vendredi 6 janvier 2012

* "الرأي قبل شجاعة الشجعان..."




عديدة هي المؤشرات الدالة حاضرا على أن أوضاع الجامعة التونسية ليست على ما يرام. فقد أزرى بواقعها تجاذب مقصود أخلّ بما احتفظت به من هيبة، مكرّسا مدلولا للتّدافع بشّر به زعماء حركة النهضة منذ أن فُتح أمامهم باب التعبير وممارسة الحياة السياسية. ولئن شكّلت حرية التعبير على الدوام شاغلا مهمّا داخل فضاء الجامعة، فإن رسالتها الأساسية المتمثلة في تجديد النخب القادرة على احتلال مواقع علمية تطاول ما تتوفّر عليه البلدان الراسخة في المعرفة، قد أضحى ونظرا لحقيقة الإرباك التي تعيشها موضع تساؤل.
صعبة كانت العشريتين الماضيتين، فقد حدّ التضخم الكبير لأعداد الوافدين الجدد على المؤسسات الجامعية من قدرتها على التأطير، بينما استحال على سوق الشغل استيعاب آلاف من المتخرجين، مما آذن بانحدار قيمة الشهادات وأدى بالتدرج إلى التفريط في مرفق عمومي، شكّل وإلى حد سنوات خلت أثرة من أرقى مآثر النظام الجمهوري في بلادنا.
ولعل في تواتر الإصلاحات الفوقية، وتعنّت هياكل الأشراف والقرار التي فضّلت التعامل مع أزمة الجامعة عن بُعْدٍ وبأسلوب يتصادم مع أدوارها البيداغوجية والعلمية ويفرض عليها الانخراط في توجّهات لم يكن من الصواب إرسائها قبل مراجعة أنظمة التدرّب أو المحاكاة المهنية بشكل عميق، ما يفسر حصول تراجع مخيف في المحصّلة المعرفية يدعو إلى التوجّس والريبة من قيمة التكوين، وخاصة بعد التقييمات السلبية المتّصلة بالمنظومة الجامعية في ثوبها الجديد.
فما إن ولّت نشوة أيام الثورة الأولى، وحان موعد النزول على أديم الأرض لمواجهة الحقائق عارية بالتشمير على سواعد الجد، حتى تبيّن مقدار تعقّد الأوضاع وصعوبة التدقيق في الملفات والبدء في اقتراح حلول ناجعة لها. فإذا ما استثنينا إلغاء الأمن الجامعي وإقرار مبدأ انتخاب رؤساء الجامعات، فإن سياسة الانتظار وعدم حسم الاختيارات بحثا وتدريسا، قد طبعت تصرّف وزارة ما بعد الثورة، التي أزرت بتوجهاتها انتظارية عليلة ونفاقية مخجلة. لذلك كان من الطبيعي أن تعرف العودة الجامعية الحالية صعوبات ترتب أغلبها عن خروج زمام الأوضاع من يد أصحابه، وتحيّن ضمور المباشرة الحازمة لمختلف الملفات للزجّ بالجامعة في أتون المناكفة الأيديولوجية تحت غطاء الدفاع عن حق التخفّي تحت أستار النقاب وممارسة الشعائر الدينية حال ميقاتها بتخصيص فضاء لذلك داخل كل مؤسسة عمومية.
على أن تفاعل الساحة العامة مع هذا الواقع الجديد ردا وقبولا، وتهيّب الفاعلين المدنيين والنقابيين من المحاذير المتصلة به والتي جاوزت الغضاضة الفكرية مُقدمة على تكفير الغير وتنقّص إطار التدريس والتسيير بالتجريح لفظا وفعلا، هو ما قد يدفع مستقبلا باتجاه توسيع هوة الخلاف بل وخروجه عن كل ضبط في سابقة قد تكون فاتحة تُنبئ بأن ما تشهده الجامعة هو على الحقيقة عملية دق إسفين بين مشروعين اجتماعيين متعارضين يباعد بينهما تمثّلهما لمدلول النضال المدني ولكيفية التعامل مع الحريات العامة والخاصة أيضا.
مواجهة محمومة وخطيرة في آن قد تدفع الجامعة، وهي محراب المعرفة على الحقيقة، ثمنا باهظا لفاتحة فصولها. مواجهة ينطوي الحرج المترتب عليها في توهّم انبثاقها دفعة، والحال أن ثمانينات القرن الماضي قد عاينت إرهاصاتها الأولى. فقد قُدر لجانب من عناصر نخبة مقصاة بمختلف الوسائل عن ممارسة حقوقها السياسية والمدنية أن تجد في الجامعة هامشا يتوافق مع طموحها ويسمح لها بالتعبير عن ذاتها خارج إطار وصاية الدولة- الحزب، مُتفرّغة لعملية استيعاب المعرفة ونقلها في انتظار تهيؤ الظروف الكفيلة بحصول انتقال سياسي حقيقي يفتح أفق التداول السلمي على السلطة ويضمن الحقوق المدنيّة والاجتماعية المكتسبة لجميع الشرائح والفئات. نفس تلك النُخب التي عمّرت الجامعات وواجهت بشجاعة ونكران ذات صعوبات التدريس والتأطير ومحاذير الإصلاحات المفروضة من فوق، هي التي تُكره اليوم على الدخول في مواجهة مع أجيال جديدة قُدر لها أن تُخطئ الموعد مع المستقبل بعد أن بات حظّها في الحصول على شغل، وهو مقوم أساسي للكرامة، في حساب المعدوم أو يكاد.
عند هذا المفترق نقف جميعا لفهم المأزق الحقيقي لواقع مأسوي لا يعكس النقاب والقميص والالتحاء والرياء بالشعيرة والإسراف في التكفير والتكبير غير قِنَاعته الملونة بمساحيق الشبهة والرُهاب. فالمعضلة اجتماعية بامتياز، قدرها أن تكون على تلك الشاكلة ما لم يتم الاعتراف بالطابع الهيكلي لأزمة الجامعة التونسية التي لم يعد بمقدورها أن تشتغل في كنف الاتّزان الهادئ وتؤدي رسالتها المتمثلة في إنتاج مبتكر المعرفة، مع التكفّل بضمان عملية نقلها إلى الأجيال الجديدة. هذا الالتزام الأخلاقي بلا نفعية المعرفة ومغالبة السقوط في الاجترار والتكلّس والنكوص والقبول بالمكابدة في أناة وصبر بغرض الترقّي، هي أخلاق الجامعة والجامعيين على الحقيقة، وليس الاهتبال بنضالية عرجاء لا طائل يُرجى من ورائها غير الغوغاء ونابي الملاسنات بجارح الألفاظ المجرّمة.
والمربك أن مجال المعارف الأدبية والفنية والإنسانية عموما، ذاك الذي استوعب ولزمن مديد طموح أبناء الفئات الشعبية في الترقّي بالتعويل على موفور الكفاءة قصد الالتحاق بعد تقديم جليل التضحيات بالنخبة، هو ما يشغل حاضرا بؤرة لتفاقم الأزمة، مما ينهض حجة على عمق التباين الاجتماعي بتضييق دائرة الإدماج والإسراف في تعميق الهشاشة والتهميش.
فقد تحوّل هذا المجال المعرفي إلى "عقب أخيل" منظومة التحصيل، بعد أن استُبيح بشكل عدمي كرّس أسلوب الهروب إلى الأمام، وفتح الباب أمام تصرفات مزرية تعاملت مع تلك التخصصات بوصفها مظنة للفاشلين الذين لا أمل في استيعابهم ضمن مسالك التوجيه باعتبار تواضع النتائج وضحالة التكوين. هذا التمثّل المتجنّي هو الذي استُبطان بشكل كارثي مُحبط لأصدق العزائم، وحوّل مؤسسات التكوين الجامعي إلى ما يشبه "المصبات المرخص فيها" التي لم يعد بمقدورها أن تعرض على غالبية من يؤموها سوى الاشتراك في مناظرة مخزية للالتحاق بسلك التدريس العمومي، تحوّل التقتير في نتائجها إلى ما يشبه الإمعان في التعامل المهين المزري بكرامة البشر.
تلك محصلة الانحراف بالجامعة التي تؤذن بتحويلها إلى مؤسسة منكوبة. فالمعركة الحقيقة لا تتعلق بنتائج الاصطفاف الأيديولوجي، أنّ كانت تلك النتائج. لأن الإمعان في مثل هذا التصرّف هو ما عطّل تكفّل الجامعة بأداء واجباتها على النحو الأمثل، والحال أن مشاكلها الحقيقية تتمحور حول كيفية مواجهة معضلة قلة تلاؤم التكوين مع عروض التشغيل والإسراف في مركزة القرار والتعامل بكلبية رخيصة مع المبادرات المجدّدة وضعف الاعتمادات المخصّصة لإصلاح منظومة التكوين والبحث، وهي الشروط الكفيلة بالحدّ من مهزلة "التعطيل" وانعدام ضمانات حقيقية تعيد تشغيل البئر المعطلة للمصعد الاجتماعي . وتلك ألغام يتعين الإسراع بنزعها ورفض السقوط في فخاخ التهريج المجاني وتسفيه خطط اللاعبين بالأحاسيس والأذقان. لا شيء أكثر تعطيلا لأحوال الجامعة حاضرا غير الإصرار على استبقاء التعامل الشعبوي معها بقطع جانب غير قليل من المقبلين على التحصيل عن كل أفق واقعي ملموس في الحصول على شغل، وتعريضهم بعد بذل الوقت والجهد والمال إلى هدر الكرامة والقبض على السراب. ألا يستحق وضع على ما وصّفنا الإسراع بإيقاف النزيف بالكفّ عن التعامل مع المشاكل بذات الأساليب العقيمة؟
ما لم نُقدم على إرساء مبدأ المراوحة بين البحث والتدريس، عامدين إلى تفريغ الجامعيين وفق عقود مضبوطة مكفولة النتائج، ومقتصرين في تدريس المعارف الأدبية والإنسانية على قسم من المؤسسات دون الآخر، في انتظار مراجعة التكوين في العمق بالشكل الذي يتيح توجيها حقيقيا للطلبة الجدد، فإن النتائج السلبية لسياسة القفز على المشاكل والإمعان في إضاعة المال العام هي ما سيواجهنا بشكل منظور. فليس من بدّ، إذا ما صدقت العزائم، على المصارحة وربط الحق في التشغيل بتحصيل الكفاءة، والنأي بالجامعة عن كل معالجة تجافي مجابهة الأخطاء ولا تحترم مبدأ المساواة في المواطنة حفظا لكرامة الجميع.

* طالع قصيد معروف للمتنبي "الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحلّ الثاني" ومعناه في شرح الواحدي أن العقل مقدم على الشجاعة، فإن الشجاعة إذا لم تصدر على عقل أتت على صاحبها فأهلكته.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire