dimanche 29 janvier 2012

شيء من الأبدية أو في مديح الديناصورات





ما الشيء الذي دفع حقيقة بشاعر حاز حظا غير قليل من الاعتراف والشهرة، وبأديب فرد خبر كيمياء الكَلَمِ، أن يُقحم نفسه على كِبَرٍ في عالم الرواية النزق المشوب بالفخاخ والمزالق؟ قد يكون لهشاشات الذات دور غير قليل في ذلك، وقد أتى على "المكابر" زمن ألفى نفسه عنده شاعرا باندساس الفناء عميقا في حقيقة الوجود وامتناع الحياة - وهي لغز الوجود على الحقيقة- عن برد اليقين.
صياد أزمنة هو، لما يستحضر بحنكة الرّواة الراسخين و"لؤمهم"أيضا، ذاكرة والده المبعثرة صورا وأوراقا ومحطات عديدة لعمر مديد ولّى وانقضى، مازجا تلك المذكرات بما عَلِقَ بذاكرة مرافق مُعَمَّدَة بصفاء اليقين. يتوسل المنصف الوهايبي بحكمة "ألفونس دي لامرتين Alphonse de Lamartine" المعروفة: "يكفي أن تفقد شخص واحد حتى ينتابك إحساس بخلاء العالم Un seul être vous manque, et tout est dépeuplé، ليرفع على غرار "أورفي"* تحدي استعادة المفقود ضمن تجاويف روايته البكر الصادرة حديثا عن دار المهى "هل كان بورقيبة يخشى حقا معيوفة بنت الضاوي؟". رحل بورقيبة مثل "سي المختار" والد المنصف الوهايبي عن عالم الشهادة والناس، فانثلم برحيلهما ركن مكين بنته سواعد تونسية تعلّقت إرادتها بالحرية فتخلّصت من ربقة الاستعمار.
حزمة من الأوراق والصور استحضر من بينها المؤلف أربعة عشر ورقة دسّها بعناية ضمن حكاية بلا مفاصل محددّة، هي إلى المتاهة أقرب من مسترسل القص أو السرد. يتنقل الراوية بين ذاكرتين، ليجسّر فراغاتها بزخم من الوقائع اختلطت ضمنها العوالم الشخصية بالشأن العام، واتصل المكرو-تاريخي بالنضال الوطني والنقابي. تزاحمت الذكريات ضمن مغامرة التفكيك والتركيب، فتلبس الماضي بالحاضر كي يستحيل ما ولّى وانقضى، وبعد أن تمكنت منه تعاويذ الراوية وأسحاره، أبدا منزوعا عن كل فناء.
هل كان "سيزاري بافز Cesare Pavese " محقّا لما أعتبر ضمن مؤلفه le métier de vivre أن قطع طريق الحياة حرفة تحتاج إلى موفور العزم وواسع الصبر؟ يبدو أن في الأمر سر دفين، وأن الأعمار ابتلاء خيوطه من سراب.
من هو سي المختار على الحقيقة، حتى يتوسل ابنه المنصف بفن الرواية، وفي مغامرة غير مأمونة العواقب، مغالبة نسيانه والاعتراف له بواسع الجميل؟ رجل هادئ غامض وَدُودٌ، ذاك الذي رافقه مؤلف الرواية لعشرات السنيين. مزارع تعيّش من أمانة الفلاحة، اختار التنقل بين القيروان وريفها القريب، واضطرته حقوق العشيرة والعشرة إلى اقتحام مواضع الوحشة والاغتراب من عاصمة دولة الاستقلال، التي كشفت له عن أسرار سعت هي إليه من حيث يدري ولا يدري، بقدر ما خرق هو حُجبها واكتوى بنيرانها.
مرت المقاومة بحوش العائلة في قلب ريف القيروان، مخلّفة ودائع وأمانات وأسرار، كابد "سي المختار"، على ما أفصحت لنا به أورقه كي يضعها بيد أصحابها. ما هو الشيء الذي دفع زعيما في حجم بورقيبة يا ترى، وهو من حلّ ضيفا على أولاد عون وأكل من شهي كسكسهم، وأعجب أيما إعجاب بوجبة الملوخية التي قدمتها له والدة المنصف وزوجة سي المختار، حتى يتنصل من وديعة زائر عائلة الوهايبي المنقطع ذكره؟ ثم ما طبيعة العلاقة التي ربطت بين "معيوفة بنت الضاوي" التي اجتهد سي المختار وِسْعه في البحث عنها، كي يسلمها الأمانة ملفوفة في كرة من الشمع، وكبار الزعماء النقابيين والوطنيين؟ ذاك لغز الرواية الذي أوشكت والدة مؤلف الرواية المصابة بمرض الخرف على كشفه، لما اعتبرت مومس الماخور "زهزة الصبية أو لفيارج" أختا لمعيوفة التي توسطت في رزمة الصور التي خلفها زوجها الزعيمين فرحات حشاد والحبيب بورقيبة. لغز تلبّس باستطرادات طويلة خاب والد المؤلف في نهي أبنه عنها، طالت ذكريات الطفولة الوديعة وشقاوة سنوات الشباب بين لهو وتحصيل. واستحضرت ما علق بذاكرته حول مدن وشخوص من الشرق والغرب كان لهم معه، وكان له معهم حظ من الرفقة والمخالطة لم يطاول على علو شأوهم الأدبي أو المعرفي تلك العلاقة التي ربطت المنصف بصديقيه الأخْيَل والأخضر.




وبعد، ليس هناك من بعد غير القيروان، وطن يسع الكون باسره، يُحب الوهايبي:"شتائها حتى وإن سحبتْ سماءُ الله رحمتهَا. ولم تمطرْ. ركامَ غيومها في الأفْق. ضوءَ القيروان. يشفّ أزرق. ثمّ أبيض. ثمّ أزرق. ثمّ أصفر. ثمّ أزرق. ثمّ أخضرَ باردا. و[يـ]حبّ حيث الوقتُ ينتظرُ الزبائنَ حزنَها المسكينَ. وهو يلوذ بـ[ـه] في حانة.... وقد "رقّ الحبيبُ"...[يـ]حبّ نساءها ينضجنَ قبل أوانهنّ القيروانيّاتُ.عطرُ بَخور مريم.إذْ شميمُ اللوز مرّا فاغما من تحت سرّتها. وإذ يدها على صدري كما في الأوبرا شدّتْ ونحن نقيس ليل القيروان بحلمة سوداءْ. يقول لي SDF اللا مشكلٌ في الموت..لا لغزٌ.. الموتَ يعرف جيّدا ماذا يريدُ..الموتُ أوضحُ ما يكونُ، المشكل الأبقى الحياةُ المشكل الأعصى الحياهْ".
يعشق الوهايبي القيروان "ويموت وراءها جزءا تلو جزء"، تماما مثل "رجاء عالم" التي غزلت من معاش سكان أم القرى خيوطا لطوق حمامها.

*
تنطوي أسطورة نزول "أورفي" إلى الأسافل في محاولة لنقض الاقدار بإعادة معشوقته إلى الحياة على بعد وجودي يطرح قضية المصير الإنساني من وجهة نظر تأملية لا تخلو من توجهات تعبدية صوفية. فعودته من مواجهة آلهة الجحيم لم يُنظر إليها من زاوية شخصيته الملهَمة المتميزة بشاعرية استثنائية فحسب، بل ومن خلال عودته من عالم الظلمة محمّلا بمعرفة كشفية جديدة غير مسبوقة لدى غيره من جمّاع الأحياء من بني البشر المنذورين إلى مصيرهم المحتوم. لذلك شدّدت تعاليم هذا التيار التأملي الديني على محورية التطهّر من نزغة اندساس الخطيئة في النسيج الاصلي الطاهر لبني البشر، وهي نزغة أغاضت الآلهة فأوصدت أمام جميع المحسوبين على ذلك الجنس أبواب السكينة المقدسة، وحكمت عليهم بالتيه في حياة الجسد البهيمية، متوسلين بالنسيان قصد الاستعاضة عن أصولهم العلوية المقدسة وربط ذواتهم بالتناسخ كعود أزلي .
ويتضمن هذا الازدواج في الأصول، إحالة على قطبين في تكوين الذات البشرية: واحد مقدس لا يتعين أن يشمله النسيان، والثاني أرعن مسلوب لشهوة الخطيئة التي تدفع به إلى العصيان والانقلاب ضد كل تنظيم.
ستجد على يسار مدينة [إله الأموات الخفي] نبع النسيان
وبحذوه ترتفع شجرة سرو
لا تحاول البتة الاقتراب من هذا النبع
سوف يعترضك نبع ثاني تتدفق مياهه الباردة من بحيرة [الذاكرة] التي يقف الحراس عند واجهتها.
قل: إنيَّ ابن الأرض والسماء ذات النجوم
أصولي مقدسة وهو ما أنتن به عالمات...
عندها مع غيرك من الأبطال ستكون لك السيادة

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire