dimanche 11 mai 2014

آراء في التونسة 2














يجدّف حسين رؤوف حمزة العارف بتاريخنا المعاصر والعزيز الذي غادر صحبتنا منذ بضع سنوات في الاتجاه نفسه، مشدّدا ضمن مقترحه الذي حمل عنوان "التاريخ وأجانبه" على كيفية تمثّل التونسيين لنوعين من الأجنبية: الأجنبية الغريبة والأجنبية الحميميّة، مبيّنا أنه بمجرد أن ندقق في مدلول هذه الأخيرة معولين على الدروس المقترحة على طلبة مختلف المؤسسات التعليمية في المستويين الثانوي والجامعي، وكذلك في مواضيع المذكرات والأطروحات التي نوقشت من قبل باحثين تونسيين داخل البلاد أو خارجها، تتضّح لنا بما لا يحتمل الشكّ ندرة الدروس المخصّصة في ماضي الشعوب والحضارات البعيدة عن مجالنا الجغرافي وكذلك البحوث المحكّمة في تاريخها. فنحن لا نملك وضمن أبحاث ما يربو عن مائة مؤرخ مباشر حاضرا، ولو على مختص واحد في تاريخ مصر القديمة أو الحضارة الفينيقية أو بلاد ما بين الرافدين. كما أننا لا نتوفر على مختصين، وفي مختلف فترات التاريخ الاعتبارية على باحثين مهتمين بحضارات الشرق الأقصى، وحضارات القارة الأمريكية، فضلا عن مجال إفريقيا جنوب الصحراء وأغلب مجالات أوروبا الاعتبارية، أو مختصين في تاريخ الإمبراطوريتين العثمانية والفارسية خلال الفترة الحديثة، ولا في تاريخ المشرق العربي خلال الأربعة أو الخمسة قرون الماضية.
لذلك يعتبر كاتب هذه المقاربة أن معرفتنا بالتاريخ في وجهيه التعليمي والتخصّصي قد ظلت حبيسة خطاب وطني مؤدلج أصبح من أوكد مهام العارفين بالشأن التاريخي حاضرا الخروج نهائيا من ضيقه تجاوزا لقصور النظر، وتشوّفا إلى كتابة جديدة تتسم بتعدّديتها ونقديتها وانفتاحها، وتوسيعا لفضولنا في التعرّف على مجالات غير مقصودة حتى نتجاوز تركيزنا المشطّ على الحفر في مربع الوطن الضيق الذي ينحسر أسهامه في توسيع أفق ما وسمه الباحث بأجنبيتنا القريبة أو الحميمية. 
آليات استبطان الماضي وتخيّل المستقبل في الإبداع النقدي والفني التونسي:  
يتوفر القسم الثاني من هذا المؤلف الجماعي على ستة مساهمات دونتها أقلام عدد من نقاد الأعمال الفنية ومبدعيها، أولئك الذين قبلوا مشاركتنا الحفر في مدلول "التونسة"، ومدّونا بوجهات نظر طريفة غير مبذولة بخصوص مسألة انتسابنا الحمعي. ضمن هذا السياق تحديدا، لا ترى علياء مبروك وبعد مسيرة طويلة مع كتابة الراوية التاريخية فاقت العشريتين، كبير حرج في الاعتراف وضمن نص حمل عنوان "التاريخ في الروايات التاريخية" بأنها عمدت في أحيان كثيرة إلى "اختلاس" جانب من مواد حكاياتها من مؤلفات الباحثين في التاريخ، تاركة لخيالها مهمّة ملئ الفراغات التي تتخلل مختلف الأحداث التاريخية والتي لا تتوفر تلك المعرفة تحديدا على إجابات قاطعة بخصوصها.
تتشوّف روائيتنا إلى أن تكون نوميدية حتى تعيش وقائع حروب ماسينسان، وقرطاجية حتى تشارك سكانها أبهى أيام حضارتيهم البونية والرومانية. ولوبية كي تقاوم حضور العرب أيام الكاهنة، وأغلبيّة حتى تنعم بجمال العيش في قصور أمراء القيروان وتشهد فرط رقة آدابهم، وفاطميّة حتى تعيش في أبهة قصور المهدية، وحفصية زمن المستنصر بالله الحفصي (1249 - 1277 ) علّها تساهم في صد حملة القديس شارل التاسع الصليبية، وأسبانية كي تصحب شارل الخامس في حملته على مدينة تونس، وعثمانية حتى تخلّصها صحبة سنان باشا من سطوة الأسبان. تريد أن تعيش أيام الحماية الفرنسية لتناضل في صف البورقيبين وتحرّر بلادها من ربقة الاستعمار ومهانته.
وهكذا تتخذ سجلات التاريخ، أيّ كانت نظرة مؤلفيها موضوعية كانت أو متحاملة وبالنسبة للأدب الروائي، مكانة متميّزة في تصوّر كاتبتنا، تلك التي تعتقد أن السيطرة على مادة الخبر التاريخي مسألة محورية كلما رمنا فهم الروابط التي تصل بين الذوات أو تقرّب بين المجموعات والشعوب.
وفي سياق متصل يقترح الطاهر الشيخاوي بوصفه ناقدا ومؤرخا لسينما المؤلف تونسيا وببلدان العالم الثالث، تعميق التفكير بخصوص ثنائية "العرض والتمثّل"، معتبرا أن فن السينما ليس بوسعه إدعاء حضور فاعل ضمن المشهد الثقافي للمجتمع ما لم يسهم بمعية بقية أشكال التعبير الفنية في بلورة أداوت تحليل ونمذجة ترتقي بالذائقة العامة للمجموعة. ويعتبر الباحث أن التعارض بين آليات التمثّل الجماعية وآليات العرض السينمائي ينفتح بدوره على تناقض محايث يقع ضمن مجال الفعل السياسي ويحيل على ثنائية الحرية والديمقراطية. فانعدام القدرة على تصوّر المحيط الثقافي الذي يصدر عنه الشريط السينمائي كعمل إبداعي غالبا ما يعرّض مبدعيه إلى غضب المجموعة ونقمتها حتى وإن لم يضعوا في حسبانهم تأجيج مثل تلك المشاعر. وهو ذات الإحساس الذي أُجبِر المخرج التونسي النوري بوزيد على تلمّظه لما اعتبر أن مسيرته الإبداعية هي "محل فخر من يتقاسمون معه الوطن ومصدر ازدرائهم وخجلهم في آن".
وهكذا يخلص الطاهر الشيخاوي وعبر تفكيك مختلف الثنائيات المستجلبة، إلى أن الهزة المدوّية التي عاشتها البلاد التونسية في 14 من شهر جانفي قد مثّلت انفجارا شعبيا لرغبة جامحة في التعبير عن الذات أو في "تمثّلها"، لذلك كان من الطبيعي وفقا لتصوّره أن تشعر النُخب بنوع من التململ المشبوب بعدم الرضا، لأنها فشلت حقيقة في استباق الهزة التي اعتقدت أنها قد أعدت لها العدة منذ زمن طويل. فقد شكّل الانفجار الشعبي الذي حصل في تونس في مستهل سنة 2011 مؤشرا بليغا على إحراز تقدّم وعلى حصول حالة من النكوص أو التراجع في آن، بل وقد يصحّ اعتبار ذلك الانفجار نوعا من أخذ البعد "التمثلي" لثأره من أسبقية العرض، لكأن ما حصل هو فعل "ثورة مضادة"، والحال أن ما تم على الحقيقة لا يزيد عن عملية تدارك أنجزها "التمثل" ثأرا من "العرض"، هادفا إلى دمقرطة الفضاء العام مؤازرا رغبة مختلف الشرائح المجتمعية المكدودة في اللّحاق بركب الحرية.
وفي سياق متصل وضمن محاولة للحفر في خصوصيات الهوية التونسية اقترح مراد الصقلي الباحث المتخصّص في موسيقى الشعوب جملة من التوضيحات الطريفة حول مدلول النبرة الموسيقية بوصفها بصمة تحيل على هوية موسيقية متأصّلة، وذلك ضمن مقاربة توليفية حملت عنوان "التونسة في الموسيقى".
يعتبر مراد صقلي أنه وإن كان من الصعب الإحاطة بمدلول دقيق للتونسة ضمن مجال الموسيقى اعتبارا لتنوع الممارسات والتعبيرات المتّصلة بها، تلك التي يختزلها المؤلف في ثلاثة أنماط أساسية هي: الموسيقى الأثنية أو الشعبية والموسيقى التختية أو موسيقى المالوف وموسيقى الطرق الصوفية، فإن الدمج بين تلك الأنماط ومختلف العناصر الثقافية المتّصلة بها هي ما يترتب عليه وفقا لتصوّره خصوصية تونسية تتوفر على العديد من المؤشرات الدالة على حضور خيط هادي أطلق عليه الباحث في تسمية طريفة اسم "اللهجة الموسيقية التونسية".
ويجد هذا التصوّر صدى منافحا له ضمن العرض الذي اقترحه علينا حاتم القروي، وهو واحد من أهم منشطي ساحة التعبير الركحي المتصلة بثقافة القول المرتجَل أو "السْلاَم" تونسيا، وذلك ضمن مقاربة حملت عنوان "التونسة في فن ارتجال القول أو "السْلاَم"" أردفها بنصين تعبيريين شيّقين حول الألقاب التونسية ولغة الضاد يشف كلاهما عن جملة من الأبعاد غير المطروقة التي تحيل على انتماءاتنا المشتركة.
يعتبر حاتم القروي أن هناك عوامل عدّة سرّعت انخراط هذه الثقافة ضمن المشهد التعبيري  وساهمت في تشوّف التونسيين إلى مزيد تطويرها، على غرار ضمور التعبير الشعري الفصيح وانحسار الفن الغنائي التونسي، فضلا عن اهتبال وسائل الإعلام المسموعة والمرئية بأغاني الفيديو كليب المستندة على الإبهار المعوّل على المظهر الخارجي، والخاوية من كل مضمون ثقافي.  
ساهمت تلك التوجّهات على الحقيقة  في تأجيج شعور الشرائح الشابة العميق بالحرمان، مُسهمة في انتشار أشكال تعبير بديلة ذات طابع انقلابي على غرار موسيقات "الهيب هوب" و"الراب" والبراك دنسينغ"، وثقافة "الهارد روك والتكنو" التحتية، حيث يتعارض الإنتاج المقترح من قبل وسائل الإعلام الخاصة والعمومية مع تطلّعات الشرائح الشابة. وهكذا فقد أسهم تطور الإمكانيات التقنية التي حققتها ثورة تكنولوجيات الاتصال الحديثة في توجّه تلك الشرائح نحو صياغة تصوّرتها الفنية والموسيقية الخاصة، وتوسيع قاعدة المقبلين عليها من بوابة التحكّم في المكتسبات الجديدة للثقافة الرقمية.
وضمن ذات الإطار يعرض علينا "علي سعيدان"، وهو من خيرة العارفين برصيدنا التراثي الشعبي، وضمن نص مكتوب في لغة التخاطب التونسية نصا حمل عنوان "الله وعباد في كل بلاد"، يفصل ضمنه القول ومن وجهة نظره الشخصية في مسألة التونسة. فقد استعراض علي سعيدان البعض من ذكريات تحصيله الخاصة بغرض تأمّل مستوى تطوّر سجل القيم الجماعية والمسافة الضوئية التي أضحت تفصل حاضرا بين التمثلات الذي صاغها محمد بن عثمان الحشايشي (ت 1912) مؤلف كتاب "العادات والتقاليد التونسية" في الفصل الذي عقده للحديث عن "تفاصيل طباع أهل القطر وكل شعب بما اختصّ به"، وبين الانقلاب الذي جد على سجل تلك التمثلات بعد نصف قرن أو يزيد من تصفية الاستعمار.
وتنويعا لزوايا الالتقاط يقترح علينا الشاعر والمبدع والفنان التشكيلي ومؤرخ الفنون على اللواتي مقاربة مدلول الانتماء من بوابة التعبير التشكيلي، صائغا في لغة الضاد مقاربة طريفة حملت عنوان "تطور التعبير عن الهوية في الفن التونسي الحديث". فقد تعلقت همة المؤلف بتقريب التطورات التي طالت مسيرة تأصيل فن الرسم المسندي بالبلاد التونسية وتأثيل اتجاهاته الفنية التي شفت عليها عملية تثاقفه مع الغيرية الغربية منذ تدشين "الصالون التونسي" في حدود سنة 1894.
فلئن تأثرت الأجيال التشكيلية الأولى، تلك ظهرت أعمالها الفنية خلال الثلث الأول من القرن العشرين ووفقا لتصور المؤلف بتقنيات الرسم الغربية على صعيد الأسلوب كما على صعيد المضمون، فإن أقطابها على غرار يحيى التركي وعمار فرحات وعلى بن سالم قد نجحوا في التعبير وبعد طويل دربة سواء عن وعي منهم أو من بوابة الحدس والتخمين، في تحقيق استقلاليتهم إزاء مختلف التأثيرات المباشرة للأساليب الفنية الغربية. فقد تمكن المقترح التشكيلي التونسي من تطوير إحساسه الشخصي تجاه الواقع اليومي، متفطّنا إلى خصوصيات بيئته، معوّلا على خطوط بسيطة تتقفّى الهدف مباشرة، وهو ما فشلت في تحقيقه جميع التعبيرات التشكيلية الغربية ذات الطابع الأكاديمي.
تواصل هذا التصالح مع الواقع التونسي ضمن الأعمال التشكيلية للجيلين الذين لحقا بجيل الرواد مع "مدرسة مدينة تونس التشكيلية" وضمن الأعمال الفنية التي أنجزها "المحسوبون على التيارات التشكيلية والفنية الجديدة". فقد تركّزت أبحاث هؤلاء على مدلول الهوية التونسية لا بوصفها إطارا تصويريا، ولكن باعتبارها إطارا جماليا يرفض اختزال أفقه الفني في التماهي مع الواقع. مما مكّن هؤلاء المبدعين التشكيلين التونسيين المنتسبين إلى اتجاهات فنية جديدة وبصرف النظر على العلاقات الوثيقة التي ربطتهم بالبحث التشكيلي والجمالي الغربي، إلى ربط الصلة مجدّد بالفضاء الجمالي الإسلامي، عارضين علينا تعبيرات مفارقة وطريفة بخصوص مدلول الهوية التونسية.
يخلص علي اللواتي إلى أنه حتى وإن لم ينخرط جميع الرسامين التونسيين في مغامرة البحث عن الهوية أو أن العديد من بينهم لم يشعر بالحاجة إلى الإصداع بتونسته - اعتبارا إلى أن الحرية هي مطلب كل عمل فني على الحقيقة، لا الانخراط في أي تصوّر نظري مهما سما شأنه- فإن مساراتهم الفنية قد بقيت رغما عن ذلك وفيّة لسياقات مخصوصة أسعفت ناقدي أعمالهم في الوقوف على
المظاهر الدالة على اهتمامهم بمسألة الانتماء وتجسيمهم لمختلف العناصر المميزة للهوية التونسية المشتركة، حتى وإن حاولوا قصارى جهدهم إخفاء تلك التوجهات أو تجاهلها بالرمّة.
حملت آخر مقاربات هذا المؤلف الجماعي تلك التي نقلناها بتوسّع واستفاضة عن العروض التقديمية التي صغناها في اللغة الفرنسية عنوان "في التونسة". وتمثل الهدف من ذلك في تقريب مختلف التصوّرات المتصلة بمسألة الانتماء واستعراض الأبعاد المفصليّة التي تتفرع عنها من خلال نقلها إلى اللغة العربية حتى يتمكن غير الناطقين بالفرنسية من أخذ فكرة دقيقة حول طبيعة التسؤلات التي قادت هذا المؤلف الجماعي.
وهكذا فقد مررنا تدرّجا من تسمية المجال إلى حيازته وصولا إلى أشكال العيش المشترك داخله، مستندين في ذلك على وجهات نظر من تدبّروا إرثنا الجيني وثرائنا اللغوي وكيفية تعاملنا مع الغيريات والأقليات وطبيعة الأواصر التي شدتنا إلى مشروع الحداثة والدفاع عن اشتراكنا في السيادة ضمن دولة - وطن. كما توقفنا مطوّلا وحتى ندرك خصوصيات العلاقة التي تربطنا بالمعاصرة حاضرا، عند استساغتنا لمختلف التعبيرات الفنية من نافدة علاقة التاريخ بالآثار الروائية، وتشكيل الصورة لحسنا الجماعي، وتعبير لهجتنا الموسيقية ومختلف تعبيراتنا الفنية المتجدّدة منها كما التراثية عن التحوّلات التي طالت هويتنا الجماعية ونقلتنا من "غبار غير متجانس لذوات متناحرة إلى مجموعة ينبري أفقها على امتلاك عقلاني رصين حيّ لمدلول السيادة".
جميعنا على وعي حاد بأن ما عرضناه لا يزيد عن محاولة تجريبية لمقاربة مجال بكر لا تزال مسالكه في حاجة إلى مزيد تمرّس، لذلك فضّلنا السير في شعابها متسلحين بإضاءات متنوعة ومتقاطعة عالجت بتدبّر المقتصد سياقاتها غير المكتملة، تلك التي تحيل على عنوان لقاءات جمعتنا بالنادي الثقافي الطاهر الحداد لمسائلة إشكالية الانتساب ضمن سياق تاريخي فارق، ارتأينا جمعها ضمن أثر شاركتنا منشورات نيرفانا عرضه على القراء في هذا الشكل الباذخ الجميل، واخترنا لها عنوان "آراء في التونسة" حتى تنخرط ضمن مصير متحوّل، يعكس قدر كتّاب هذه المقاربات قطعا، ومصير جميع التونسيين فيما نرتجيه.
                                                                                                                           

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire