، قد حسمت في حقيقة "وجود[ه] ببساطة شأنه شأن الحياة ذاتها، وأنه عابر للتاريخ والثقافات. لذلك يستقيم أن نعد حضور السرد إجابة عن التساؤل حول كيفية ترجمة المعرفة إلى حكاية، وصوغ التجربة الإنسانية في شكل يمكن تمثّله في بُنى المعنى"[1]، حتى وإن تجسّم ذلك في أنماط متعددة استخدمتها مختلف الثقافات لإضفاء معنًى على تجاربها المنقضية. لذلك يمثّل اللجوء إلى السرد شاغلا قارا وشفرة عابرة للخطابات Metacode، تسمح بنقل رسائل قادرة على اختراق جميع الثقافات.

ولئن عمد كبار العارفين بمهنة التاريخ، على غرار "توكفيل" و"بوركهارت" و"هويزنجا" و"بروديل"، إلى تحاشي الوقوع في السرد باعتباره نقيض للتاريخ، فإنَّ مرد ذلك متصل بالتمييز "بين خطابٍ تاريخيٍ يَسْرُد، وخطاب يفرض الطابع السردي، بين خطاب يطلّ على العالم ويبلّغ عنه، وخطاب يتكلّف كي يجعل العالم يتكلّم عن نفسه على غرار ما يحدثه الحكّي أو القصّ.[2]"

ومهما يكن من أمر هذا الجدل الثري الذي أحالت عليها التعريفات الخاصة بمعنى السرد أو الرواية، فقد اقتضت مساءلة موضوع الانتماء من منظور المعارف التاريخية التونسية، رده إلى جملة من الاشكاليات والأبعاد المعرفيّة، التي خضع جميعها إلى مراجعة الصياغة والتشذيب لغة ودلالة، حتى يستجيب مضمونها لمقتضيات الإشكالية الجامعة لهذا التأليف، تلك التي اقترحها من تولى الاشراف على جمع مختلف تلك المساهمات، وقدّم لها وركّب مختلف استنتاجاتها الختامية، عاملا على ضبط مضامينها المدرجة ضمن فهرسة محتويات هذا التأليف. وقد احتفظنا من بينها، لاعتبارات منهجيّة بحتة اتصلت بطبيعة المساهمات، والشواغل المخصوصة لمن ركّبوها أو أسسوا لمنطقها الداخلي أيضا، بخمس محطات متواشجة خاضت تباعا في:

 "رهانات الانتماء في المباحث التاريخية الاستعمارية"، وتضمن ذلك عرضان متكاملان حررتهما باحثتان، واحدة يحيل تخصّصها الضيق على تاريخ مقاطعة أفريقيا القديم وتحليل النقائش الرومانية، في حين اتصل تخصّص الباحثة الثانية في التاريخ الحديث لتونس في ضوء تمثيلها الخرائطي خلال القرنين الماضيين. فقد قاربت "ثريا بالكاهية" نقديا رحلة استكشافية فرنسية استهدفت البلاد التونسية ونشرت في أواخر القرن التاسع عشر، وذلك ضمن مساهمة حملت عنوان: " بين الرهانات السياسية والاستلاء على هوية تونسية ما قبل إسلامية: مروية سبيبة في كتاب "رحلة إلى تونس" لــ "روني كانيا" و"هنري صلادان"". بحيث استجلت التحاليل المقترحة ثلاثة محاور هي: طبيعة المهمّة الاستكشافية لـ "كانيا" و"صلادان"، فواقعة سبيبة من منظور القراءة الإيديولوجية الاستعمارية، قبل التفرّغ لتوضيح كيفية انخراط تلك المروية تحديدا في محاولات الاستحواذ على ما نعتته صاحبة هذا الاسهام الافتتاحي بـ "الهوية ما قبل الإسلامية للبلاد التونسية".

وبالتوازي مع ذلك تولّت "هدى بعير" وبطريقة لا تخلو من توارد للخواطر والأفكار، وضمن مساهمة حملت عنوان: "التجديد الكرتوغرافيّ في القرن التاسع عشر: أيّ مكان لتونس؟ البتّ في ثلاثة محاور متضامنة هي: إدارة مشاريع رسم الخرائط ونصيب تونس من ذلك، فأشكال التواصل بين المستكشفين والمناطق المشمولة بالمسح التوبوغرافي ورسم الخرائط، قبل أن تتفرّغ للحديث عن صناعة الخرائط واستخداماتها السياسية.

تعرض الفصل الثاني من هذا التأليف الجماعي إلى ما نعتناه بـ "خطاب الانتماء في الأدبيات التاريخية للوطنيين التونسيين"، واتصل ذلك تحديدا بمساهمة أمّنتها "لمياء عبيدي" باعتبارها باحثة متخصّصة في علاقة العائلات العالـِمة بالتحوّلات العميقة التي طالت الحياة الفكرية والثقافية تونسيا. لذلك اقترحت علينا ومن وجهة نظر اختصاصها الدقيق الحفر في تقاطيع شخصية "عبد العزيز الثعالبي المؤرخ"، وعلاقة ذلك بما سمـّته بـ "السرديات الممكنة للانتماء والأصول. بحيث تضمنت عروضها لحظتين: خُصصت الأولى لعلاقة "الراوي ببناء المروية أو السردية التاريخية"، في حين فكّك المحور المكمّل علاقة تلك السردية بما أسمته نفس الباحثة بـ "النكهة" أو المهجة التي حدّدت ما سمته بـ "وصاية المشرق" على المغرب، وذلك من خلال تتبع طريقة تركيب عبد العزيز الثعالبي للقراءة التاريخية التي اقترحها علينا ضمن عدد من مؤلفته بوصفه مثقّفا مسلما ومناضلا وطنيا في ذات الوقت.   

استأثر البعد الثالث بفصل مُفرد حمل عنوان "مساءلة الانتماء من منظور الدراسات التاريخية الموريسكية"، أمّن تحريره حسام الدين شاشية، وهو باحث متخصّص في الدراسات الموريسكية خلال الفترة الحديثة، اشتغل بطريقة طريفة ومجدّدة على أشكال المثاقفة بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط وتاريخ تهجير الموريسكين وتوطينهم بالبلاد التونسية، لذلك حمل مقترحه التاريخي عنوان: " الموريسكيون في تونس: إعادة قراءة لروايات الانتماء"، وراوح التخطيط بين مساءلة النصوص الإخبارية المحلّية والنصوص التي وضعتها النخب الأندلسية الوافدة بخصوص الحرج الذي عاينته سيرورة إدماج الموريسكيين والتصديق على اتصالهم الوثيق بما يجمع مختلف الشرائح الاجتماعية المحسوبة على "التونسة" والتونسيين.     

اتصلت عروض الفصل الرابع، وهو فصل حمل عنوان "قلق الهوية في مؤلفات الرحالة التونسيين"، بمراجعة أثّثها "عادل النفاتي"، وهو باحث متخصّص في علاقة أدب الرحلة العربي بتحوّلات المشاهد الجغرافية الثقافية أوروبيا، سلطت الضوء على رحلتي "محمد السنوسي" و"سليمان الحرايري"، وأسند لها الباحث عنوان: "سؤال الانتماء ومدلول الهوية التونسية زمن الاصطدام بالغيرية الأوروبية"، عامدا إلى التمييز بين ما نعته بـ"الهويّة الناجزة في عروض محمد السنوسي"، وبين علاقة "فتاوى سليمان الحرايري بحاجة المسلمين إلى الانفتاح على الغير".  

ولئن لم يـَخْلُصْ المبحث الخامس والأخير بالكامل للبتّ في التاريخ التونسي مُؤْثِرًا التعرّض لما وسمناه بـ "صناعة التواريخ في ضوء التنافذ بين القراءتين المعرفية والسياسية"، وذلك من بوابة التاريخ المقارن بين العروض التركيبية في التواريخ الجامعة التونسية ورصيفتها المغربية، فإن مقصدنا من تأثيثه بتلك الطريقة هو مواصلة البتّ في علاقة الكتابة التاريخية الأكاديمية تونسيا ومغربيا بما قد تستقيم تسميته بالحكايات التاريخية المؤسسة لهذين الشعبين الخارجين ومع حلول خمسينات القرن الماضي عن الهيمنة الأجنبية، والتساؤل بخصوص المناهج المعتمدة من قبل المختصين في كتابة التاريخ بكلا البلدين في صياغة العروض التأليفية التي غطت مختلف الأزمنة الاعتبارية، من عصور ما قبل التاريخ إلى تاريخ الزمن الراهن، وذلك من منظور المنافسة القائمة بين صيت المعرفة العالمة وسلطة الزعامة السياسية، حول طبيعة الدور الموكول لكلهما في التصديق على "السردية الوطنية" أو / و الرسمية وبناء استعاراتها، وأشكال تبادلهما للشرعية من خلال التقريب بين متنافر التصوّرات. فقد تمثل الهدف من إتمام ذلك في الكشف عن حقيقة التنافذ بين ما هو سياسي وما هو معرفي في عملية التركيب، وهو أمر سبق وأن أثرناه وفق تصوّرات مغايرة ضمن مؤلفات جماعية وأخرى شخصية نشرناها بالتتابع منذ سنة 2014[3].

لذلك حملت المساهمة الأخير ضمن هذا المؤلف الجماعي، الذي مكّننا من خوض تجربة تقاسم التصوّرات والأدوار مع زملائنا الحاليين وطلبتنا وطلبة غيرنا القدامى، بخصوص وجهات نظرهم لمسألة لانتماء في ضوء انتسابهم الأكاديمي للمعرفة التاريخية، عنوان: "إشكالية التركيب في تواريخ المغارب الجامعة". وتضمن ذلك ثلاث محطات كبرى راجعت تباعا تاريخ المغارب القديم بين المحلي والوافد، وسلّطت الضوء على تواريخ المغارب الإسلامية التي وجدت صعوبة جمة في الانسلاخ عن هيمنة المشرق، قبل توضيح كيفية تركيب تواريخ المغارب الجامعة لمشاريع الإصلاح وأشكال انغماس مختلف السرديات المقترحة في مأزق تبرير عدم توصّل الفاعلين السياسيين إلى استكمال بناء أسس الدولة الحديثة.




[1]     Roland Barthes, "Introduction to the Structural Analysis of Narratives," in: Image, Music, Text, Stephen Heath (trans.) (New York: Hill

and Wang, 1977), p. 79.

[2]   للتوسع أكثر في هذا الموضوع يمكن الإفادة من مقال وايت (هايدن)، "قيمة السردية في تمثيل الواقع"، ترجمة ثائر ديب، مجلة أُسطور للدراسات التاريخية، عدد 11، كانون الثاني/ يناير 2020. ص ص، 177 – 196.  

[3]   Aïssa (Lotfi), (Sous la direction de), Être tunisien, opinions croisées, éd., Nirvana, Tunis 2014.

عيسى (لطفي)، بين الذاكرة والتاريخ، في التأصيل وتحولات الهوية، إفريقيا الشرق للنشر، الدار البيضاء 2015.

عيسى (لطفي)، أخبار التونسيين، مراجعات في سرديات الانتماء والأصول، مسكيلياني للنشر، تونس 2019. 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire