jeudi 21 septembre 2023

بقية الحوار الصادر هذا اليوم الخميس 21 - 09 - 2022 بملحق منارات لجريدة الشعب

*أستاذ اذا وضعنا الثورة معيارا لتحليل الخصوصية التونسية وأصلنا لسياقات ذلك انطلاقا من القراءة التاريخية وربطنه بمفاهيم علم الاجتماع أيضا فكيف يمكن أن نقيّم ما حصل؟ يحسن ألاّ نسقط في مختلف التصورات العدمية السائدة تونسيا وعربيا بخصوص الجدوى من تقيم ما حصل من منظور الإنجاز الثوري، لأن حقيقة التحولات التي عصفت بالمنطقة العربية ولا تزال منذ انقضاء "القرن العشرين الوجيز" وانتهاء القطبية الثنائية وسقوط جدار برلين واندلاع حرب الخليج الأولى، لا يمكن ردُّ جميعها إلى أي لحظة ثورية مهما تعاظم مستوى تكثيفها. إنما المطلوب هو التعامل مع ذلك تاريخيا باعتباره انقلابا حاسما في الظرفية وطارئا عابرا أحدث هزة عنيفة ينبغي أن تعقبها مرحلة طويلة نسبيا من عدم الاستقرار. وهو واقع ليس من السهل تخطيه من دون العمل بكثير من الجد والإخلاص ومنتهى التفاني قصد تحقيق جملة من الانتقالات المادية والفكرية والذوقية (أو/ والمتصلة بالذكاء العرفاني intelligence émotionnelle) الذي يتطلّب من وجهة نظر اجتماعية حضور استعداد واقعي لإعادة اختراع اليومي بُغية الارتقاء إلى درجة أعلى من النضج والكمال. *لك مؤلف بعنوان "التصوف وتدبير الحياة الروحية تونسيا" .. فهل توجد باعتقادك حركات صوفية في تونس؟ وما أهم خصائصها أو فرادتها؟ صحيح هو مؤلف يحمل مواصفات المقالات الحرة Essais صدر بالتزامن مع انعقاد الدورة الجديدة لمعرض تونس الدولي للكتاب عن دار الجنوب، وحمل العنوان الجمع الذي تفضلت بالإشارة إليه. وقد تمثل مقصده في إعادة زيارة مسألة الانتظام الصوفي تونسيا من بوابة علاقته بالحاجة إلى حياة روحية ثرية بدا لنا اتصالها الوثيق بحزمة من الممارسات الاجتماعية والذوقية المحسوبة على أهل التقى وأرباب الزوايا والطرق، ساهمت في تقريب مقاصد الاحكام الشرعية الناظمة قديما لحياة الناس على ضفتي المتوسط، واستكشاف حضور تناظر طريف بين أشكال الإثمار بينهما، الشيء الذي يدعونا إلى عدم التسرّع في الحكم على الغيريات الثقافية والروحية، والاقلاع عن الاعتقاد في عنجهية المختلف أو في بربريّته. *لك عديد المؤلفات في اختصاص التاريخ والانثروبولوجيا. فكيف يكتب التاريخ ومن يكتبه؟ هذا صحيح أيضا، حتى وإن شكّل أغلب تلك المؤلفات تنويعات يدور محورها حول هاجس مركزي واحد على الحقيقة، أخذني تدريجيا وعلى صعيد الممنهج من توسيع أفق الحقبة الاعتبارية للفترة الحديثة (16م – 19م) والتركيز على نوع من التجسير بينها وبين باقي الحقب الأخرى، والاعتبار بأهمية النقلات والمفاصل الزمنية البيّنية، إلى التدرّج من الاشتغال على التاريخ الاجتماعي وتاريخ الذهنيات، إلى الاعتبار بالتاريخ الثقافي الذي يساءل اليومي ويفتح أفق التحليل على مواضيع واعدة تقرّب الشقة بين المعالجة السياقية التي يقترحها المؤرخ والمعالجة الميدانية للرواسب الثقافية البشرية وفقا لما ترتضيه الأنثروبولوجيا. الشيء الذي ساهم على ما أتصور في صياغة معرفة مفارقة لشواغل غير مبذولة تتصل على سبيل المثال بالحسّ والمحسوس، وبالتاريخ الثقافي للفئات الاجتماعية، وبتطور الثقافة السياسية، وبغيرها من المسائل التي تحتاج إلى هذا النوع من الإضاءات المفيدة. *أستاذ تحملت عديد المسؤوليات بالجامعة التونسية وخاصة على مستوى التأطير، فما تقييمك لواقع التعليم عموما .؟ لا يمكن أن نختلف في حاجتنا حاضرا إلى نقلة كيفيّة في مجال التربية والتكوين وتلقي المعارف تسمح بمواكبة ما هو حاصل في كثير من دول العالم المتقدم أو النامي. ولا فائدة من إعادة إثارة الوضع البائس الذي أضحت عليه مؤسساتنا التربوية العمومية التي لم يعد بوسعها، إن على صعيد البنية أو على صعيد الإطار التربوي، تحقيق أي تقدم في هذا المضمار. بيد أنني لا أفهم شخصيا ما الذي يجعلنا نتعامل مع موضوع الإصلاح التربوي بالذات من خارج القواعد الناظمة للحياة الاقتصادية والاجتماعية عامة. طبعا على الدولة تحمّل واجباتها إزاء مواطنيها من دافعي الضرائب، والحرص على توفير حد معقول من الرفاه الجمعي يضمن كرامة المنظورين، غير أن تحسين الخدمات في مختلف المجالات الاستراتيجية وإنجاز حزمة من النقلات النوعية في مختلف المجالات كالطاقة والاقتصاد الأخضر وحماية المحيط والتأمين والرعاية الصحية والتربية والثقافة وخدمات النقل العمومي وجودة الاعلام، يحتاج جميعها إلى تطوير مستويات الادماج المالي والاقتصادي وبناء شراكة بين قطاعات الإنتاج الخاصة والعامة، وفتح باب المنافسة ورفع اليد الثقيلة للإدارة على مصالح الناس وصياغة ميثاق مواطني ينأى بنا جميعا حكّام ومحكومين عن عقلية الوصاية والاتكال والمحسوبية والتحيّل وابتسار النجاح في تحقيق الخلاص الشخصي. فغِبْطَةُ الاقبال على التكوين وبناء الملكات والمعارف لا يمكن أن تساس بشكل تسلّطي يُكره الناس على ما لا يريدونه ويصدّهم على صياغة أفق حقيقي يجمع بين إراداتهم الفردية، ويمكنهم من تصوّر مشروع جماعي يسمح لطموحاتهم الشخصية أن تجد لها موطئ قدم ضمن عالم الجماعة المتكاتفة والمتضامنة. *لك كلمة حرة نختم بها هذا الحوار.؟ أثبتت القراءة في تشكّل الشعبوية السياسية زمن ما بعد 2011 تونسيا، أن ما جد غير منفصل عمّا هو حاصل كونيا. ذلك أن متخيل الاحتجاج الذي ساهم في حصول قطيعة غير منتظرة في مسار طويل، وضعية لا يمكن ادعاء القدرة على تداركها بشكل استباقي. فقد ساهمت تلك الهزة القوية في قلب مسار التعبير عن السخط. كما أثبت من جانب آخر أن ردود الفعل الأمنية لم يعد بوسعها -خارج إطار تشبيك الوساطات ذات التوجهات المدنيّة- الخروج بأي طائل حيال مثل هذا النوع من الطفرات. لذلك ليس بعيدا أن تشكل المرحلة التي نعيش ارتدادات ذات علاقة وطيدة بهبّة 2011. فتعدّد المحطات الانتخابية لم يفض إلى تجاوز الطابع الانتقالي للحكم ورسم أفق حقيقي لزمن الدخول في الاستقرار السياسي والتداول السلمي على السلطة. لذلك فإن ما هو قابل للتحليل تونسيا، هو تواصل التحوّلات في شكل حلقات متضامنة لا تخلو من امتدادات إقليمية وكونية. وهو ما قد يحتاج إلى عشريات مديدة من الزمن، بحيث يستقيم اعتبارا لسرعة انقضاء القرن الماضي، أن نعتبر أن ما حصل بتونس هو ارهاص سابق لما سيعرفه الإقليم برمّته في عضون السنوات القليلة القادمة، ولو بأشكال متباينة، وذلك ضمن سياق تاريخي كوني مشوب بتعاظم ردود الفعل الانعزالية والتوجّهات السياسية المحافظة وتلبّد الآفاق وتأجج المخاوف الدافعة لتزايد منسوب العنف، وتفاقم الصراعات الإقليمية، تلك التي لا يمكن ألاّ تلقي بضلالها على الواقعين التونسي والعربي. وفي ظل وضعية كالتي وصّفنا ينبغي أن يتمثل دور المنجز المعرفي والثقافي في القدرة على تحقيق انقلاب ضمن سجلات المعايير والقيم، بحيث يستقيم التساؤل حال معاودة زيارة منجز الثقافة التونسية عمّا يمكن أن يشكل اصطدام بشيء مفارق غير معهود، يدفع إلى مراجعة مدركاتنا القديمة وأشكال تعبيرنا عن أحاسيسنا أيضا؟ وهل لدينا شعور بأن ما تم إنجازه خلال العشرية المنقضية قد مثّل فرصة حقيقية لرؤية العالم بشكل مُختلف أم لا؟ تكشف التحولات الطارئة منذ تسعينات القرن الماضي في تشابكها عن سوسيولوجيا التونسيين وعلاقتهم بوطن الانتماء. كما ترسم أشكال اختراعهم لليومي ودقائق أعمالهم ومعاشهم. وما يسترعي الانتباه هو حضور تباين بين عافية الشمس وزرقة الماء واستبطان الدعة والخضرة من ناحية، ورثاثة العيش والإهمال وضعف الحيلة وانتفاء الملكات، والانقلاب من راحة المعاش إل قسوة العوز، وانحدار المشاهد الجغرافية الثقافية إلى مواضع منكوبة لا تليق بكرامة البشر. ولعل اتساق عقود من تسلط الحكّام وانحباس النماء وتسييج مصادر الثروة واحتكارها وضرب حرية الفن والفكر وفضائل المعرفة واغتنام الملكات وصياغة فرص الترقي الاجتماعي، هو ما دفع بالناس إلى الارتماء في أحضان المجهول، مع توثّب إلى الفرار من جحيم الواقع المرّ واندفاع إلى الانخراط في مسالك الهجرة غير النظامية أو الاشتغال بالتهريب وشبكات الممنوعات، وتقاسم السطحية والتطرّف والانحراف والجريمة وتبييض الأموال والتطبيع مع الإرهاب، وجميعها مظاهر زادت في تعفّنها سنوات انتقال موهوم مشوب بمحافظة واجهة، وأشكال نضال عرجاء تنازعتها مشاعر حنين تكسوها شعارات رثة لا ترى خلاصها إلا في إعادة انتاج المنظومة القديمة بلُبُوس مخاتلة. لذلك انزلق المشهد التونسي بعناصره المادية وغير المادية، وتركيبته الاجتماعية في مستنقع الإهمال والعوز المعمّم، فضلا عن القبول بالرداءة الذوقية والتشجيع على مزيد من التسوية إلى أسفل./.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire