dimanche 10 septembre 2023

يحسن بنا أن ندرك أن المعنى العميق للانتماء وللارادة لا يمكن أن يصيبا دلالة من خارج تصريفهما في ضيغة الجمع

*
الأستاذ لطفي عيسى للشعب الجزء الأول :الخميس 7سيبتمبر 2023 عدد 1762 *يحسن أن لا نسقط في مختلف التصورات العدمية السائدة تونسيا وعربيا . *الثورة ضاعفت من منسوب المخاوف واعادة صياغة الواقع الكوني . لطفي عيسى أستاذ التاريخ الثقافي بجامعة تونس من مواليد مدينة القيروان في الثاني من مارس سنة 1958، تلقى تعلميه الأساسي والاعدادي والثانوي بنفس المدينة، وشده إليها طرازها المعماري الفريد ومخزونها التراثي والتاريخي الكبير. كما انتبه صبيا وشابا يافعا إلى تقاليدها الاحتفالية ذات الطابع الديني الشعبي المشدود إلى التراث الصوفي وأرباب صلاحه. وهو شاغل خصّه لاحقا بالعديد من الدراسات المتخصصة في التاريخ الثقافي المقارن لما وسمه بـ "مغرب المتصوّفة". كما أن شغفه بمجال الابداع والفنون ومتابعته الحياة الثقافية المسرحية والسينمائية ومطالعاته الروائية العربية والعالمية وغيرها من ضروب الإبداع الفني، كما انتسابه شابا وفي عشرية سبعينيات القرن الماضي إلى جامعتي نوادي السينما والسينمائيين الهواه قد كان له بالغ الأثر على طريقة تعامله مع المعرفة التاريخية التي حاول إخضاع عملية صياغة مختلف مضامينها وتجديد نماذج تحليلها أيضا، من بوابة ردّها إلى شواغل أحالت على التاريخ الثقافي في مختلف مجالاته وأبعاده وتجلياته السياسية والاجتماعية والجوّانية في آن. لذلك يستقيم اعتبار اهتماماته البحثية ومنشوراته الأكاديمية منشدّة إلى تاريخ بلدان المغارب وجنوب غربي المتوسط الاجتماعي والثقافي، وذلك ضمن أمد زمني طويل جسّر المرحلتين الوسيطة والحديثة وحاول مراجعة الحقب الزمنية كما حددتها المدارس التاريخية الغربية بالقطع مع حواجزها الاعتبارية والتعويل منهجيا على تصوّرات عابرة للتخصصات الإنسانية والاجتماعية transdisciplinaires. أدار لطفي عيسى قسم التاريخ بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس. وترأس اللجنة الوطنية للتجديد الجامعي في التاريخ والتراث واللجنة الوطنية للتأهيل والدكتوراه، والجمعية التونسية للدراسات التاريخية. كما انضم إلى لجان الانتداب الجامعي في جميع مستوياته ورتبه وتخصصاته المتصلة بالتاريخ والآثار والتراث والفنون. وترأس لجان العديد من الجوائز التونسية والدولية في الآداب والعلوم الإنسانية والفنون الموسيقية، كما ترأس لسنوات لجنة التبريز في التاريخ. وعهدت له وزارة التعليم العالي بترأس لجان تقييم العديد من هياكل البحث ضمن اختصاصات التاريخ والانثروبولوجيا والدراسات الحضارية. حصل في الدورة 33 لمعرض تونس الدولي للكتاب على جائزة الطاهر الحداد للدراسات الأدبية والإنسانية عن مؤلفه "أخبار التونسيين مراجعات في مدونات الانتماء والأصول". يمكن الاطلاع على محتوى مساهماته النقدية في المجالات السياسية والمدنية والثقافية والأدبية والجمالية على صفحات مدونته الرقمية الشخصية. من أبرز مؤلفاته باللغة العربية: * أخبار المناقب: في المعجزة والكرامة والتاريخ، سراس للنشر، تونس * مدخل لدراسة مميزات الذهنيات المغاربية في القرن السابع عشر، سراس للنشر، تونس * تحقيق كتاب "نور الأرماش في مناقب القشاش"، للمنتصر بن المرابط القفصي، نشر المكتبة العتيقة، تونس. (بالاشتراك) * السلطة وهاجس الشرعية في الثقافة الإسلامية، دار أمل للنشر، تونس (بالاشتراك) *مغرب المتصوّفة من القرن 10 إلى القرن 17: الانعكاسات السياسية والحراك الاجتماعي، مركز النشر الجامعي- كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس. * كتاب السيّر: مقاربات لمدونات المناقب والتراجم والأخبار، دار المعرفة للنشر، تونس. *بين الذاكرة والتاريخ في التأصيل وتحولات الهوية، منشورات إفريقيا الشرق، الدار البيضاء. * "تجارب الانتظام الصوفي في تونس"، منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود ج 2، ضمن مؤلف الحالة الدينية بتونس 2011 – 2015، جماعي، بيروت 2017. * البعد الإفريقي في السياسة الخارجية التونسية (1956-1986)، نشر المعهد العربي لحقوق الإنسان. * أخبار التونسيين، مراجعات في سرديات الانتماء والأصول، مسكيلياني للنشر والتوزيع، تونس. * في تاريخ المغارب المقارن: الأزمة والدولة والانتماءـ مسكيلياني للنشر . * مسائلة الانتماء من منظور المباحث التاريخية التونسية، منشورات دار كلمة تونس، سلسلة البصمة والمنوال. (بالاشتراك). * التصوف وتدبير الحياة الروحية تونسيا، نشر دار الجنوب، تونس وله كذلك عديد المنشورات العلمية باللغة الفرنسية .ألتقينا به وساناه عن قيروان الطفولة والشباب وعن الجامعة التونسية. وعن التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع وعن علاقته بالفنون و تجولنا في رحاب مؤلفاته الغزيرة فكان هذا الحوار : *أبو جرير : *أستاذ لطفي عيسى جريدة الشعب ترحب بكم ؟ شكرا جزيلا لجريدة الشعب على هذه الاستضافة، وفائق التقدير لهذا الصرح الصحفي الذي ما فتئ منذ سبعينات القرن الماضي يستمد نسغه الفكري والنضالي من روح الشعب التونسي، مُبرهنا على استقلالية خطه التحريري عن مختلف الحساسيات السياسية، واستبطان القائمين على حظوظه العميق أيضا لدور الاجسام الوسيطة عامة والمنظّمات الوطنية بالخصوص، في إكساب الشعار الأكثر وسما لماضي التونسيين القريب ولحاضرهم أيضا: "شغل حرية كرامة وطنية"، مدلولا نضاليا حقيقيا. *أنت ابن القيروان لو تعود بك الذاكرة وترسم لنا ما رسخ من مرحلتي الطفولة والشباب؟ الظن عندي أن فعل التذكّر لا يستهدف زمنية بعيّنها، بل يندس عميقا في تفاصيل ما عشناه ماضيا وما نعيشه حاضرا، مما يجعل الذات المفردة مكتظّة بعالم الجماعة، كما يُخضع الزمان والمكان إلى المعالجة الاجتماعية بحيث لا تستقيم ذاكرة الحاضر من دون استحضار أحرف الماضي. في حين أن الحرص على إثمار تلك الذاكرة هو ما يشكل مستقبل أي اجتماع بشري على الحقيقة. وهو ما أبلغ في استجلاء خفاياه وربطه بما سمي بـ "علم اجتماع الذاكرة" موريس هالبفاكس ضمن مؤلفه البديع "الذاكرة الجمعية" الذي حَرِصْتُ على ترجمته إلى العربية وصدر سنة 2022. لقد قُيّد لي أن أعيش طفولتي وجانب من شبابي أيضا بين زمنيين واحدة تأسيسية تحيل على حدث مفصلي يعيد معمار المدينة ومواضع القداسة والحرمة داخلها والاجيال المتعاقبة من سكّانها انتاجه رمزيا بشكل مستمر. لذلك فليس بعيدا أن يخيّل لك وأنت طفل أنك تستمد من بطولات عقبة بن نافع وتنبهر بعظمة جامعه، وتمرح في رحاب مزار أبي زمعة البلوي، وتفتخر برسالة محمد بن أبي زيد، وبمدونة سحنون بن سعيد، وتندهش لدى سماع كرامات حسن بن خلدون، وأبي القاسم السيوري، وأبي الحسن الوحيشي، وعلي العيوني، وعمر عبادة العياري... بينما يغمرك سور المدينة المهيب وتعدّد مآذنها بطُرزها المعمارية المتدبِّرة بسكينة يعزّ استجلابه خارج هذا الفضاء البديع. تُحيل الزمنية الثانية على حقيقة انكفاء المدينة وانغلاقها على نفسها وتهيّبها من تنمر فحوصها البعيدة واقصائها عن دائرة النماء بعد تصفية الاستعمار وتأسيس الدولة الوطنية. لذلك ليس غريبا أن يستبطن الطفل القابع فيك مأساتها عميقا، مستذكرا جحافل البدو الذين غزوها منذ واسط القرن الحادي عشر، فأحدثوا انقلابا كاملا على أشكال معاشها، الشيء الذي حدّ كثيرا من قدرتها على إعادة اختراع مناشط حياتها اليومية، وانتهى بساكنتها إلى الاعتقاد خطأ بضرورة إخلاص الحاضر للماضي بالكامل، في حين أن التعافي يقتضي حصول العكس ونقصد طبعا ضرورة مصادقة الماضي على الحاضر. *القيروان الذاكرة والتاريخ والتأصيل هل للقيروان خصوصية فريدة عن المدن الأخرى؟ لست ممن ينافحون من أجل هكذا تصوّر، فقد اصطبغ تاريخ تونس المعاصر بسردية جامعة ساهم انتشار التعليم في تعميمها، وجعل التونسيين يدركون أن لهم تاريخ مشتركا لا يقتصر على حضور الإسلام، وأن ميراثهم الحضاري والثقافي يشدهم إلى مجالات انتماء متنوعة تختلط ضمنها الأبعد العربية الإسلامية بما سواها متوسطيّا وإفريقيا. وهذا لا يُلغي في تصوّري توفّر حُضّر القيروان انثروبولوجيا على خصوصيات تحيل على مجالات تعيين فريدة تتصل بالمتحف الانثروبولوجي الذي يحتضنهم، وباللهجة والأطعمة واللباس والقيافة، وكذا بكياسة مخصوصة ورهافة في العلاقة بالآداب ومختلف مناشط الفنون والابداع. *نعلم أنك شغوفا بالإبداع والفنون بأنواعها وعلى اطلاع على المشهد الثقافي الوطني. لو ترسم لنا واقع الثقافة والمثقف الآن.؟ ينبغي الاعتراف بأن حقيقة المشهد الثقافي الكوني قد انقلبت ظهرا على عقب إثر سيطرة الشبكات الافتراضية للتواصل الاجتماعي وتراجع تقاليد القراءة بشكل لافت. كما أن تطوّر الذكاء الاصطناعي يؤذن من ناحيته بثورة جديدة ليس من اليسير التنبؤ بنتائجها على المدى المتوسط والبعيد. بيد أن اللافت أن تلك الثورة قد ضاعفت من منسوب المخاوف وأعادت صياغة الواقع الكوني وقراءة ماضي المجموعات البشرية وفق تصوّرات تتعارض مع سرديات المشاريع الثقافية الرسمية للدول الوطنية، وهي مشاريع غالبا ما يتنافذ ضمنها المعرفي مع السياسي، حتى وإن بدا واضحا للعيان أن تلك الثورة الاتصالية لم يصحبها توجّه نحو صياغة مشروع تضامني كوني على الحقيقة. كما أنها لا تتوفر من جانبها على مؤشرات ملموسة تعلي من إعادة صياغة سجلات القيم والمعايير باتجاه ضمان حدّ معقول من العادلة. *هل تعتقد بأن الفوراق بين المثقف العضوي والمثقف المشتبك والمثقف المستقيل ومثقف السلطة، لا تزال فاعلة ضمن المشهد الكوني حاضرا؟ وكيف ينظر الاستاذ لطفي عيسى إلى واقع المثقف التونسي ومسؤولياته تجاه مجتمعه.؟ لا مراء في أن الالتزام قيمة اعتبارية لا يمكن تجاهلها أو القفز عليها، لكن علاقة التعبير عن الاحتجاج تبدو حاضرا أكثر التصاقا بصعوبة الاقتناع بضرورة العمل من أجل توسيع دائرة المواطنة في مدلولها الكوني الشامل. الشيء الذي يدعو إلى إعادة التفكير في مناويل البحث في الانسانيات والاجتماعيات والجماليات، وذلك قصد صياغة قراءة دقيقة لما يعتمل من عدم رضا بالواقع وتهيب من انتفاء الشروط الناظمة لدول ما بعد تصفية الاستعمار تونسيا أو عربيا. مع حضور إحساس مؤرق كونيا بأن الأجيال الحالية تعيش على حساب الأجيال القادمة، وهو ما تؤكده العديد من المؤشرات الموضوعية على غرار انهيار أنظمة التغطية الصحية، وجرايات انتهاء الخدمة، وتعاظم عدد المحسوبين على أنظمة التشغيل الهشّ، ومحدودية الثروات، وندرة المياه الصالحة للشرب، وانحسار الأراضي الصالحة للزراعة، والاحتباس الحراري، والمشاكل المترتبة على التلوث، وتعاظم المديونية العمومية، وتضخم مصاريف خدمتها سنة بعد أخرى، وأزمة دولة الرعاية وانهيار النظام الاقتصادي وانحسار التقدم. لذلك ينبغي الحذر من توظيف مختلف تلك المحاذير سياسيا بغرض الترويج لتصورات تبسيطية تتعيّش من تراجع بريق الديمقراطيات، معوّلة على خطاب ديماغوجي يدّعي الصدور عن الشعب، مع اعتبار جميع النخب مأجورة وفاسدة، والدفّع باتجاه اضطرام الأحاسيس وتحريك الوجدان الجمعي المعطوب، دون تشغيل لآليات التحليل الرصين، واللعب على مشاعر الخوف والغضب والنفخ في الأحقاد وتبرير الكراهية، وجميع ما بوسعه أن يُغري الحشود حال استفحال الأزمات وتزايد الاحساس بالضعف والمهانة. *العلوم السياسة والاجتماعية والتاريخ والفلسفة رباعي ..هل هو في انسجام وما طبيعة الاضافة التي يقدمها لتحليل الواقع التونسي .؟ لمختلف المعارف التي ذكرت ولغيرها أضا آصرة قوية وإمكانيات تداخل وعبور لم يعد من المعقول تجاهلها أو إنكارها، بيد أن لكل تخصّص معرفي صندوق أدواته التي تحيل على تطور أشكال التراكم المعرفي المتصلة به. فالتاريخ مثلا لا يمكن أن ينتج دلالة من خارج إطار القراءة السياقية ووضع خطابات الفاعلين موضع أزمة والعمل على مراجعتها أو تفكيكها نقديا. في حين أن المعارف المتصلة بالعلوم السياسية تتقصّى من جانبها إعادة قراءة المشهد السياسي وتعقب موازين القوى الدولية والإقليمية والقطرية أو الداخلية، في حين تنتج العلوم الاجتماعية جملة من المفاهيم والمصطلحات قصد التعرّف على ما يسوس الانتظام الاجتماعي على الحقيقة، ويحدّد كيفية تطوره، وتعمل الفلسفة على خلخلة الأفكار السائدة والبديهيات داخل المجتمع وتطوير مستوى الوعي وتحرير الإرادات والكشف عن اشكال هيمنة التصوّرات الأيديولوجية وجميع المعتقدات الرثة التي تعيد انتاج نفسها بسبق إصرار وترصد لا حدّ لهما. لذلك من البديهي القول بأن لحذق هذه المعارف واكتساب ملكاتها دور كبير في تحرير الطاقات وقلب الموازين والتمكين الاجتماعي وتصويب الأفكار وبناء المشاريع المستندة لأدق التصوّرات الفكرية والعلمية، قصد صياغة فارق الآفاق والطموحات. *الجزء الثاني : الخميس القادم

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire