mercredi 31 mars 2021

لعنة المواعيد التاريخية المهدورة












 


 

       

         لا ينبغي لقارئ هذه الأسطر الموضوعة في حق مؤلَف صلاح الدين البرهومي الموسوم بـ "الدولة الوطنية التونسية وتدبير التنوع السياسي (الإسلام السياسي في تونس بين 1981 و1992)" تقدير العثور على مراجعات منحازة لأحد طرفي المنازلة الحاصلة بين الطرفين الدستوري والإسلامي بين مفصلتين هامتين تحيلان على عشرية 1981 و1992. فقد أخفقت الدولة الوطنية التونسية خلال تلك العشرية في صياغة مشروع حداثتها السياسية المتدرّجة وضرب موعد حقيقي مع التاريخ. وهو ما لا ينبغي التعجيل بالحكم عليه والتسليم بخيبة الأمل، قبل مباشرة قراءة مختلف فصول هذا الكتاب وتدبّر مضامينه المنقلبة على سائد البحوث المنجزة من قبله، بُغية مزيد فهم تطور الاحتجاج الإسلامي تونسيا، سواء ناصرت تلك البحوث تصوراته أو ناصبته العداء وتعقّبت سلبياته وسقطاته. فالانزلاق في الرجم بالغيب بادعاء تبنيّ هذا البحث سرديّة الإسلام السياسي في تقييم علاقته بالنظام السياسي طول عهدة الرئيسين بورقيبة وابن علي، توجه فاقد لكل سند معرفي.

في تجاوز "المظلومية" والاعتبار بالتنوّع السياسي   

       إن السؤال الحقيقي الذي يتعين طرحه هو ما الذي أضافه الرصيد الأرشيفي بخصوص سياقات محاكمات الإسلاميين؟ وهل آن وقت الدراسة الموضوعية الباردة لعلاقة الدستوريين بالإسلاميين بالمقارنة مع خصوصيات المرحلة الدقيقة التي تعيشها البلاد حاضرا؟ وما جديد المعطيات التي تضمنها أرشيف تلك المحاكمات حتى نستطيع المسك موضوعيا ومن خلال تجاويف ما تعرضه علينا تلك التقارير بتصوّر مُباين أو فارق، يجنّب تبني السرديّة الرسمية القائمة على تكييف الإجراءات الأمر الذي يختزل الاحتجاج السياسي في بعده الجنائي، في مقابل قراءة الإسلام السياسي التي ركزت على الاستثمار في المظلومية؟ فليس من الدقيق بالمرة القول بأن الإسلام السياسي ردّ فعل على فشل الدولة الوطنية في مسيرة التحديث. كما أننا لسنا على تمام اليقين من أن مشروع تلك الدولة قد انتهى إلى طريق مسدودة، وذلك لأسباب ينبغي أن تُدرس بكثير من المصابرة والأناة. فقد تكون ثمّة خصوصيّات وسمت مسارات التحديث في مجتمع عربي إسلامي رزح تحت وطأة قرون مديدة من استبداد ثقيل وإرث استعماريّ مكبّل.

كما أنه من غير الدقيق أيضا اعتبار نشأة الإسلام السياسيّ ردّة فعل ضد السياسة التحديثية للدولة الوطنية، لأن الظاهرة السياسية الإسلامية الموسومة بـ"الإخوانية" أقدم بكثير من الدولة الوطنيّة، فضلا على أن مسار زعيمها راشد الغنوشي يؤكّد تأثره بحاكميّة السيد قطب وبالفكر الإسلامي الهندي في تجسيم الحاكميّة عند أبي الأعلى المودودي. على أنه لو قارنّا بين ما حصل في تونس وما وقع في مصر من صدام بين جمال عبد الناصر وتنظيم الإخوان قبل إعادة ترتيب العلاقة بين أنور السادات والإسلامين الأزهري والسياسي، فإننا سنقر بأن التأثير السلبي للاحتجاج الديني مصريا كان أدهى وأمر بكثير مما عاينته البلاد التونسية، وأن كبوة مصر بل وانسحاقها الثقافي والاستراتيجي يعود إلى هذا الضغط المزدوج الدي سلّطه تبادل الشرعية بين الاسلامين التقليدي والسياسي، وكذا تحالف العسكر والرأسماليّة الليبيراليّة المتوحشّة من جهة، والتوحّش الدينيّ الذي تقاسمت من خلاله مؤسسة الأزهر و"الإخوان" والحركات الجهاديّة المواقع، بحيث يبدو  أن ما شهدته مصر كان أخطر بكثير مما جدّ بتونس بموجب التفاوض مع الإسلاميين أيضا وليس بموجب هيمنة المؤسّسة العسكريّة فحسب.

فما الذي كان بوسع هؤلاء تقديمه لتونس حال إدماجهم في الحياة السياسية غير اعتراضهم على المشروع الحداثي ولو في مظاهره البسيطة والأساسيّة؟ ثم أي فكر تنوري كانوا قادرين على التبشير به؟ وأي رؤية إصلاحية أو ثورية كان بوسعهم موضوعيا تقديمها من موقع المنافسة السياسية؟

فليس دقيقا الزعم بأن النهضة قد انخرطت في معركة الحريات والحال أن العديد من الدلائل تثبت تهافت هذا الادعاء، كما أن حقيقة توفر الإسلام السياسي على تنظيم سري مسلح قد تحولت إلى أمر مقطوع به بعد الشهادات المؤكدة لذلك منذ اعترافات المنصف بن سالم المورّطة. الشيء الذي يدعونا إلى التحفظ من مغبة الانخراط في التنويه بمشاركة الإسلام السياسي تونسيا في معركة الحريات. مع التوجّه إلى مزيد الاشتغال على سرديّة النهضة والبت في خطابها بكثير من التريث، لأن البناء عليها غير كاف لوحده في فهم موضوع إدارة الاختلاف وإقرار التنوع تونسيا.

ومع ذلك فإن تشعّب السياقات ومنعرجات الصراع السياسي بين الدستوريين والإسلامين تدعو بإلحاح إلى الخروج عن رفاه الثنائيات البسيطة للتفكير في تدبير ترياق هذا الزمان الحزين وأهله، والتعويل في ذلك على إشكالية "تدبير التنوّع السياسي" بوصفها منوال منهجي أو أنموذج لتحليل السياقات التاريخية الخصوصية التي حفت بمحاكمات الإسلاميين أثناء عشرية ثمانينات القرن الماضي تونسيا، وهو أمر بليغ الدلالة يسمح بتخطي جميع البديهيات المظلّلة، التي كثيرا ما ابتسرت حيثيات تلك المواجهة في ارتدادات الصراع المحموم بين المشروع الحداثي الوطني المناهض لمشروع "الأخونة"، حال انقلابه على ايديولوجيا الإصلاح والنماء لدولة الاستقلال. لذلك تم التعويل في تحليل مختلف مراحل ذلك الصراع ومزيد فهم سياقاته السياسية على المنجز النظري لمدرسة فرانكفورت منهجا وفكرا ونقدا. وهي مدرسة ذات توجه يساري تحليلا وانفتاحا ومرام، حتى وإن ثمنت الليبرالية السياسية بما هي حقوق وديمقراطية تمثيلية وحرية، ملتقية في ذلك مع الليبرالية الأمريكية ومنظّريها في الكشف عن توسيع دائرة الحيف وعدم المساواة ودور الدولة في مقاومة الفوارق الاجتماعية. على أن زاوية النظر التي شغلت بال مؤلف هذه الدراسة قد تمثلت في محاولة قراءة مختلف التحولات التي عاينها حركة النهضة تونسيا، وتدرّجها من الجماعة إلى الاتجاه الإسلامي، وجملة التغيرات التي مرت بها سواء في خطابها أو تنظيمها أو علاقتها بخصومها ومنافسيها. فهذا الجسم السياسي ومهما طوّحت أطروحاته التي بدت للبعض نشازا يتعيّن مواجهته باعتباره خارج إطار مشروع الدولة الوطنية، قد ضمن لمناصريه الحضور بقوة على ساحة الفعل السياسي بعد عقود من التعقّب والسجن والحصار، الشيء الذي أثبت محدودية الخيارات الأمنية والسياسة الردعية والعقابية وإجراءاتها المجانبة للقانون. كما ضمن له المنجز الدستوري حق النشاط، فضلا عن ضرورة التأكد من حقيقة حضور تحوّلات طالت قناعات البعض من المحسوبين على نخبه. فقد شدّد مؤلف هذه الدراسة -وهو على تمام صواب- على أن استعادة ماضي الحركة وتجربتها لا يعنيان التصديق بشكل آلي على القراءات التي تتعامل مع هذا الجسم السياسي باعتباره خطرا محدّقا بالبلاد، وذلك تأسيسا لإدارة التنوع والاختلاف، وفق قواعد قانونية وثقافية تهدف في الأخير إلى تعبئة موارد البلاد البشرية فكرا نضاليا وممارسة سياسية أيضا.

مراجعة في مضامين الكتاب:  

      اقتضت الخطة المتبعة من قبل واضع هذه الدراسة وبعد تقليب النظر في مدونة محاكمات الإسلاميين إلى تقسيم مختلف العروض المستجلبة إلى قسمين: اتصل أولاهما بردود فعل الدولة الوطنية وايثارها للحلول الأمنية بعد اختراق الإسلام السياسي العلني والسري للمؤسسات الرسمية وللنسيج المجتمعي، في حين اهتم القسم الثاني بتعثّر مشروع الدولة الوطنية وصراع الشرعيات السياسية. بحيث خاض أول الأقسام في طبيعة ردود الفعل الأمنية للدولة الوطنية إزاء تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي والتضييق على الإسلاميين بعد تأسيسهم السري لحركة إسلامية لها مرجعية دينية وهيكلة محليّة وجهويّة ووطنية وآليات عمل حركية مكّنتها من النشاط السري بالمؤسسات التربوية والطلابية والشبابية، وذلك في إطار المنافسة بين الأحزاب السياسية - الحاكمة والمعارضة- من أجل السيطرة على تلك التشكيلات، فضلا عن إقحام المؤسسات الحاملة للسلاح في عمليات التعبئة، على الرغم من أن تلك المؤسسات لم تكن لتحتمل الزج بها في مثل تلك السياسية الرعناء غير محسوبة العواقب.

أُفرد القسم الثاني لدراسة تعثر مشروع الدولة الوطنية وصراع الشرعيات السياسية. وتناول أزمات الدولة الوطنية ولجوئها إلى التهدئة إزاء منافسيها، وتعدّد مظاهر الأزمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. كما خاض أيضا في تنازع الشرعيات بين حركة الاتجاه الإسلامي والسلطة القائمة، وهو تنازع وصل إلى حد التشكيك في مؤسسات الدولة وأهدافها وآليات عملها. وامتد ذلك التنازع ليشمل مجالات تفصيلية أو ترتيبية تحيل على عدم التوافق بخصوص مواعيد الأعياد الدينية وبرامج التعليم الديني ومحتوى العروض الثقافية وغيرها من المسائل التي طالها سجال حامي بين الطرفين. وعلى العموم فقد تمكنت الحركة من فرض خطابها بخصوص التوسّع في التعريب بالجامعات، وفي البرامج التعليمية الابتدائية والثانوية. وعملت على اعادة الاعتبار للهوية العربية الإسلامية كقاسم مشترك بين جميع التونسيين، والتصدي لما اعتبرته "غزوا فكريا وموجات إلحاد مثّلت إيديولوجية الدولة والمعارضة اليسارية"، تلك التي كان لها تأثير بالغ - بحسب رأي راشد الغنوشي طبعا- في أوساط "نخبة الفكر والسياسة ومؤسسات المجتمع المدني". ومع ذلك يبدو من الثابت تاريخيا أن الاسلاميين قد استفادوا من خطاب النخبة اليسارية في الجامعة وخارجها، وساهم ذلك بـقسط وافر في تطوّر الخطاب الإسلامي من حيث المضامين والتوجّهات وآليات التحليل المعتمدة للبنية الاقتصادية والاجتماعية المحلية والعالمية، الامر الذي أدى الى تقارب بين الاطروحات النظرية والفكرية لليساريين والاسلاميين بخصوص قضايا التحرّر والانعتاق ونضال الطبقات الكادحة. فقد بدا من الواضح اطلاع الطلبة الإسلاميون بالجامعة على الفكر اليساري وذلك بشكل أكثر وضوح قياسا لمعرفتهم الضحلة بـالتفكير الإسلامي. لذلك ذهب زعيم الإسلاميين التونسيين التاريخي وفي تقييمه لنشاط الحركة إلى أن الإعلان عن تأسيسها يعد بمثابة مواصلة لمشروع التحديث الذي انطلق منذ القرن التاسع عشر وأجهض مع حلول النصف الثاني من ذات القرن، حتى وإن اعترف بـتواصل الصعوبات النظرية المرتبطة ببطء التطور الفكري والتنظيري للحركة الاسلامية ككل. بحيث خلُصت الحركة الى ضرورة مراجعة بعض الأفكار التي وردت لدى زعماء الاخوان ومنظريهم على غرار سيد قطب مثل مفهوم "التميز والانفصال" أو ما عرف بـ "القاعدة الصلبة في تفكيره"، ومسألة "التكفير"، ملاحظة "وجود فراغ روحي وضعف فكري" لدى عناصرها برز بالخصوص خلال المحاكمات الأولى. مما يؤشر على اهمية التفاعل في الساحة العمومية بشكليه السلمي والمتشدّد بين مكونات الطبقة السياسية المختلفة، ودور ذلك في تطوّر الافكار والمواقف التي تبنتها الحركات القريبة من الإسلام السياسي.

وعموما لم تفض المحاكمات الى إضعاف مواقف الحركة وعزلها سياسيا واجتماعيا بقدر ما رسخت حقها في النشاط السياسي وذلك تزامنا مع حصولها خلال تلك الفترة على مساندة الاحزاب السياسية المعارضة والمنظمات المهنية والحقوقية التي وقفت ضد المحاكمات والملاحقات الأمنية دافعة إلى مزيد من التضامن والوحدة بين مختلف مركبات المعارضة في مواجهة السلطة الحاكمة. لذلك يستقيم الزعم بأن حركة الإسلام السياسي قد دفعت بشكل واعي إلى الاستفادة من عملية إثمار رمزية لنتائج تجربة نضال الحركة الوطنية التونسية ضد الاستعمار ودور السجون والمنافي والمحن في تطوير معارضتها للإدارة الاستعمارية. فخطاب قادة حركة الاتجاه الإسلامي وعلى الرغم من تواصل وفائه لتصورات الفكرية المؤسسة للجماعة الاسلامية ومن بينها "الغربة الفردية"، و"غربة الإسلام في البلاد" قد عمد إلى تطعيمها بتصورات جديدة تدور حول حقوق من وسموهم بـ "المستضعفين" ضد ما نعت بـ "الاحتواء البرجوازي الاستكباري"، والتمسك بالأصالة ضد "فقاقيع النخب الثقافية المتغربة الطافية على السطح". كما لاحت مظاهر تأثر الفكر الإسلامي تونسيا بالتصوّرات التي قادت الثورة الايرانية وبخطاب الاحزاب اليسارية المنحازة الى الفئات الشعبية والطبقات المسحوقة. فتعدّدت المصطلحات الجديدة التي استعملت في أدبيات الحركة على غرار "المستكبرين والبرجوازية المحتوية للنخب"، و"الفئات الاجتماعية"، دون تحديد موقفها الايديولوجي والسياسي بخصوص تلك الفئات وعلاقة ذلك بتحديث المجتمع. لذلك يعتقد المؤلف بأن ما أورده راشد الغنوشي يستوجب إعادة النظر في محتواه لا من حيث مصادره الشرعية فحسب، بل ومن حيث مدلوله الاجتماعي، وتأثيره في علاقة المعارضة السياسية بالسلطة الحاكمة وطبيعة التوازنات بينهما، وأهمية إدارة الاختلاف والتنوع وتضمين ذلك في دستور البلاد عن طريق سنّ قوانين واضحة وجليّة، وأساليب دقيقة وثابتة.

يخلص مؤلف الدارسة وبعد استعراض العديد من المعطيات التفصيلية التي تحيل على سياقات العشرية التي استهدفها بالدراسة أن الاحتجاج السياسي قد جاء نتيجة للأزمة الشاملة التي عرفتها البلاد خلال ثمانينات القرن الماضي وفشل السياسة التنموية التي اتبعتها السلطة الحاكمة وتوجهاتها الوطنية، مما ضرب في العمق تصوّراتها التحديثية المعلنة واضطرّها إلى الجنوح مرارا الى التهدئة إزاء خصومها ومعارضيها من السياسيين ومن بينهم الإسلاميين. غير أن تلك المبادرات السياسية لم يتم تضمينها في دستور البلاد وبقيت مجرد قرارات واجراءات رئاسية شخصية مرتبطة بظروف استثنائية. لذلك هدّد الصراع بين الاسلاميين والسلطة الحاكمة أمن البلاد ووصل الاختلاف الى حد التشكيك في مؤسسات الدولة وقرارتها وإجراءاتها، كما في المشروع السياسي والثقافي للدولة. وفي المقابل شكّكت السلطة القائمة من جانبها في وطنية المنتمين الى الإسلام السياسي معتبرة إياهم إرهابيين مجيرّين لأنظمة سياسية خارجية ومصدر تهديد حقيقي للسيادة الوطنية، مضيفة إلى ذلك تهم خطيرة وتصرفات تدينها الشرائع والقوانين الدولية وفي مقدمتها جرائم العنصرية والتطرّف. واثبتت تلك التوجّهات المتصلّبة تباين وجهات النظر بين النظام ومعارضيه، بل وطبيعتها الحدّية، وهو ما أوشك على تهديد الامن العام وضرب سيادة الدولة.

في إعادة انتاج المنظومة السياسية القديمة أو لعنة الفرص الضائعة:

         اختزالا للقول يمكن التذكير وفق ما انتهى إليه بحث صلاح الدين البرهومي حول عشرية ثمانينات القرن الماضي بتواصل اعتبار الانتماء للحزب الحاكم والانخراط في شُعبه الدستورية مقياسا للفرز السياسي من منظور السلطة الحاكمة خلال عهدتي الرئيسين بورقيبة وابن علي. كما شكّل ذلك الانتماء أيضا مقياسا للفرز الاجتماعي والثقافي بحق الإسلاميين لاحقا، وترجمته جملة من المعايير والتدابير من بينها أداء الصلاة الجماعة في المساجد، والتضامن مع الحركة، والتضحية في سبيلها. بحيث طغى معطى الانتماء على مجمل المعايير والمقاييس الأخرى، وحكم سياسة كل طرف تجاه المنظمات الوطنية والمهنية والأطر الشبابية والتربوية، حتى بدا الأمر أشبه بسباق محموم بين الطرفين من أجل السيطرة عليها وتطويعها لخدمة سياسة كل طرف، وهو ما عرّض كيان الدولة إلى حالة من التطاحن، بل والتسابق في استغلال المنظمات الوطنية والمؤسسات التربوية والطلابية والمساجد لخدمة أهداف هدامة غير معلنة. الشيء الذي حال دون فسح المجال لهذه الأطر لخدمة المجتمع دون تمييز، والحافظ على دورها في تماسك مشروع الدولة الوطنية.

ولم تعمل المعارضة السياسية التونسية من جانبها على النضال من أجل صون استقلاليه المنظمات والأطر الاجتماعية المطالبة بتحرير الإعلام ورفع الوصاية على القضاء، بل انزلقت وعلى عكس ما كان  منتظرا، في سياسة اختراق المؤسسات التربوية والطلابية والثقافية للسيطرة على زخمها التعبوي وتطويعها لخدمة توجهاتها السياسية، معتبرة ذلك انتصارا على المنظومة القديمة، والحال أنه دلالة بليغة على لعنة إهدار فرص تحديث المؤسسات المموّلة من خزينة الدولة وتكوين نُخب جديدة تعكف على إنتاج المعارف والتقنيات وتطوير الحياة المدنيّة والسياسية.

إن الفشل في تدبير الاختلاف وإدارته بين الأطراف المتنازعة على السلطة، هو الذي أدى في النهاية إلى قرارات تعارضت بالكامل مع المصلحة العامة من بينها: تصفية المعارضين بالقوة المادية عبر توظيف آلية التجنيد العقابي، وتدجين القضاء، والسيطرة على الإعلام، ومراقبة المنظمات الوطنية والمهنية بشكل لصيق. مما نتج عنه حرمان المجتمع من خدمات النُخب وتحرير الطاقات وخسارة أجيال من القوى الحيّة المتحفزة لاحتلال مواقع متقدّمة في خدمة الصالح العام. وهو ما تعارض مع فكرة سيطرة الدولة الوطنية الحديثة على مجالها، وتعبئة موارده البشرية والاقتصادية والطبيعية والثقافية من أجل الزيادة في الإنتاج وخلق الثروة وتوسيع دائرة النماء.

ولعل ما يسترعي الانتباه ضمن صراع النظام القائم مع الإسلاميين هو عدم إثارة القضايا الاقتصادية والتنموية ضمن الخطاب الرسمي للسلطة ولمعارضيها، بحيث لاح التحديث الذي تم التسويق له في تونس أقرب إلى تحديث هلامي غير معلن عن مقاصده، لكأنه وَجِلٌ من ردة فعل المجتمع، مع التهيب من التصريح علنا بحقيقة تأثره وتنسيقه أيضا مع الدول الغربية سياسيا واقتصاديا وثقافيا. وهو ذات الموقف الذي وجدت فيه المعارضة الإسلامية نفسها بعد أن أبدت حرجا مبالغ فيه بدورها في الإعلان عن تكيّفها مع مقاصد الحداثة كما أنتجها الفكر الإنساني غربا، بحيث بقيت عاجزة عن التفاعل بشكل فارق مع الإرث الحضاري الإسلامي، وذلك نظرا لتباين مستويات المعرفة بين المنتمين لها، بل وخواء وطابهم مقارنة بقدراتهم على صعيد ممارسة الفعل النضالي الميداني والدعاية له.

وهكذا وقف الإسلاميون والنظام القائم في تونس في ذات المواقع، واتسمت ردود أفعالهم بالاضطراب والتشكيك والمراوحة، مع الاكتفاء بما تخيّره المصلح خير الدين التونسي وقَبِلَ به المجتمع من مظاهر التحديث الغربي. ومع ذلك فإن ذات الموقفين يعكسان، كل بطريقته الخاصة طبعا، محاولة لوضع حد لظاهرة إعادة إنتاج ذات المظاهر السلبية والتحرّر من جميع التصورات البالية التي ران عليها الزمان، وتلك ميزة إيجابية ثبت بالتحليل والتقصّي تشوّف مختلف فئات المجتمع التونسي ونخبه الحيّة لبلوغها وصون مكتسباتها والإبقاء عليها.

ما الذي حاول صلاح الدين البرهومي أن يشدّد عليه من خلال ربط عروض بحثه بملف محاكمات الإسلاميين تونسيا وعلاقة ذلك بفشل السلطة القائمة والإسلاميين أيضا في ضرب موعد حقيقي مع التاريخ؟ لا شيء في اعتقادنا سوى الإيمان بقدرة هذا البلد الصغير حجما وسكّانا على القطع مع الجمود السياسي والتحوّل بالتدرج إلى تجربة من أبرز تجارب التصالح بين مقاصد الإسلام والديمقراطية على قاعدة الفصل التام بين الدين والسياسة قولا وفعلا. فتدبير شؤون المدينة لا يحيل إلا على تطبيق القوانين السائدة، وليس له أي علاقة بقضايا الاعتقاد حلالا أو حراما. فما من خلاص من ورطة تجسيم شروط "الانتقال الديمقراطي" تونسيا دون إثمار للمسار الذاتي للحداثة، وهو مسار انطلق منذ إصلاحات القرن التاسع عشر، مع صياغة مضمون عقلاني لمعادلة الاقرار بحقيقة تنوّع المجال العمومي وحسن تدبير مركّباته المتباينة فكريّا وسياسيّا./.    

صدر هذا العرض النقدي بالصحيفة اليومية التونسية "المغرب"، بتاريخ الثلاثاء 30 مارس 2021 (ص ص، 8 و9). 

https://ar.lemaghreb.tn/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/item/48963-%D8%AA%D8%AF%D8%A8%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D9%88%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D9%88%D9%84%D8%B9%D9%86%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%87%D8%AF%D9%88%D8%B1%D8%A9?fbclid=IwAR3LG_HgFpYHH8xFanMQouoVyMtBhgEOYh0T6moTA7G7Y-Osr3HoP2qjrIE

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire