jeudi 22 septembre 2011

قــــصّ ولـــــصـــق محمد الكحلاوي ومناقب السيدة المنوبية



البارحة حصلت ومن يد المؤلف شخصيا وهو الذي صادف طريق عودتي من الكلية، على كتاب مناقب السيدة عائشة المنوبية في تحقيق ودراسة لمحمد الكحلاوي، مع إهداء باذخ "يأمل مزيد تنوير الحق والتصوّف"[كذ]. وقد أشرت لصاحب الكتاب فيما خاطبته به، بعد الثناء على صنيعه نشرا وإهداء وطبعا، أنني قد لمحت عمله وأنا في طريقي إلى العمل معروضا بواجهة مكتبة محترمة تقع في قلب الشارع الرئيسي لمدينة تونس، وأن نيتي كنت متجهة إلى اقتنائه للاطلاع على محتواه.
اليوم وقد أتممت قراءة العمل دفعة من أوله إلى آخره، أجدني محرجا بعض الشيء، لأن الهدية تردّ بمثلها، ولأني لا أرى في ما سأورده حول هذا العمل ما يقابل ما حصلت عليه مقرونا بلطيف المجاملات المبذولة في هكذا مقام، لكن أليس في طبع الرياح أن تجري أحيانا بغير ما تشتهي السفن؟
يقع هذا العمل الذي عُرض على القراء في شكل أنيق جذاب طباعة وغلافا، وصدر سنة 2011 عن منشورات كارم الشريف ضمن سلسلة أُفردت للتصوّف يُعتبر هذا الأثر باكورتها، في 200 صفحة من الحجم المتوسط. ارتأى المحقق أن يضم إليها ثلاثون صفحة باللغة الفرنسية، تولى ترجمتها عن الأصل محمد الخالدي ولم نجد لحضورها ضمن نفس الأثر من سبب وجيه، غير تخصيصها للتعريف بالتصوّف الإسلامي عامة ولتقديم نبذة مبتسرة عن سير أبرز أرباب الصلاح إفريقيا، وعن الآثار الموضوعة في مناقبهم.
قُسم الكِتاب، إذ ما استثنينا التقديم والتمهيد إلى قسمين: يحمل أولاهما عنوان "مداخل نظرية وتاريخية"، ويتضمن ستة عناوين تعرّضت تباعا إلى مناقب المنوبية وإلى الخوض في هوية مؤلِفها، وسياق ظهور النساء الصوفيات بإفريقية والغرب الإسلامي، وإتيقا الصوفية، وتحديد مميزات الأنوثة في الخطاب الصوفي، قبل التفرّغ للتعريف بالوليّة، ووصف عدد من المخطوطات المتصلة بسيرتها ضمن رصيد دار الكتب الوطنية بتونس.
أما القسم الثاني فقد خُصص من ناحيته لتحقيق متن المناقب وتضمن ستة فصول، أَلحق بها المحقق مختارات من المدائح المأثورة في سيرة الوليّة وشمائلها، فضلا عن الملاحق والصوّر والفهارس وقائمة المصادر والمراجع.
لم يتسم هذا التخطيط الثنائي بالتوازن، فقد شغل القسم الافتتاحي أكثر من مائة صفحة بينما لم يشمل تحقيق المتن المناقبي إلا نصف ذلك العدد، مما يدل على انزلاق في السهولة وتعويل على الحشو وتكديس المعطيات الجانبية والإيغال في الإنشائية والقفز من المعالجة الأدبية والحضارية إلى المقاربة التأملية الدينية مع ادعاء التوسّل بمناهج الفلسفة والتاريخ وغيرها من علوم الإنسان والاجتماع.
حسبنا التوغل في مضمون تلكم المقاربات المقترحة، لكي نتفطن إلى أن كتاب محمد الكحلاوي أحبولة مُضحكة مُبكية في قالب مُنْجَز معرفي رصين، وأن "المحقق" الذي يدعي التعويل على مقاربة تاريخية سياقية لهذا الأثر المناقبي، واعدا بـ"تجاوز السائد والمألوف" "ودحض آراء بعض المؤرخين" الذين اتخذ من أبحاثهم رقعة تصويب لا لشيء إلا لأنهم خالفوه الرأي، مصنفين بزعمه التصوّف الإفريقي، وبالتعويل على توجهات البحث الإستشراقي، في خانة "التصوف الطرقي" أو "التدين الشعبي"، من دون أن تكون لهم معرفة معمّقة وفي نباهته طبعا بالمتن المناقبي وبالإرث الصوفي الكفيل وحده بـ"فهم الدين فهما ذوقيا روحيا وإتيقيا أنطولوجيا مركزه الذات / الأنا"[كذا]. مُحيلا وإثر ذلك مباشرة، وفي تناقض مُلفت على أعمال واحد من أساطين الإستشراق الفرنسي في شخص "جاك بيرك" ليثنيَ على آرائه دون الاطلاع حقيقة على مضمونها، بخصوص محورية الانكباب على استنطاق متون مناقب المغارب بغرض استكشاف خصوصياته التاريخية وفهم تركيبته الاجتماعية وحساسياته الدينية وسجل تمثّلاته كما مستوى تطور الذهنيات السائدة داخله، واعدا في هذا الصدد بفتح ملفات شائكة بخصوص سيرة هذه الوليّة الصالحة، على غرار مسألة لقائها بالشاذلي واحتكاكها سلوكيا وذوقيا به، حاسما المسألة دفعة وما له من برهان على ذلك سوء الإشارة إلى أن مضمون حلقة الذكر الشاذلي بمقام السيدة وانتساب وكيل المقام حاضرا إلى الطريقة الشاذلية !
أما بخصوص التعريف بمنهج التحقيق فيعرض الباحث إلى النسختين اللتين عوّل عليهما، فضلا عن طبعة العربي الغربي لسنة 1926، ذاهلا عن الإشارة إلى بقية النسخ وخاصة تلك التي وظّفها في نسب تأليف الأثر إلى أبي العباس التادلي المغربي ونقصد النسخة المحفوظة بالمكتبة الوطنية تحت رقم 9646. وهو افتراض ساقه هشام عبيد ضمن أطروحته، معوّلا على اعتراف الناسخ بالنقل على "ديوان [كذا] الشيخ...التادلي"، مع الاستئناس في ذلك بما أشار إليه كل من بروكلمان ومحمد محفوظ. كما يضرب "المحقق" فيما عدا الإشارة إلى عنوان المرجع صفحا عن تقليب النظر في النسخ التي عوّلت عليها نيللي سلامة عمري في نقل هذا الأثر إلى اللغة الفرنسية والاستفادة من مقدمة عملها ومن الجهاز النقدي الذي توفر عليه، مما ينهض حجة على عدم اطلاعه على هذا البحث، فضلا عن تهافته الصارخ لما حكم بالظن على تصحيف بعض "المؤولين" للمناقب، والحال أن القائمة التي ألحقها بمتن التحقيق للنسخ المخطوطة المحفوظة بالمكتبة الوطنية لا تتوفر على كل نسخها، بما في ذلك النسخة رقم 8906 وهي عين الأثر الذي تم الرجوع إليه في نقل شذرات من سيرة المنوبية المناقبية، وتأوّلها بما يخدم الإشكاليات التي اشتغلنا عليها حال بداية اهتمامنا بالظاهرة الصوفية في بلاد المغارب وظهور باكورة أبحاثنا "أخبار المناقب" وهو كتاب مرّ على نشره اليوم قرابة العقدين من الزمن.
لا يبدو المحقق دقيقا في تأويلاته ومتمعّنا من دُفعاته بخصوص مختلف المسائل التي تناولها إلا فيما ندر من الحالات التي ليس من المغالاة في شيء تصنيفها ضمن قائمة "ما لطف ربك". فقد طغى على استدعائه للعديد من المصادر والبحوث المرجعيّة، المشرقية منها والمغربية، طابع القطع واللصق. ذلك أن معظم ما أورده في معرض ما وسمه بالقراءة التاريخية السياقية لظهور النساء الصوفيات مغربا أو لــــ"إتيقا الصوفية والأخلاق الاجتماعية" وكذا لموضوع "الأنوثة في الخطاب الصوفي"، لا يعدو أن يكون اجتزاء من مراجع أو مصادر معروفة، مع أخطاء أولية نتحفّظ على ذكرها في رسم الأسماء أو المصطلحات بالأحرف اللاتينية، ارتأى الكحلاوي ربطه بفقرة قصيرة في خاتمة كل فصل شكلت حجة الحسم في توفّر سيرة الولية على تلك القيم، وتعبيرا منه عن اتصافها ما تم عرضه من مآثر سامقة تحيل على سياق مغاير يبدو من دواعي الإسقاط ربطه ومن وجهة نظر تاريخية دقيقة بغير أرباب التصوّف الراقي للأفراد، مشرقين كانوا أم أندلسيين.
يتدرجّ "المحقق" على إثر ذلك إلى التعريف بسيرة السيدة المنوبية من وجهة نظر تاريخية، وكذا إلى الخوض في مميزات تجربتي التصوّف والولاية اللتين خاضتهما. يشير الكاتب عند هذا الحد إلى تعويله وبالإضافة إلى ما تضمنه متن المناقب، على البحث الميداني الذي أنجزته "كاتيا بواسفان سويد Katia Boissevain-Souid" ونشره معهد بحوث المغرب المعاصر IRMC سنة 2006: "وليّة بين الأولياء: السيدة المنوبية أو إعادة تركيب ثقافية لتونس المعاصرة" حتى وإن اتسم تعامله معه بكثير من الخلط سوى على صعيد نماذج البحث التي وظفتها الباحثة، أو حتى في فهم محتوى عرضها الأنتروبولوجي بالدقة الكافية أو المأمولة. كما استجلب عدد من الروايات الواردة ضمن أعمال الوزير السراج (الحلل) والباجي المسعودي (الخلاصة) وحسن حسني عبد الوهاب (شهيرات) وأحمد جمال الدين الخياري (بلوغ الأرب) ومحمد الحشائشي (العادات). وجميعها أعمال تفصلها عن حياة الولية أكثر من خمسة قرون من الزمن، وذلك بقصد التعرض إلى مسائل تتصل بتحديد موضع دفنها أو "قبر السر"، وبلدنية تكوينها وبلقائها بالشاذلي وسلوكها طريق الإرادة على يديه، مبررا ضرب المصادر المعاصرة أو القريبة من مرحلة حياة الولاية، وعلى غرار مدونات مناقب صلحاء مدينة تونس خلال العهد الحفصي الأول، صفحا على ذلك من قبيل ما وقع فيه الزركشي في تاريخ الدولتين من تغاضى عن سيرة الشاذلي، والحال أن مرد ذلك وفق ما سبق وأن قدّرناه، متصل بتأخر حصول التوافق بين جنحي التصوّف السني الـمُحتسِب المتمسّك بالأحكام الفقيه، والتصوّف القاعدي الـمُؤثِرـ للعادة والعرف، وهو ما لا يمكن ربطه إلا بمرحلة نهايات الدولة الحفصية واستقرار الحكم بيد الأتراك العثمانيين على أيام المراديين والحسينيين على وجه التحديد.
ويعود "المحقّق" مجددا وضمن عروضه المخصصة لتجربة تصوّف السيّدة، لإثبات شأوها السامق و"مرجعيتـ[ها] الفكرية الدينية العالمة" التي ذهل عنها البعض (وجميعهم في حصافته مؤرخين)، متناسيا في ذلك اتسام النص المناقبي بالتلفيق وقدرة واضعيه على المخاتلة الروائية، مع سبق إصرار وترصد لحدّ لهما.
المنوبية "شخصية مثالية...تكلمت في بطن أمها" رأت أنبياء التوحيد (موسى وعيسى ومحمد) وغيرهم من الأنبياء، ولقنها كبار الصحابة وأساطين الصلاح كالجيلاني والشاذلي. كما لقيها الخضر مرارا وتكرارا وواصلها وخطب ودها، بل وقلبها أثناء سياحتها العديدة داخل المجال الاعتباري المقدس للحاضرة الجديدة تونس، فأعرضت عن الصحبة متمسّكة بالتوحّد في الذات الإلهية، وهي التي خاطبتها وناجتها في الأرض والسماء، تأسيا بالحلاج ورابعة العدوية وعمر بن الفارض ومحي الدين بن عربي. وكفى بذلك حجة في اعتبارها "قطبة الأشراف" بل "سيدة الرجال". فتجربتها الصوفية على طريق الملامة يضارع مأثورها بلاغة الرومي في مثنوي والشيرازي في أريج البستان، بعد أن اعتبرت وهي على فراش موتها أن غياب القلب مُعدم للذكر باللسان.
ويرى "المحقق" أن تعارض الآراء حول تجربة السيّدة المنوبية الصوفية، وخاصة تحامل المؤرخين على غرار "ما ذهب إليه توفيق البشروش" وما صاغه لطفي عيسى من" كلام [كذا]" بخصوص شخصيتها القلقة وتصرفاتها المنفلتة بمقاييس المجتمع الإفريقي في غضون الفترة الوسيطة المتأخرة، تشكّل "رؤية وضعانية للتاريخ وللظواهر الدينية والروحية وللمقدس" في حق الأول، وهو أمر تفطنت له العروض التي صاغها زهير بن يوسف الذي رد تصرفات الوليّة إلى "السلوك العرفاني"، أو ابتسار "سيرتـ[ها] في محيطها الاجتماعي من زاوية معيارية أخلاقوية تصادر على المطلوب وتتأوّله تأويلا" [كذا] في حق "كلام لطفي عيسى" الذي لم يستسغ -بزعم "المحقق" دائما- فكرة الاختلاط والصحبة في الطريق، معتبرا أنها لا تشكل جرأة بل يحسن تأويلها على أنها ضرب من ضروب الانحراف. لأن صاحب نفس ذلك الكلام لا يريد غير المضمون الأخلاقوي المعياري هدفا لدراسته، والحال أن مقصد الوليّة الصالحة من الصحبة، البحث عن "إكسير الخلاص ومعراج السير إلى الله الذي حفظها [أو لنقل صراحة عصمها] في الدنيا من الآفات والمعاصي"، وهو على جميع ذلك ضرب من الفُتوة التي عرفتها سِيَرُ الجيلاني "فارس بغداد" و"رايس لبحار" أبو سعيد الباجي على سبيل المثال لا الحصر. وهو عين التأويل الصحيح و"تنوير الحق في التصوّف" بصيغة الإهداء التي حباني بها "المحقق"، مع"معرفةـ عميقة" (لا سطحية) و"وعي محايد بمدلول المصطلحات الصوفية".
ما بنا من رغبة في الرد على جميع هذه المزاعم التي لفقها المحقق بكثير من التنكر إلى أبحاث غيره، تلك التي وَجْهَت ذائقته توجيها، وغرف من معينها غرف حامل أوزار لا متدبر. ولكنّنا نريد مع ذلك تنبيه المقبلين على قراءة عمله إلى واحدة من سوءات جامعاتنا ووعيها الحزين حاضرا. فالأكيد أن حضور من هم على سجايا "المحقق" ضمن مشهد البحث الجامعي يشفّ على كارثية ما عاينته جميع مؤسساته بحكم تفشي المغالطة والمداهنة والتهاون، من تسوية إلى أسفل. فالبين أن صحابنا متعطش إلى انتزاع الاعتراف انتزاعا، حتى وإن لم يطرق الدور من أبوابها بل تأبط لخلعها حتى وإن وجدها مشرعة خاوية على أركانها، معوّلا على الغرف الموصوف والقطع واللصق، مع تعمد الإساءة للغير وعضّ الأيادي التي مدت لانتشاله من غياهب تزلف الساسة والتكدّي المزري بالمعرفة، مع الخروج بمضمون مقارباتهم عن سياقها الدقيق، باستعراضه مبتَسارا لا شهوة في الإتيان به غير المماحكة والسجال الأرعن.
لم يكتف الكحلاوي بالحصول على التقدير العلمي في الآداب والحضارة ترفّقا بحاله، وهو الوافد من كلية الشريعة وأصول الدين. ولم يكْفِه التشهير بسوءاته علنا وعلى رؤوس الإشهاد في سرقة موصوفة تسربت رائحتها العطنة قبل بضع سنوات، فخرج علينا بأعمال جديدة، لا يمكن أن تحجب أناقتها الشكلية حشوها بركام من المعطيات ليس لمن أشهر على أغلفتها "دكترته" في عملية عرضها على واسع القراء غير القص واللصق، هدفه من وراء ذلك الاعتراف بـ"شأوه الأكاديمي السامق" مع انكفاء أهله على الحقيقة، ومد بعضهم لحبل الوهم لمن هم على شاكلته، مصداقا للحكمة الأزلية "إن لم تستح..."، وَهْمُ مُزيَفِ العملة يوشك أن يلتهم صحيح النقد.

4 commentaires:

  1. Comme il est incongru de voir deux êtres réunis autour d'une activité unique alors que rien ne constitue un dénominateur commun pour ces deux protagonistes !un plagiaire et un chercheur persévérant! Ce qui révolte , c'est que le plagiaire est , de surcroit ,un effronté malappris qui ose offrir à celui qu'il y fustige,son livre-torchon,se moquant ouvertement ,de son intelligence !

    RépondreSupprimer
  2. ولله في خلقه شؤون
    سي لطفي

    RépondreSupprimer
  3. شكرا أستاذ لطفي على المقال. لقد بدأت في قراءة الكتاب المذكور وكادت تنطلي عليّ حيل الكاتب باعتباري من غير المتخصصين في المجال. وأنا في انتظار ظهور تحقيق جيد لمناقب السيدة، وكذلك لمناقب سيدي بن عروس الذي اطلعت عليه في طبعته القديمة جدا وأعجبت به أيما إعجاب.

    RépondreSupprimer
  4. مرحبا بك مزار، مثيرة حقا هي علاقتك الخاصة بالكتب وبطقوس قراءة عروضها أيضا

    RépondreSupprimer