jeudi 17 mai 2012

"حمّــام الكــلمات"








"لقد عثر العلم في تقدمه( الجنوني) على ممحاة (رهيبة)  قادرة على فسخ الأفق"
فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche


 
       تتوفر العديد من المقاربات المنهجية بخصوص الوضعية الراهنة لعلم النفس[1] على وجهات نظر مختلفة حول حاضر هذا الاختصاص ومستقبله. فقد بينت تلك المقاربات مثلا "أن مستقبل علم النفس على صلة وثيقة بالتمثيلات الدماغية المجسمة إعلاميا".[2] وإذا كان الأمر على هذه الشاكلة فإن ما يخشى حقيقة هو أن علم النفس كما عرفناه منذ بدايات القرن الماضي أضحى معرفة قابلة، كالذوات البشرية تماما، إلى الانمحاء.
     لا يراودنا أدنى شك في وجود الكثير من علماء نفس، غير أن جميعهم غير معتكف على البحث العلمي التجريبي. قلة هم من اختاروا العيش بين جدران المخابر ليمارسوا تجاربهم العلمية على عينات أو نماذج بشرية عبر إخضاعها لجملة من المهام المستغربة والاستمارات المضبوطة بعناية مسبقا، قصد قيس كيفية إنجازها لتلك المهام وما ينجر عن ذلك الانجاز أو الإجابة عن تلك الاستمارات من ردود أفعال.
        يتحدث هؤلاء الباحثون قليلا، مفضّلين الانهماك في حساباتهم واستنتاجاتهم العامة ذات الطابع الكوني حول علاقة الذاكرة بالكلمات في التفكير الناطق، حول كيفية رؤية الألوان، حول طريقة فض المشاكل وتجاوز الصعوبات لدى الكهول أو لدى الأطفال والقردة المتطورة الذكاء.
         يعلق "ميشال فوكو Michel Foucault" في استعارة بديعة بخصوص التجربة التي تعمد إلى إثبات كذب الأطفال قصد تفادي العقاب لدى المختصين في علم النفس المخبري "أن هناك من بين الباحثين في التخصص من يغالي في عدم التحفظ لدى الانحناء للنظر من ثقب النافذة والحال أنه إزاء باب من البلور" ! [3]
        يستند علماء النفس من دعاة التوجهات العلمية الصرفة في تجاربهم على قناعة مؤيدها أن حقيقة الإنسان قد استوعبتها ذاته الطبيعية، رابطين تجاربهم العلمية وأبحاثهم بتقليد معرفي يحيل على تصورات أساطين هذه المعرفة على غرار "بياجي Piaget" و"سكينّر Skinner" و"شومسكي Chomsky"، تواضعت جميعها بخصوص معقولية دراسة التصرفات البشرية بشكل مخبري معزول عن أي محيط بشري، معتبرة أن الوظائف النفسانية الأساسية على غرار اللغة والذاكرة والتمثّل لها طابع عام موحد. ولعل مثل تلك القناعة هي التي أدت بهم في الأخير إلى الاعتقاد بأن علم النفس ليس سوى حلقة ما ضمن السجل الواسع للعلوم البيولوجية.
    مهّدت مثل تلك التصوّرات الشديدة الوثوق بنتائج البحوث النفسانية المخبرية الطريق أمام التخصصات البيولوجية لاختراق هذا الحقل المعرفي، متوغلة في سمك "لحمته الحية"، لتقدم لنا نتائجها الخاصة حول تقصّيها للظواهر النفسانية. فقد تقعّد ظهور ما يوسم حاضرا بـ"العلوم العصبية"، وإذا ما تملينا الأمر جيدا، عن هذا التسليم بمحورية البعد الطبيعي، وهو ما أعَدّ العدة بالتدرج لتراجع الدور الموكول للبحث النفسي المخبري بعد اكتفاءه واقعيا بإنجاز العمل التمهيدي وتهيئة الظروف للباحث المختص في علوم الأعصاب حتى يوافينا بالقول الفصل ويشرح لنا بأدواته المعرفية الخاصة طبيعة الظواهر النفسانية المدروسة.
      لا مندوحة، وفقا للدعاوى العلمية المغالية لمثل هذا الخطاب أن نعتبر أن علم النفس المخبري يتجه حاضرا نحو تنميط البشري بنزع جميع خصوصياته الإنسانية عنه، متناسيا دور كل ما هو ذاتي أو غيري، تاريخي أو معيش، محسوس أو شعوري. فالعلوم الإنسانية كثيرا ما تجد نفسها مطالبة بتحمّل مسؤوليات أخلاقية لا يقع وزرها غالبا على رصيفتها الطبيعية.  فإثبات "كوبرنيك" على سبيل المثال لمحورية نجم الشمس قياسا لكوكب الأرض ليس له مطلقا أي تأثير على دوران ذلك الكوكب حول ذاك النجم، غير أن حديث "فرويد" عن اللاوعي يمكن ابتساره في تصوّر ذهني مجرد غير قابل للإثبات، قام عالم نفس بإقناع جانب من البشرية وعلى مدار قرن من الزمن أو يزيد بإمكانية وجوده. ثم كيف لنا أن نجزم يقينا أن نظام التلقين لدى المتعلمين من طلبة المدارس يتدرج ضرورة عبر المرور بمحطات ذهنية منطقية متفاوتة وفقا لما انتهت إليه نتائج البحوث البيداغوجية "البياجية" (نسبة لجون بياجي)، دون أن ينتابنا الشك في تحويلهم بمقتضى تلك الخطة التدرجية البيداغوجية إلى آلات حساب باردة؟
       يقابل هذه الأقلية من الباحثين التجربيين أو المخبريين في علم النفس، صنف آخر من المهتمين بهذا العلم يشكل أغلبية المنتسبين إليه نطلق عليهم عادة تسمية الأطباء أو المحللين النفسانيين أو "البْسي" بلغة العصر. ويأخذ حضور هؤلاء ضمن النسيج الاجتماعي الحضري شكلا ملفتا، إذ غالبا ما تتموقع عياداتهم بشقق العمارات، كما نجد لهم حضورا داخل المؤسسات التربوية والهياكل الاجتماعية وكذا ضمن الناشطين في المجالين الخيري وجمعيات المجتمع المدني. كما لا نعدم وجودا لهؤلاء المحللين بجانب من طالتهم الأرزاء أو تعرضوا للتحرش والترهيب والتعنيف اللفظي والجسدي.  
       يبحث هؤلاء عن الكيفية المثلى التي تسمح بمد يد المساعدة قصد شد عضد من طالهم الإحساس عميقا بالضيم وانسدت الآفاق في وجوههم أو انقطع رجاءهم، معولين على "كلمات مهدئة" وصيغ تبعث الأمل وتحث على التحمّل عبر الانفتاح على مشاكل الغير والإصغاء إليه ومرافقته في عملية استكشاف هشاشته والتفطن لما يعيق توازنه الحسي أو العاطفي.      يعمل هؤلاء وفقا لاستعارة "هيدغير Heidegger " البليغة على "مساعفتنا بالكلمات المطهّرة التي نفصح من خلالها عما أخفيناه عميقا في دواخلنا من عذابات".
       هم يعرفون جيدا كيفية التأثير باستعمال الكلمات، معولين على إطار طقوسي وطريقة في الأداء تحيل عن سجل سميائي معروف، نَغْنم كثيرا لو عاودنا زيارته عبر مساءلته عن حقيقة الدور الذي يمكن للخطاب الطقسي أن يلعبه في نحت مختلف تصرفاتنا كذوات بشرية.
     يتعين على هؤلاء المحللين النفسانيين أن يكونوا على بيّنة من جميع ما هو إنساني، كما ينتظر من تجاربهم أن تحيط بكل شيء، أن تستمع في هدوء وجلد لجميع التعبيرات بما في ذلك أقلها نضجا ونزقا وهوسا دون أن تبرح مكانها أو تفقد اتزانها.
      ليس هناك أكثر تعقيدا من الذات البشرية، فكيف لنا إدعاء الإحاطة بجميع خصوصياتها ؟ لقد شدد "ديكارتDescartes" ضمن تأملاته Méditations على انعدام القدرة على استكشاف قوانين الطبيعة كلما عنّ للذات الإلهية العبث بالكون وتغييره بين الفينة والأخرى، غير أن تلك القدرة أدرجت لسوء حظ المحلل النفساني شيئا من العبث في تشكيل الخصوصيات الناظمة لنفسية الكائنات البشرية. فمن مرحلة زمنية إلى أخرى ومن مكان إلى أخر لا تفتأ الذوات عن إرباكنا بتقلباتها وتغيراتها وتحوّلاتها، مما يعني أن ليس هناك من قوانين ثابتة تسمح واقعا بالإحاطة بشكل دقيق بمّا يشكل نفسية البشر في مختلف وضعياتها. فعلى غرار ما ذكره "إلياس Elias  و"فرنان Vernant " و"ميرسون Meyerson " لا يتوفر الإنسان على ذاكرة ووعي، وعن لا وعي وذكاء أيضا، بنفس الطريقة التي يتوفر بها على معدة وقلب وأعضاء.
       إن ما يشغل المحللين ويتغاضى عنه علماء النفس، هو تلك القدرة على الترميز الدائم للمعيش، والتطرق إلى جميع جوانب الحياة بالتعويل على رموز الكلمات. ولا يحتاج هؤلاء المحللين في تعاملهم مع الواقع إلى تكوين نظري أو إلى شهادات علمية تستوعب الأبعاد الأنثروبولوجية - بالمدلول الذي سحبته عليه "الكانتية Kantisme "- أو السوسيولوجي أو التاريخي، فالإنساني لا يدرّس لدى القيام بالتحليل. فأولئك الذين يصغون للإنساني ويتعهدوه بالتحليل لا يحدّد تكوينهم المعرفي واقعيا غير المباشرة الميدانية لنشاطهم، لذلك يصدق أن نعتبرهم حرفيين بالمعنى العملي الدقيق للفظة حرفة.             
    هذا النوع من التحليل النفسي الذي نسعى إليه قصد التخفيف من عذاباتنا يبدو أكثر قابلية إلى البقاء والتواصل قياسا لغيره، فأقراص السعادة أيا كان الاسم الذي سيعطى لها - وبفرض وجود تلك الأقراص طبعا - ليست في متناول اليد حاضرا ! جميعنا دون استثناء تقريبا نحتاج وعند منعرج ما في مسار حياتنا إلى "حمام كلمات" يهدئ من الروع، ويؤنسن التصرّفات. لذلك نغنم يقينا لو كان بمقدور هذا المجال التحليلي أن يتموضع ضمن دائرة البحث العلمي حتى يتناول بالدرس العديد من التساؤلات النظرية التي تخترق المجال الإكلينيكي الصرف.
        فعندما نعيد قراءة ما كتبه الظاهرتيون على غرار "مرلو بونتي Merleau-Ponty"[4] و"بينسفانغر Binswanger " مثلا، يواجهنا سؤال محيّر حول طبيعة فهم أو تأوّل هذا البحث الموسوم بالإكلينيكي لتصرفات الآخر "مرضية" كانت أم "سويّة"؟ وهل أن ذلك الفهم اكتشاف للمعنى العميق، غير المريء وغير الموضوعي أيضا للتصرفات البشرية يتساوق مع اكتشاف "كولوب" لأمريكا مثلا ؟ أم أنه اختراع لمعنى التصرّف البشري وتعبير دقيق عن مدلوله بالكلمات؟ ألا يكون المعنى الذي نبحث عنه مثلما يقترح أولئك الفلاسفة الظاهراتيون منصهرا في التصرف ذاته، أم أننا محتاجين في التعبير عنه إلى الفصل بينه وبين التصرف؟ أسئلة محرجة وملغزة بقدر ما هي محددة بالنسبة لمستقبل معرفة إنسانية تبدو في أشد الاحتياج حاضرا إلى الانبعاث من رمادها.
       ويبقى سؤال أخير لا يخلو من وجاهة خاصة حال ربطه بما كنّا إزائه. يتراء أن لنا جميع من تعرفوا، حتى بشكل سطحي، على مجال علم النفس كما أعادت "الفرودية" صياغته أقرب إلى الاقتناع حاضرا بأن في مكان ما من أعماقهم يقبع لا وعيهم، المُتلبس في شكل شخصية مفصولة عنهم، لها ذكاؤها وتأثيرها ونوازعها الخاصة. كثيرون أيضا هم أولئك الذين يحدوهم الاقتناع أيضا بأن النوازع المدفونة طي أعماقهم هي ما يدفعهم على الحقيقة إلى اقتراف ما يصنعون بأيامهم، رافعة عنهم كل كلفة أخلاقية، ساحبة تمام المشروعية على تصرفاتهم، متجاوزة جميع قدرات وعيهم البشري، والحال أن الجميع على بينة أن مجال النوازع والأحاسيس وبقية المؤثرات العاطفية والوجدانية الأخرى غير قابل للملاحظة الدقيقة وقيس التجريبي البارد.
       فالنوازع التي تتجاذبنا ما هي في الواقع إلا نتاج لمعطيات لها اتصال وثيق بأسلوب عيشنا وبالعلاقة التي تربطنا بغيرنا خاصة. فمن دون حضور تلك "الآخرية" ليس هناك من نوازع أو من أحاسيس، ليس هنالك غير مجاراة عمياء لما يشكل الجانب الغريزي والحيواني في داخلنا!
      تلك هي حقيقة الأخطار التي تحف بالممارسة المعرفية المتصلة بأحوال النفس حاضرا. فكلما طوحت تلك الممارسة المعرفية بعيدا مدّعية القدرة على ربط جذور التصرفات البشرية بمدلول محسوس، فإنها لا تقوم عبر ذلك السلوك حقيقة إلا بدعوة العلوم البيولوجية إلى أخذ موقعها والحلول محلها تدريجيا. ومن دون أن يخامرها شك في أن حصول ذلك ما سيقود أقدامنا مستقبلا إلى المحلل النفساني لا يمكن أن يخضع إلا لمجرد وصفة دوائية أو لمعالجة جينية صامتة بوسعنا الحصول عليها والمواظبة على جرعاتها دون ما حاجة إلى "حمام كلمات"، أو إلى أي "أنسنة" تمر ضرورة بجلسات إصغاء وتفريغ وتحليل مغلقة تنظّم طقوسها داخل حيّز العيادة الهادئ والمريح.
    إذا ما قُدّر أن يتخلى المحللون النفسانيون بوصفهم "أطباء روح" عن مثل ذلك الدور، فإن تصرفهم سيكون بالضرورة مدعاة لانقراضهم، وجريرة غير مسئولة بل وغير أخلاقية في آن في إتلاف القيمة الإنسانية للذات البشرية والتفريط فيها لكي تتولها مستقبلا وصفات صيدلة باردة وخرساء في آن.           


[1]  تشكل هذه العروض اختزالا لأبرز الأفكار الواردة صمن مقال "فرنسواز بارو Françoise Parot " علم النفس شروط البقاء La psychologie les conditions de la survie" الصادر ضمن: Université de tous les savoirs : L’Histoire la Sociologie et l’Anthropologie, éd., Odile Jacob, Paris 2002, p. 9 – 20.  .
[2]  Houdé (o), Que- est-ce que la vie ? Paris Odile Jacob 2000.  P. 311 - 315         
[3]  Foucault (M), Dits et écrits, Paris, Gallimard 1994, p. 157.          
[4]  Merleau-Ponty (M), Phénoménologie de la perception, éd., Gallimard, Paris 1945

2 commentaires:

  1. J'ai bien apprécié votre analyse, très savant comme toujours. Aujourd'hui, les sciences humaines en Tunisie ont besoin d'une révolution méthodologique.
    Sidi Lotfi, personnellement je vous voix le plus proche à ouvrir ce champ de recherche en appliquant les méthodes de la psychanalyse pour analyser les différent recueil des soufis maghrébin.

    RépondreSupprimer
  2. ما هي إلا كليمات صادفت حسن ضنك بها ...وبمن حولها إلى خربشات
    أيضا.

    RépondreSupprimer