dimanche 22 janvier 2012

* أمومة

"يتعين أن تقتلع منّا الحياة القلوب حتى نسميها بهذا الاسم"







جميلة هي، لا بل أكثر من ذلك، هي الحياة ذاتها في رقة الفجر الساطع. لم يتهيأ لكم أن عرفتموها أو لحظت أعينكم صورة واحدة لها، غير أن جلائها بديهي، بداهة حسنها والضوء المنبعث من كتفيها في حنوها على المهد مصغية لأنفاس رضيع لم يزل كتلة لحم وردية متخلقة، إنسان صغير أقل حولا من صغار القطط ومستنبت الشجيرات.
جميلة هي من أجل هذا الحب الذي تنـزعه لتدثّر عراء وليدها. جميلة هي بقدر تجمّلها في مغالبة إعيائها
ملبية نداء صغيرها.
جميع الأمّهات يمتلكن هذا الجمال، كلهن يقوين على السمو لبلوغ تلك الحقيقة المحفوفة بألطاف خفية. جميع الأمهات يمتلكن ذلك اللطف المنساب المستفز لغيرة الخالق، لطف لن نستطيع تمثله إلا مجلّلا
بدثار ذلك الحب، واحدا أحدا مضللا بشجرة الأبد. جمال الأمهات يتجاوز بما لا نهاية أمجاد الطبيعة. جمال يفوق التصور ذاك الذي يمكن تضمينه للتعبير ابتسارا عن تلك المرأة في تحفّز إصغائها لدبيب الحركة في أعضاء الوليد. الجمال شيء لا يتحدث عنه يسوع ويَأْلف غيره اللغو حوله، في حقيقة اسمه يكمن الحب. يأتي الجمال من الحب، تماما مثلما ينبجس النهار عن سطوع الشمس المشرقة بقدرة باريها، المنبعث من إعياء امرأة أنهكها تهجدها تهدئة لروع المهدهد في حاضنة مهده.
يذهب الآباء إلى الحروب، أو يُفْضُون إلى مكاتبهم يُـمضون العقود ويتصنعون في جلد تحمل مسؤولية الاجتماع البشري وأرزائه، ذاك قدرهم وتلك أعمالهم الجليلة المُذهبة لأعمارهم. يمثل الآباء شيئا آخر غير ذواتهم الحميمة في أعين من ينجبون. يجهدون أنفسهم في تمثيل دور حماة حما الجماعة المعولين على العقول المدبّرة لمنطوق الشرع وفقه العمل والقانون.
لا تمثل الأم إزاء وليدها شيئا، هي ليست قبالته، هي تحيطه، لتحل في أعماقه أو تنتبذ موضعا خارج تلك الأعماق مجسّما للأماكن جميعها، ترفع وليدها على أطراف أناملها عاليا تزفه للحياة الأبدية. تحمل الأمّهات وزر العناية الإلهية، ذاك عشقهن وأجل اهتماماتهن، وهو مَضْيعتهن وصولجان ملكهن أيضا.
أن نكون أباء هو أن نتصنع لعب أدوارنا كآباء، أما معنى أن نكون أمهات فذاك ما لن نجلوه أبدا، ذاك شيء غامض لا يشبه في الخلق شيئا، لأنه مطلق لا يتناسب مع التشيؤ. هو تحمّل ما لا يُعقل برباطة جأش حتى من قبل من نصنفهن ضمن أفشل الأمهات. هن دائما على قاب قوسين أو أدنى من المطلق، هن في ألفة سامق ليس بوسع الآباء بلوغه في انشدادهم أزلا لتحقيق أغراضهم وملء مواقعهم والحفاظ على منازلهم. ليس للأمهات من منزلة أو من موقع، فهن يخرجن إلى الحياة في ذات الوقت الذي يضعن فيه ولدانهن، ليس لهن مثل الآباء سبق على ولدانهن، سبق تجربة أو "كوميديا" يتصنعن لعبها أبدا على مسرح المجتمع. تخطو الأمهات الزمن خطوة بخطوة مع أبنائهن. ولأن أولئك الولدان حال خروجهم للحياة يساوقون علياء الإله، فإن الأمهات مُحاطات في المشيئة بألطاف السكينة مكللات بالرضا.
ما استبق خالص الجمال غير عميق الحب، لكن من أين يجيء الحب ؟ ما مادته ؟ وما يخرق طبيعة تلك المادة ؟ يتحدر الجمال عن الحب، عن العناية، عن بسيط التواضع عن تواضع التواضع، تواضع حي منشئ لحياة حمل وديع لا يستطيع أن يقتات، لا يعرف من معانى الحياة غير دموع يمتلكها أمير مهد يحذق التأوّه متشوفا للحب البعيد بصيحات تستجلب ما نأى عنه، ليستفيق الحب مع خطوات أم ملبّية للنداء. يستفيق في أثرها الله مثبّتا أقدامها الواهنة من فرط التعب وضنى الإرهاق، تعب أيام الخلق الأوَلِ وأولى سنوات الطفولة، من هاهنا ينبعث العالم وخارج ذاك العدم.
ليس هناك من لطف أعم من لطف الأمهات اللائي أرهقتهن أحضان المهاد. يمتلك الرجال العالم ويبقى للنساء امتلاك الخلود المحتضن للعالم والرجال. تتمثل القداسة في مصادفة استكشاف الأطفال لكنوز حنو الأمومة ولطفها مع القدرة على توسيع النعمة لتعم الضرع والزرع، عظيم الكائنات كما حقيرها.
لا وجود في الحقيقة لقديسين ليس هناك غير القداسة غبطة لطف، أمومة تحتضن جميع الكائنات ومطلق الكون، أمومة هي عماد أعماق كل شيء، أمومة تتخطى مفرط التعب وتبتلع الموت مشرعة أبواب البهجة. حتى نقول عن أحد أنه قد بلغ شأو القديسين فذلك معناه ببساطة أن مسار حياته قد تفتق عن جسم عجيبا ناقل للبهجة، تماما مثل معدن جيد النقل ينقل الحرارة دون اختزانها أو يكاد، أو عندما نقف تعظيما لامرأة تقبل أن يلتهمها فرط التعب تارك لها بالكاد رمقا من العافية.
يسافر الرجال في جميع الأزمنة بعيدا، يتغربون عن بلدانهم عن طفولتهم لمصادفة أنصاف أجسادهم المكمّلة لأرواحهم. لو لم يتزوجوا غير جارتهم، فإن ما يبحثون عنه ليجدون فيه ضالتهم يقبع في أحلك زوايا أعماقهم. المرأة هي أبعد ما يوجد في العالم بالنسبة للرجل، هي القادرة بجميل لطفها أن تنـزّل في غفوة من تُحب ملائكة تخترع له ولها عشقا لم يتلألأ نوره على العالم بعد، فيذرف في لوعة ما أخذ بلبه دمعا جميلا ويستعيض بهشاشة الوجد المُعنّى عن كبريائه منافسا غيره في مطلق الجمال لا في قوة البطش.
تُرضع الأمهات صغارها حليبا مزاجه أحلام الصبى الغض، يصعّد من أعماق ألبائهن متفجرا عن نهودهن كجرح سعيد. تنبثق أحلامهن من أسرار طفولتهن لتصل شفاههن أغاني تهدهد الوليد وتحتضنه لتخترق برقتها أحاسيسه كعطر لا تذهب الأيام بشذاه.
ما تجفره الأم في اسم وليدها هو ما تدسّه بين جسمه وروحه، تماما مثلما تعمد إلى دس صرة الخزامى بين لحافين. باللقب العائلي يلتحق الطفل بعالم الأموات خلفا عن سلف، وباسمه يتصل بعالم الأحياء الرحب مجال الممكن، فينشدّ إلى مطلق الحب على شاكلة المبشرين والقديسين، أو يحتضن هشاشة الحياة كالشعراء والمغنين، وقد يصيب ثنتاهما بلطف خفيّ مبشرا من فرط الوجد مٌغنّيا، أو حواريا أصابه العشق في مقتل.

* هذا المقال عبارة عن ترجمة تصرّف لمقتطفات من الفصل الثاني لكتاب Christian Bobin
الأسافل
Le Très-Bas"

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire