mercredi 12 octobre 2011

التونسة قيافة وغذاء





ماذا تعنيه القيافة والغذاء بالنسبة للتونسيين؟ وما الذي يجعل من تاريخ اللباس وكيفية إعداد الأطعمة وتحضيرها والاحتفاظ بها، مؤشرا بليغا على حضور ثقافة مادية تشف عن توفر المجتمع التونسي على معرفة عمليّة محسوسة بالوسط الطبيعي ومقدرة على توظيف عناصره وخصوصياته تفاديا لجميع مظاهر الإسراف وطلبا لحسن التصرّف والتدبير؟
لا تختلف العادات المتصلة بفنون الملبس والمأكل تونسيا على نظيراتها المنتشرة بباقي بلاد البحر الأبيض المتوسط، حتى وإن توفّرت جغرافية البلاد وتاريخ تعميرها على مفردات تحيل على قيافة مخصوصة ونظام تغذية متميّز. فقد استفاد التونسيون من مهارات كثيرة وتكونت لديهم ملكات يدوية متشعّبة تحيل على مختلف الحضارات التي مرت بها البلاد على غرار الفنيقيين والقرطاجيين والرومان، أولئك الذين أثّروا وفق ما أكدته الوثائق التاريخية كالنقائش والتماثيل والنصوص الأدبية القديمة في برابرة بلاد الأفاريق.

قيافة البساطة والبياض


لا مراء في حضور حاجة ملحة إلى دراسة الألبسة في الفضاء العربي الإسلامي عامة وضمن الحيز المغاربي تخصيصا، اعتبارا لما يحمله الملبس من أبعاد يمكن تناولها من وجهات نظر متعددة سميولوجية وانتروبو-تاريخية. فكلمة لباس تتضمن العديد من الانزياحات اللفظية والحقول الدلالية التي تحيل على الملابسة واللَبس. بينما يحيل الزي على الزينة، ويذكرنا الثوب بالإثابة أو العودة إلى الرشد والجادة. ويستقيم الجزم بأن التعامل مع إخفاء ما هو طبيعي قد انخرط في سياقات انتروبولوجية وثقافية تواضعنا على وسمها حاضرا، وبالتعويل على المناهج المعرفية الحديثة بـــ"آداب الجسد". فقد اتسم تعامل أهل المغارب عامة مع اللباس بالحرص على تغطية وستر الجسد بالكليّة عبر ارتباط المرجعية في القيافة بـ"الجلابة" و"الكساء" و"الحولي" و"الجبة" وغيرها.
تمحور شعور القداسة عند اللوبيين بعدد من الحيوانات يأتي الكبش في مقدمتها وهو رمز للخصب والتوالد ومصدر لمقومات الحياة لارتباطه بالمادة الأولية واتصال جل الألبسة البربرية بمادة الصوف. ويحيل هذا التركيز على الصوف على حضارات البربر القدامى بُتر كانوا أم برانس. على أن ما عثر عليه من آثار حضارات ما قبل التاريخ يفيد بأن عدد من الجماعات العرقية المستوطنة لمجال المغارب كانت ترتدي وشاحا مميزا حول الكتفين يتقاطع طرفاه على الصدر، وهو ما يحيل ربما على طريقة لف الحائك لدى المرأة، ونجد فيه تفسيرا لطريقة لف الكساء حول الجسد بتغطية كتف دون آخر وذلك على كامل المجال البربري المغاربي.
تشمل القيافة البربرية العديد من القطع المنسوجة التي لا يحتاج أغلبها في اللباس إلى المخيط. فـ"الكساء" أو "الحايك" هو وفقا لتوصيف الحسن الوزان الفاسي "ثوبا من الصوف...يشبه أغطية الفرش التي تستعمل في إيطاليا، يلفون به أجسادهم لفا". أما "الحولي" ومعناه الأصلي بلوغ الشاة الحول من عمرها فهو رداء يحاك من الصوف الخالص ويلف على الجسم ويشد طرفه المتدلي من جهة اليسار بربطة تعرف بجهات الجنوب التونسي حيث يكثر استعماله بـ"التوكامية". في حين تنسج "الوزرة" وهي من الملابس غير المخيطة المميّزة لكسوة الأعزب في اللون البني، بينما ينسج "البرنس" من خليط الصوف ووبر الجمال. وإذا ما أضفنا إلى مجمل هذه القطع الداخلة في قيافة الرجل البربري "الجلابة" و"القشابة" أو "القشابية" و"الكدرون"، وكلها ملابس صوفية تعوّل على علاقة فاترة بالمخيط، فإننا سنحصل بالتأكيد على نواة قيافة بلاد الأفاريق على الحقيقة.
يقينا أن المرحلتين البونية والرونانية قد عاينتا تمسّكا بالأناقة وإسرافا في إظهار الزينة، وهو ما تشهد به العديد من النقوش ومجسمات الفسيفساء التي يبرهن مضمونها على حضور ورشات مهنية تخصّصت في خياطة الملابس وتحضير العطور والدهون ومساحيق التجميل المتعددة الألوان. ولئن أدخلت المرجعيات الإسلامية بتنويعاتها العربية والتركية والأندلسية تعديلات تعكس محورية الانضباط للديانة القائمة على قواعد ستر العورات والتمييز الجنسي والاجتماعي والملي في الملبس، وهو ما يحيل عليه ربما استعمال القفطان من قبل كبار أعوان الدولة والجبة من قبل أهل العلم والخطط الدينية، والتمييز في شكل غطاء الرأس ولونه بين المسلمين واليهود، فإن الشأو الحضاري الذي عاينته دولة بني الأغلب وأضرابهم من العبيديين والزيريين، هو ما وسّع في استعمال الألبسة الموشّاة والمزخرفة والمذهبة، وانتشار استعمال الحرير والتحلي بالديباج داخل الأوساط الاجتماعية الميسورة، مما أدى إلى ردود فعل احتجاجية شدّد أصحابها على ضرورة العودة إلى التقشف وعدم الإسراف في إظهار الزينة، شكّل الزهد والتصوّف أكبر أطرافها الفاعلة خلال المرحلتين الوسيطة والحديثة.
عرف أهل إفريقية لباس الأقمصة والسراويل منذ أمد بعيد، في حين كانت الجبة أكثر الملابس انتشارا بين الرجال. كما انتشرت عادة الالتفاف بشال من الصوف وسمته المصادر بـ"الإحرام" أو "التحزيمة" وهو لباس يعود في أصوله إلى قيافة كبار الموحدين. ولئن أثبت التمحيص أن للجبة آصرة بالقيافة العربية تحيلها على مرحلة الجاهلية مشكّلة لباسا مفتوحا ينسج من الوبر والصوف، فإن لباس الجبة تونسيا يحيل على قطعة مخيطة من الأمام تترك لها فتحة من جهة الصدر عادة ما تنسج من الصوف أو من الحرير أو من منسوجات مستوردة يأتي في مقدمتها "الملف" و"القمراية".
أما اللباس المضبوط أو "المحصور" في قيافة وجهاء الحواضر فهي كسوة مثلت نتاج لتأثيرات تركية أو عثمانية، تلبس تحت "البرنس" مباشرة أو تفصل بينه وبين الجبة تونسيا، وبين "السلهام" و"الجلابة" عند سكان حواضر المغرب الأقصى. وتتركب القطع المخيطة والمزخرفة بأشكال مهللة أو مُنَبَّتَة من "البداعي" و"المنتال" و"السروال" مغربا، ومن القميص أو "السورية" و"الصدرية" و"الفرملة" و"المنتان" و"السروال"، فضلا عن الشملة تونسيا. أما غطاء الرأس فتمثله "الشاشية" و"الكبيتة" و"العمامة" أو "الكشطة". وتتخذ الشاشية تونسيا من الأحمر القاني والقرمزي لونا مميّزا لها، وهي على هيأتها المعروفة ذات تأثيرات أندلسية غير خافية، حتى وإن اختُلف في ردّ أصولها إلى الفارسية أو إلى الفنيقية.
وعموما لم يعدم وجهاء البوادي لبس المضبوط أو المحصور الذي أضافوه إلى "الحْرام" أو "الإحرام"، وارتدوا فوقه برنسين واحد من الصوف والآخر من الملف الأسود المطرز بالذهب والفضة، فضلا عن اللحاف أو "اللحفة" التي يتم شدها بعقال أو بشريط من الوبر. بقي أن نعرف أن أهل الحواضر غالبا ما انتعلوا "البلغة" المسطّحة أو المقببة و"الكنترة" ذات القدم والحذاء المغلق الدائري الشكل، حتى وإن اشترك معهم بقية السكان في لباس "المداسة" و"التسومة" وغيرها من النعال.
وفي المقابل يتكون طاقم اللباس النسوي من أقمصة مفتوحة أو مغلقة وصدريات ذات أطوال مختلفة وسراويل فضفاضة أو مضبوطة وفساتين مثنية من الصوف والحرير والقطن، فضلا عن أغطية الرأس التي تشمل "الوشاح" و"الدوكة" و"التقريطة" و"العصابة" و"البخنوق" و"التعجيرة" و"الذراية" وغيرها. وقد تميزت قيافة المرأة التونسية بكثرة الاقتباس والاختراع والتفنن في الزينة وتألق الألوان وتعقد التأليفات ووفرة الزخرف، مما ينم عن ميل فطري للظرف وشغف بالزينة.
والبيّن أن مختلف الملابس النسوية قد عاينت خلال قرون الفترة الحديثة وحتى بدايات القرن الماضي تحولات عديدة متسارعة، شملت "السراويل" و"الفرامل" المفتوحة مما يلي الصدر وغطاء الرأس والأحذية و"الجباب" و"الفوطة" و"المريول" و"البلوزة" و"الحولي". فقد مرت السراويل من الفضفاضة كـ"كبوس الغارق" إلى "الدخلة بالأكمام" إلى "ساراويل بالسويقات" إلى "القرباع" المنشَّى الـمُعدِل للقوام بما يتوافق مع الأذواق ومقاييس الجمال السائدة. كما تم الاستغناء على الـ"قوفية" الموضوعة على الرأس لفائدة "التقريطة" أو "الطاقية"، وعلى "الشبرلة" كخف يلبس في الساق لفائدة "الكنترة". وتفنن النساجون في تزيين "الفوطة" وإدخال تحويرات على أجزائها وألوانها، بينما تغيرت "البلوزة" في هيئتها بطريقة انتهت بالكشف عن الصدر والظهر. وعرف لباس التونسيات بكثرة التطريز المعول على "الصارمة" في معدني الذهب والفضة، فضلا عن استعمال العقيق في ألوان متعددة تغلب عليها المهارة والتأنق وسلامة الذوق والتناسق سواء بمعاقل التطريز بالوطن القبلي (الحمامات) والساحل (المهدية والمكنين والبقالطة)، أو ببقية الجهات على غرار تونس والقيروان وبنزرت وتطاوين ومدنين.
ويعتبر التطريز من الفنون الحضرية والقروية المعوّلة على تزيين الألبسة والفُرش أو أجهزة الصبايا المزخرفة يدويا باستعمال خيوط الحرير والقطن وسلوك الذهب والفضة الدالة في مظهرها على حضور الملكة وحسن التدبير ورهافة الحس وتعشّق الفنون.
ويتبين من جميع ما تقدم أن الألبسة الرجالية ذات التأثيرات الخارجية على غرار "كسوة المحصور" و"الجبة" و"الشاشية" و"القفطان" و"الجوخة" و"الفراجية"، وكذلك الأمر بالنسبة للأزياء الرسمية المخزنية الموسومة بـ"الكسبات"، قد تميز جميعها بأشكالها المركّبة والمزخرفة وتعدد ألوانها ومواد صنعها، في حين حافظت الألبسة الأصيلة المحليّة على شكلها الموحي بالتقشف المعوّل على الإتقان والبساطة، مع تفضيل صارخ للبياض بوصفه لون العبور من المدنس إلى المقدس. فمن "قماط" الرضيع إلى "إحرام" الحاج إلى "كفن الميت" يشغل البياض دور الفاصل بين عالم المادة والذنوب وعالم الولادة الجديدة الضامنة للغفران والتوبة. في حين أبرز التوسع في الاقتباس والشغف بالزينة لدى النساء من ناحيته، عراقة الاستقرار وأهمية الأدوار التي لعبتها ربات البيوت وسيدات الأوساط الحضرية والقروية زوجات كن أم أمهات أو أخوات. كما أن سرعة التحولات التي طالت مختلف القطع المركبة لألبستهن خلال الثلاثة قرون المنقضية باتجاه التخفيف والاختصار وتحرير الأعضاء وتنسيق الألوان الموحية والمغرية في آن، يدل على تمازج حضاري وثقافي بين مختلف المركبات العرقية للمجتمع، وإن لم يخرج الأمر عن دواعي التمسك بالحشمة ومساعفة التقاليد، دون كثير تكلّف أو إسراف في التبرج أو تحريض على التزمت.

تعظيم "النعمة" وتقديسها:





للخبز في وجدان التونسيين مكانة محورية إذ غالبا ما اقترن تعبيرهم عن الرغبة في الحصول على عمل أو التوجه للكسب بـ"أكل الخبز" والبحث على توفيره. ولئن نحت المائدة التونسية باتجاه التدبير والتقشف في إعداد الوجبات الغذائية اليومية، فإن التوسع في إظهار النعمة والتحدث بها خلال المناسبات والأعياد وعند إقامة الأفراح يعتبر من العادات الثابتة التي أعارها التونسيون أهمية بالغة.
يقينا أن الطبخ التونسي ذي الأصول البربرية قد استفاد عبر مختلف المراحل التاريخية التي مرّ بها من خبرات العديد من الشعوب الوافدة عليه، وأثرت في أصنافه بشكل بالغ الحضارات الوافدة من الشرق على غرار الفنيقيين، أو القادمة من الغرب على غرار المورسكيين المطرودين من الأندلس. والبيّن في هذا الصدد تأثر العادات الغذائية التونسية بتلك التي عرفتها شعوب المشرق، تلك التي عوّلت في غذائها على الحبوب. فقد طوّر القرطاجيون الناسلون عن مجتمع التجار الفنيقيين الفلاحة نظرا لإحساسهم بعدم ثبات مجال المبادلات، متمكنين من مراكمة المعارف الزراعية التي استعرضتها موسوعة "ماغون". فوسّعوا مجال الزراعة البعلية على سهول مجردة وتزايدت أهمية "الطعام" في غذائهم حتى وسمتهم المصادر بآكلي "البازين" أو الثريد. وأشّر التنور الطيني المعروف حاضرا بـ"الطابونة" على توسع استهلاك الخبز والحرص على إعداده يوميا ومنزليا. كما أشارت اللقى والنصب المستكشفة إلى عناية سكان قرطاج بغرس الأشجار وخاصة الزيتون والكروم والرمان والنخيل. وشملت العناية بتربية الماشية الخرفان البربرية المعروفة بضخامة الإلية، بينما عرفت السواحل بصيد أنواع متعددة من الأسماك فضلا عن وفرة الرخويات والقشريات البحرية.
وعموما فقد ساهم تطوير أنظمة الري والتوسع في تجهيزات البنية كمد الطرقات والقناطر وبناء الصهاريج والحنايا وتأمينها خلال المرحلة الرومانية في تحقيق قفزة نوعية وسعت زراعة الحبوب، فتخصص الشمال في القمح والوسط والجنوب في الشعير. كما امتدت غراسة الكروم والزيتون الذي تحوّل إنتاجه إلى ثروة حقيقة اتسق تصديرها باتجاه جزيرة صقلية وبقية المدن الإيطالية. ولم يغيّر مجيء المسلمين نوعية غذاء الأفاريق الذي حافظ على نمطه المعتاد في ما عدى التخلي عن الخمور، حتى وإن عاينت المساحات المزروعة تقلصا بيّنا والتقنيات المعتمدة تراجعا ملحوظا، فضلا عن تدهور البنية التحتية والتجهزات المتصلة بها وذلك حتى موعد قيام دولة الحفصيين الذين وسّعوا في استغلال الأجنة المحيطة بالمسوّرات. ولئن عاينت تلك المرحلة دخول مزروعات جديدة أو التوسع فيها على غرار التين والليمون والبرتقال والنخيل والمشمش والخوخ، فإن الغذاء قد حافظ على طابعه النباتي وغلب عليه استهلاك الحبوب وخاصة الشعير المعدّ في شكل سويق أو بسيس أو ثريد استهجنه الحسن الوزان وعدّه من المؤشرات الدالة على شظف العيش داخل أسوار حاضرة التونسيين.
ولم يحصل أي تحول نوعي إلا مع حضور المورسكيين في بداية القرن السابع عشر. فقد تمكن هؤلاء بعد انتشارهم على السهول الشمالية من استنبات أصناف متنوعة وإدخال تقنيات ريّ جديدة منجزين "ثورة" حقيقية على أنماط الغذاء من خلال جلب نبتات مجهولة حتى ذلك التاريخ تعود أصولها إلى القارة الأمريكية على غرار "الذرى" و"الطماطم" و"البطاطا" و"الفلفل" و"التين الشوكي" و"القرعيات" و"الرند"، فضلا عن إحياء غراسات الكروم وتوسيع الذائقة العامة من خلال تطوير الوجبات الغذائية عبر إدخال المعجنات ("الحلالام" و"الدويدة" و"البناضج" و"الإسفنج" ) والمجبنات و"الشربات"، لذلك لا يسعنا إلا الجزم بأن الطبخ التونسي قد عرف نقلة جوهرية تُرصد بما قبل حصول تلك الهجرة وما بعدها.
انعكس حضور الحبوب في غذاء الأفاريق على أنواع الأواني المنزلية المخصّصة لأعداد الطعام على غرار "الأرحية" و"الغرابيل" و"القصاع" و"الصنيات" و"المهاريس" و"الطناجر" و"المقافيل" وغيرها، مع سيطرة واضحة لأنواع الغذاء النباتية المعوّلة على الدقيق لإعداد الخبز في "المرق" والسميد في "الكسكس" و"الـمُـحمص" والعجين والحساء والسويق والثريد، حتى وإن عاينت تلك الأطباق حضور وجبات ذات أصول يونانية وتركية كـ"المنافيخ" أو "الطواجن" وشغلت لحوم الضأن والمعز والأبقار والدواجن والأسماك الطازجة والمجففة و"الزوائد" والرؤوس والألسنة والكراع والشحوم المتبّلة، عناصر إضافية تداخلت في إعدادها فنون عدة اشترك فيها المسلمون مع اليهود ولعبت دورا أساسيا في تحسين المذاق والرفع من القيمة الغذائية لمختلف تلك الأنواع ذات الأصول النباتية.
كما لعب ثقافة التدبير وتواتر الأزمات المعاشية المتصلة بواقع الندرة خلال فترات القحط والمساغب دورا محوريا في الاحتكام إلى التموين المنزلي من خلال تكديس المواد الأساسية وخزنها على غرار المعجنات واللحوم والأسماك والقرنيات والخضروات المجففة، والتمر والزبيب وزيت الزيتون والمخلّلات. بينما بقيت أغلب أنواع الحلويات وفيّة لنفس النظام الغذائي حيث اتصل إعدادها بالسميد والدقيق كـ"الرفيس" و"المحكوكة" و"الهريسة" و"الغريْبة" و"المقروض" ولم تعرف البلاد توسّعا في استهلاك المرطبات المعوّلة على المكسرات بأنواعها والأحسية والمشروبات والمبرّدات إلا خلال مراحل متأخرة من تاريخها.
ما من شك في حقيقة ارتكاز المعاش تونسيا على التقشف وحسن التدبير، وهو ما أسعف العائلة التونسية في تشكيل مربع المظلة الآمنة على الدوام، محدّدا في تصورنا الحاجة إلى البقاء في دائرتها والتمسك بتقليدها والتهيب من الانقلاب عليها. فلئن عاينت العشريات الأخيرة دخول السلوك الاستهلاكي النمطي على الخط توافقا مع التحولات التي شهدتها البنية الاجتماعية وفرضها أسلوب العيش المعولم المكرّس لهيمنة الأكلات السريعة الشديدة الدسامة المقتصرة في رفع المذاق على الأبيضين، فإن صلة التونسيين بما شكّل قيافتهم وغدائهم لم تنقطع بالرمة، حتى وإن فقدت وعلى صعيد اللباس بالخصوص جميع جوانبها الوظيفية ولم تحتفظ إلا بعلاقة ملتبسة تحيل بالأساس على الابتكار الفني وثقافة الفلكلور السياحية.

2 commentaires:

  1. شكرا استاذي على هذا النص الرائع ... تعبير ضامر يشدك لمزيد القراءة

    RépondreSupprimer
  2. . يسعدني حسن ظنك بخربشاتي.
    مع خالص المودة

    RépondreSupprimer