mercredi 7 septembre 2011

متوسط المشترك الثقافي أم "يوطوبيا" نقاء الهويات القاتل ؟

إلى سحر عذوبة "الفادو" في صوت "أماليا رودريغيش



تبدو الثقافة المتوسطية يافعة جميلة وإن جاوز عمرها بعض آلاف السنين. غير أنّ الذهنية الأوروبية كثيرا ما تجد صعوبة جمّة في القبول بالتمازج الثقافي، والحال أن ذاك التمازج هو أصدق التعابير عمّا شكّل ولا يزال هويتها الحقيقية. فمن "دانتي إلى "سان جون دي لا كروى" يتعقّل الأوروبيون الطرافة الثقافية في توهّم نقائها المحض النافي لحضور مؤثرات خارجة عن مجال الثقافة الغربية.
يتحوّل ذلك النفي إلى أزمة ضمير حقيقية كلما أثبت البحث بالدليل القاطع تهافت القائمين على تلك "اليوطوبيا"، مبرهنا عن حضور روافد عربية إسلامية لتك "الثقافة النقية".
لا يحتمل الغرب أن تكون سجايا الإبداع وتجلياته واحدة، فلا يرضى مثلا لبيت من شعر الغزل الصوفيّ مأثور عن "إبراهيم بن سهل"، شاعر أندلس الغرب الإسلاميّ المولّه الذي مات إبان سقوط قرطبة وبغداد في منتصف القرن الثالث عشر، أن تكون له قيمة أي قريض في غرضه مأثور عن شعراء الغرب المسيحيّ.
مُتيَّما كان ابن سهل اليهوديّ الأصول بعشق أمردين، فقد أحبّ جمال موسى ثم أعرض عنه بعد أن ابتُلي بعشق جمال نبيّ الإسلام محمّد.

لا يخفى ما لهذا الضرب من الصنعة الشعرية من رقش باللفظ لمعاني التصّوف الذوقيّ، فالحبّ الناجم عن جمال "الأماريد" هو كناية عن المحبّة الصوفية المنسلخة عن كينونتها المنصهرة في الجمال الخالص، حيث علّة الوجود وسبب كل موجود.

ما من شكّ في عودة هذه الكناية الشعرية في أصولها إلى الأفلاطونية الجديدة التي ورثتها الإسكندرية الهلينستية عن أثينا الهلينية وجدّد بريقها شيوخ التصوّف الشرقيّ المؤسّسون. في البدء تُطلّ شخصية "بوزانياس" في مؤلف الوليمة لأفلاطون وفي مطلق ظنها أن ما من عشق يرقى إلى مستوى المثْلِية، تلك التي تقتصر غايتها على ذاتها ولا تتنكب مراقي العشق لتختصر علة الوطء في الإنجاب. يتنازل "ابن سهل" في القرن الثالث عشر عن عشق موسى، مركّزا خالص "المحبّة الصوفية" على نبيّ الإسلام محمّد، بينما يُسِرُّ "مرسيل فيسان" في حدود القرن الخامس عشر، في غواية دالة لصديقه"جيوفاني كافالكانتي" أنّ "ما عَلِمه حول المحبة قد استقاه عن "أورفاي"، وأن ليس من مماحكة في فضل "أفلاطون" في الكشف عن كنه تلك المحبّة". نفس هذا التعريف روّجته أشعار "جيوردانو برينو" المقفلة المنشورة ببريطانيا الإيليزاباتية في أعقاب القرن السادس عشر ضمن مؤلف فارق ترجع أصوله إلى نظريات الأرتميتيقا الفيتاغورية حمل عنوان "الجنون البطولي "، تلك النظريات الواردة في كتاب "نيكوماك "تيولوجيا الأرتميتيقا"، التي انقطع أثرها بالكامل ولم تتمّ استعادة جوانب منها إلا من خلال ما اطّلع عليه علماء بيزنطة من جواهر دفينة حواها بلاط السلاطين العباسيين ببغداد.
يستحضر "نيكوماك" ضمن تصوراته الأرتميتيقية فكرة "الجوهرة" محاولا المزج بين خصوصياتها الطبيعية المتمثلِة في فرادتها الأصيلة المشكِلة للكون، معتبرا أنها جوهر الذات والكائن غير الفارق جنسيا وإله المادة. إنها الإناء الكونيّ الجامع الذي يحوي الانهيار والظلمة والهوّة والبشاعة وشدّة العزلة والنسيان، كما يتضمن الشمس والنار المقدسة ذلاقة لسان الآلهة من "زوس" إلى "أبولون ".
ولأنه احتوى مختلف العناصر الأصلية، فإنه قد توفّر أيضا على رموز تجربة السلوك نحو المطلق، تلك التي تشكلت في قديم التواريخ مُمثِلة رديفا لفكرة وحدة الوجود ذات الأصول الثقافية الهندية-الأوروبية، وهي فكرة أعاد التصوّف الإسلاميّ المنسوب إلى ابن عربي تملّكها بعد اطلاعه على النظريات المشكلة لكُنْه الأفلاطونية الجديدة.
نهلت النصرانية من ذات النبع مسهبة الحديث عن محاذير تجربة السلوك والترقي تجسيما للوصل والتشابك روحا وجسدا مع المعشوق. ويبرز ذلك جلياّ في الموشّح الأندلسيّ كما في "الأهازيج البروفنسالية" وفي قصائد الحب المضمّخة بروائح الورد الفرنسية وفي مقطوعات "الموسيقى البتراركية" وفي "حلم بوليفيل" ومقاطع أشعار "رولان" المسجوعة الموشاة وحتى في "مواقف كيشوت الهزلية".
ينحصر غرض هذه الأجناس على تنوعها الظاهريّ في توصيف مشاقّ الوَلَهِ تحقيقا لعلّة الوجود. وحدها عبقرية الشعر وإلهام الشاعر يستطيعان أن يعرضا علينا مأساة فاجعة في كساء براق خاطف للّبّ مُفقد للصواب، ليس للمحبّ حظّ ضمنه في تجاوز محاذير السلوك إذا لم تسعفه "المحبّة الجنونية المقدّسة"، فالجنون مرقاة الشاعر والمتصوّف معا إلى الإلهام و"المَـدَدِ" منذ "هوميروس".
التوحّد مع اللا محدّد عقلا لا يمكن أن يستجلبه غير جموح الرغبة وأزف الروح والهوس المجنون في حب خالص الجمال. لا تحتاج تجربة العشق، مثلما أفاض أبطال "كوميديا دانتي" في توصيفه، إلى رؤية خالص الجمال تمتيعا للنظر، بل إنّ حاجة الروح المعذّبة المنفيّة إلى الانصهار في بؤرة الضوء وخالص النور، هي ما يُسعف جنون المجبّة في شد المهجة واسترقاق الوجدان.
ذاك ما خلص إليه "ميكال أنجلو" الذي اعتبر أنّ ما نُصيبه من متعة التشابك مع الآخرين هو عين الحاجز الذي يحول بيننا وبين التوحّد الذي لا يرضى بغير العزلة الـمُفضية إلى السكينة ثمنا. وهو عين ما ابتغاه "الحلاج" لمّا أسلم الروح شهيدا متشوّفا إلى الفناء في مطلق الجمال الناجم عن حرارة الإيمان. وهو ما عناه "جيوردانو برينو" أيضا عندما تساءل في مؤلف "الجنون البطوليّ" عن السبب الكامن وراء "توجّه الفراشة نحو بؤرة الضّوء الساطع عير عابئة بمغبّة هلاكها بألسنة اللهب".
تتساءل "سيكادا" بطلة مؤلف "جيوردانو برينو" عن الحاجة إلى مبادئ عقل أرسطو، فيجيبها "تانسيّو" بأنها مظنَّة من مُنع القدرة، على غرار "هوميروس" و"هزيود" و"أورفي"، في الانقلاب شاعرا دون الحاجة إلى عقل أرسطو، وهي تمحّك العقيم لـمّا تعوزه الحيلة في استجلاب آلهة الإلهام، فيكتفي بعشق مُلْهِمَة "هوميروس".
عاقبت الكنيسة المسيحية "جيوردانو برينو" حرقا عن "جريرته" الإبداعية في موفّى القرن السادس عشر، غير أنها عجزت في بداية القرن العشرين في الحدّ من انتشار النتائج المربكة التي أفضت إليها أبحاث الإسبانيّ "أثين بالاثيوس " الفيلولوجية المنشورة سنة 1919 حول تأثير "الإسكاتولوجية" الإسلامية في "كوميديا دانتي الإلهية" ووقفت مشدوهة سنة 1922 أمام براهين "خوليان ريبيرا" بخصوص تأثير مقامات الموسيقى الأندلسية في تشكيل أناشيد "الكنتيغاس" الدينية المنسوخة بعناية فائقة على رقّ أشهر مخطوطات كتب الإنشاد الدينيّ المسيحيّ المنسوب تأليفها إلى الملك "ألفونش العاشر" أو "ألفونش الحكيم"، تلك الأناشيد التي عايش "دانتي أليغيري" فترة اجتراحها.
هكذا تبدّى أفق الثقافة المتوسطية العابر لدعوى نقاء الهويات الضيقة القاتلة، أفقا مُتشابك المؤثرات، مُنغرسا في موروث بحيرة المشترك الثقافيّ منذ أن امتزجت مأساة آدم المكنّى لدى صوفية المغارب بـ"أب الذراري"
بتلك التي عاشها "بروكليس" وارث مدرسة "أفلاطون" و"بلوتارك" الأثينية عندما أقصيا عن جنتهما ولم يطلهما العدم بعد. فحُكم على الأول بمنح بذرة الحياة وتجديدها متجشما في ذلك آلام الخلاص جامعا قوته بمنتهى الكدّ والمعاناة، في حين أجبَر تحوّل الأباطرة الرومان عن الديانة الوثنية وانتصارهم للمسيحية الثاني أن يتحسّس طريقه عبر سراديب السرية المظلمة، حاملا معه أفكارَ ومعارفَ وأسرارَ حضارات عظيمة ضاربة في القدم.

الهوامش:
* تشكّل الأفكار المعروضة ضمن هذا المقال صياغة حرة وترجمة تصرّف للفصل الأول من كتاب "رودريغو دي زياس Rodrigo de Zayas " "المورسكيين وعنصرية الدولة Les morisques et le racisme d’Etat " وهو فصل تساءل ضمنه "زياس" عن مدى صحة القول بوجود ثقافة متوسطية ؟
* أماليا رودريغيش هي "ديفا" غناء "الفادو" البرتغالي الجذور الأندلسي الامتداد. فقد "استوعبت حنجرتها أعذب أصوات أسراب الطيور الحائرة وشجها الحزين على امتداد ضفتي المتوسط". أما "الفادو" فهو في عرف حذّاق العالمين بمقاماته أو أمزجته:"الاقتناع بأنه ما من سبيل للخلاص مما يندس عميقا داخل ذواتنا. وهو أيضا تساؤل لحوح حول أسباب ما يتملّكنا من حيرة، حتى وأن تبيّن أن لا حظ لنا في التوصّل إلى إجابة شافية حول ما ينتابنا من حزين الأحاسيس و مهيب المشاعر .

6 commentaires:

  1. أدعوك لمشاهدة هذا الفيديو عن مدينة ميرتلة البرتغالية، مدينة متوسطية رغم أنها تبعد 70 كلم عن البحر
    http://vimeo.com/36637051

    RépondreSupprimer
  2. Une "créolité" au dessus de tout soupçon, c'est peut-être ça aussi la Méditerranée. Merci pour cette belle balade.
    Mertola c'est aussi le centre de la révolte du grand saint d'Ibn Qassi auteur de Khala'an-nalayn
    خلع النعلين في الوصول إلى حضرة الجميعين.
    قال عبد الواحد بن علي التميمي المراكشي: "قام بحصن مارتلة، ودعا إلى بيعته، ثم اختلف عليه أصحابه، ودسوا عليه من أخرجه من الحصن بحيلة حتى أسلموه إلى أحد الموحدين، فأتوا به عبد المؤمن، فقال له: بلغني أنك دعيت إلى الهداية.
    فكان من جوابه أن قال: أليس الفجر فجرين: كاذب وصادق؟ قال: بلى. قال: فأنا كنت الفجر الكاذب. فضحك عبد المؤمن ثم عفا عنه. "ولم يزل بحضرة عبد المؤمن حتى قتل

    RépondreSupprimer
  3. نعم أحمد بن قسي "صديق عزيز"، و شخصية فريدة كادت أن تجعل من ميرتلة عاصمة لكل الأندلس، كذلك كأبو عمران المارتلي أستاذ المتصوف الشهير مُحي الدين ابن العربي، أو أبو حاتم المارتلي الذي أكتشفت أنهٌ كان خطيب جامع ميرتلة(جامع ميرتلة هو الوحيد في البرتغال الذي يعود إلى الفترة الإسلامية)
    لا أعرف أن كنت تعلم بأني قمت بالماجستير حول مدينة ميرتلة أين قضيت شهرين ونصف في إطار مقاربة أثرية-تراثية..حقيقةً هي مدينة رائعة، و تجربة فريدة في كيفية تثمين التراث، تقريبًا كل نشاط المدينة مرتبط بعملية التثمين هذه خصوصًا للتراث الإسلامي
    أنا بصدد إنجاز مقالين عن الموضوع، الأول مقتطف من الماجستير بعنوان: أوجه من الحضور الإسلامي بمدينة ميرتلة، و الثاني متعلق بحضور غرب الأندلس و مدينة ميرتلة في المصادر العربية (مقاربة مصدرية) سيشرفني كثيرًا لو تقوم حضرتك بمراجعتهما

    RépondreSupprimer
  4. Non je ne le savais pas. Mais je vous en félicite.
    Oui je me ferai une joie de regarder vos nouvelles recherches.
    Vous pouvez me les faire parvenir par courriel.
    A propos, je ne sais pas si vous disposer d'une édition critique de l'oeuvre que je vous ai cité d'Ibn Qassi, parce que je voudrai y jeter un coup d'oeil.

    RépondreSupprimer
  5. شكرًا جزيلاً سي لطفي، أرجو أن تمدني ببريدك الإلكتروني.
    بالنسبة لأبن قسي لا أعرف أن كنت أطلعت على الكتاب المُحقق من قبل الأستاذ محمد الأمراني، حيث يسبق نص المؤلف دراسة هامة تمتد على 156 صفحة، على كل حال يمكن أن أرسل لك هذه النسخة على الميل إذا كنت لم تطلع عليها
    كذلك هذه المقالة:
    Lagardère, Vincent, “La tariqa et la révolte des Murîdûn en 539 H / 1144 en Al-Andalus“, In Revue de l'Occident musulman et de la Méditerranée, N°35, 1983
    تحياتي و شكرًا مجددًا

    RépondreSupprimer