تمثل مختلف الإسهامات التي ينطوي عليها هذا الكتاب الذي تولّت
منشورات نيرفانا إصداره منذ بضعة أيام، عملا تجريبيا أنجزته الجمعية التونسية
للدراسات التاريخية في غضون سنتي 2012 – 2013، لماّ برمج القائمون عليها سلسة من المسامرات الشهرية بالنادي
الثقافي الطاهر الحداد الواقع بالمدينة العتيقة لتونس، تمحور مضمونها حول مدلول
"التونسة" ضمن سياق ما بعد الانتقال الفارق الذي عاشته البلاد بين أواخر
شهر ديسمبر وأواسط شهر جانفي من سنة 2011.
يستقيم اعتبار المحصلة التي تنطوي عيها آراء مختلف المساهمين في هذا
التأليف الجماعي تلك التي تولينا تنسيق جمعها وتقديمها، بمثابة
"البيان" الذي خطّته أيادي متعددة، وصاغه باحثون جامعيون اقترحوا وجهات
نظرهم حول مسألة تشابكت أبعادها العلمية والمعرفية، مع تلك المتّصلة بالالتزام
بقيم المواطنة. كما ساهمت في توليفها آراء المبدعين ونقاد الأعمال الفنية
والمباشرين للشأن الثقافي، أولئك الذين قبلوا مشاركتنا هذه المغامرة وطرح سؤال
"التونسة" من زاوية علاقته بالإبداع الفني وما تنطوي عليه إشكالية الانتماء
ضمن حاضر كونيّ يزداد تجانسا يوما بعد يوم.
يجمع هذا "البيان" اثنتا عشر مساهمة تمحورت أغراضها حول مسألتين
متضامنتين: فقد خصص القسم الأول من هذا المؤَلَف للوقوف عند الإرث التاريخي والجيني
واللغوي والسياسي والمعرفي لمجال تعاقبت عليه حضارات ضاربة في القدم، يُحسب تاريخه بآلاف السنين، ويتصل انتسابه بمجموعة من الانتماءات الاعتبارية تحيل على القارة
السمراء وبلاد المغارب والبحيرة المتوسطية والشرق الأوسط والوطن العربي والأمة الإسلامية.
أما القسم الثاني من هذا المؤلف فقد خُصّص لتناول مختلف القضايا التي تطرحها مسألة
الانتساب ضمن تمثلات التونسيين الثقافية، وذلك من بوابة إعلاء مبدعيهم لخصوصيات حياتهم
اليومية في تفاصيلها ومختلف أنساقها، وتمليهم لعميق قراءة أولئك المبدعين الفنية لماضيهم، كما تخيّلهم لما ينطوي عليه مستقبلهم من احتمالات أيضا.
تعدد المقاربات التاريخية وتنوع الرصيد التراثي:
كيف تَوَفَّقَ التونسيون في "اختراع" مجال سمح لجميعهم بتجاوز
مدلول النسبة التي تحيل على أصول "الأفاريق" العرقية، إلى بناء دولة –
وطن جمعت شتاتهم وسحبت عليهم نفس الانتماء؟ وإذا ما كان بالوسع ربط
مجال التونسة بتاريخ ثقافي مخصوص، فما العناصر الأساسية التي يمكن أن يشف عليها
ذلك التاريخ؟ وما طبيعة الوسائل التي استنبطها سكانه في تسمية مجال الانتماء والتحوّز،
وطبع أشكال الحياة واستنباط الضمانات الكفيلة بالتعايش؟
ذاك ما اقترح لطفي عيسى مؤرخ التصوّرات الثقافية على نفسه مقاربته
ضمن العرض الافتتاحي لهذا المؤلف، وهو عرض وُسمت صيغته الفرنسية المختزلة بـ
"هلاّ تحدثنا في التونسة"، في حين اختار المؤلف للصيغة الموسعة التي أُلحقت
بالقسم العربي من هذا الكتاب الجماعي عنوان "في التَوْنَسَةِ".
تضافرت مجموعة من المقترحات للإسهاب في تحليل مختلف الأبعاد التي
استجلاها النص الافتتاحي، أو تلك التي لم يتهيأ له استحضارها. فقد تولّت الباحثة ريم
الكافي بن عتيق تساوقا مع تخصّصها في الأنطربولوجية الجينية محورة عرضها حول مسألة
التنوع العرقي لسكان البلاد التونسية من خلال دراسة الموروث الجيني لعينة سكانية اتصلت
بقرية مكثر الجبلية الواقعة بـ""حمادة" أولا عيار على مسافة 160 كم من العاصمة تونس.
سمحت محصّلة البحث بتحديد البنية الجينية للعينة المدروسة وربطها موضوعيا
بثلاثة مكونات أساسية هي: الأصول الإفريقية الشبه صحراوية، تلك التي شغلت %43 من الأشخاص، والأصول الأورو- آسيوية تلك التي
شغلت %51 من الأشخاص، والأصول
اللوبية الضاربة في القدم تلك التي لم يتجاوز تمثيلها ضمن العينة المقصودة بالدرس
نسبة الـ %6.
تعبّر هذه المحصّلة بشكل لا يقبل المزايدة عن حقيقة التنوّع الذي تنطوي
عليه مسألة الانتماء تونسيا، مؤكّدة على تعارض التمثّلات الثقافية المُعلية لأحادية
الانتساب العرقي أو الديني قياسا لحقيقة البنية الأنطروبوجينية للتونسيين،
تلك التي تحيل على تنوّع أصولنا العرقية، عاكسة الصيرورة المتشعّبة لتمازج سكان
البلاد التونسية على المدى الطويل.
وفي سياق متصل حاولت "صوفي بسيس"
الباحثة المتخصّصة في العلاقات الدولية أن تتدبّر، وضمن مقاربة حملت عنوان
"في مدلول التونسة بعد الرابع عشر من شهر جانفي 2011" طبيعة الدور الذي عاد لحرية التعبير بعد نصف
قرن من احتكاره من قبل نظام متسلّط، في تغيير نظرة التونسيين لأنفسهم وللعالم
الذي يحيط بهم. فقد تساءلت عن طبيعة التحوّلات التي طالت الشخصية التونسية بعد التوصّل
إلى استعادة حقها في التعبير؟
اتسمت مرحلة ما بعد تصفية الاستعمار وفقا
لما صاغته الباحثة بتهميش الأقليات العرقية وانحسار الأقليات الدينية. حيث لاحظت الباحثة،
وهي مُحقة في ذلك تماما، أنه في ذات الوقت الذي يتوسع فيه انتشار التوجهات الداعمة
للتنوع الثقافي داخل المجتمعات المحسوبة على الأمم المتقدمة أو الأمم الصاعدة، فإن
تركيز المجتمعات المنسوبة إلى المجال العربي على إثبات نقائها العرقي، يشرّع
التساؤل عن المعنى العميق لاستعادة الحرية إذا لم يترتب على ذلك توجّه جدي نحو مزيد
التفاعل إيجابا مع المعاني السامية للقيم الإنسانية.
راهنت "قمر بن دانة" وضمن مقترحها
الموسوم بـ "تأثير الثقافة الفرنسة بتونس بين الإرث وإعادة التملّك"، واعتبارا
لتخصّصها في تاريخ الازدواج اللغوي للنخب التونسية خلال الفترة المعاصرة على تقصي راهن
اللّغة الفرنسية ببلادنا حاضرا.
بيّنت الباحثة أن الأنموذج الثقافي الفرنسي
لا يزال مجسما لأفق تمثل التونسيين لفكرة الحداثة، وهي مثل أعلى تمسكت به النخب العصرية
المتعلّمة على مدى أجيال متعاقبة. فحال توجيه نظرنا صوب المعاش اليومي للمجتمع
التونسي، يتبيّن لنا حضور لافت للعديد من المظاهر التي تدل على انغراس تلك الثقافة
عميقا في سمك النسيج المجتمعي التونسي، وهو ما لم تترتب عليه بالضرورة نوازع شيطنة مشطة أو توجه نحو الرفض الصريح والقاطع للآخر، لأن ما سهّل اندراج تلك الثقافة
في الذائقة الجماعية للتونسيين هو مختلف المنشآت المتصلة بالبنية التحتية للأنشطة الثقافية
كالمسارح وقاعات السينما والمتاحف، وتكوين الجمعيات الرياضية، وجميعها أطر عاضدت الأدوار
التربوية الموكولة للمدرسة، وأسهمت في تجويد محصلتها والرفع من نسق التحولات
الثقافية التي طالت سجل القيم والمستوى العام للذهنيات أيضا.
تنسجم هذه الآراء وفي جوانب عديدة منها مع ما
اقترحه عبد الحميد الأرقش الباحث المتخصّص في التاريخ الاجتماعي وفي الانطروبولوجية
الثقافية ضمن نصه الذي حمل عنوان "الحبيب بورقيبة المستبد المتنور: قراءة في
الإصلاح كمسار إجباري". حيث تصدى لإعادة تقييم مسيرة بورقيبة السياسية لا بوصفه
باني لدولة مستقلة ذات سيادة فحسب، بل كصاحب مشروع سياسي حداثي راهن على نشر قيم
الجمهورية.
يتراءى بورقيبة وضمن هذا المقترح حاكما
شرقيا لا تخرج تصرفاته عن نوازع الاستبداد، مع توجّه واعي نحو صياغة أسطورة زعامته
والدفع نحو توسيع قاعدة تقبّلها. لكن حضور تلك النوازع لم يحل بينه وبين زعزعة
التقاليد القائمة ومباشرة تطبيق خطة إصلاحية عوّلت على الحسّ النفعي أو "البرغماتي"،
والاعتبار بحسن التصرّف وتشغيل آليات التدرّج والتفاوض بخصوص مضمون تلك الخطة والنتائج
المتوقعة من تطبيقها. لذلك يعتبر الباحث أن إرث بورقيبة قد احتفظ ببريقه رغم جميع
المحاولات الرامية إلى طمسه، وذلك إلى حد بدا لنا معه ذلك الإرث متشعبا يستعصي الحسم في
محصلته.
فبورقيبة هو باني الدولة التونسية المُنْعِمَةِ،
وهو في الآن نفسه "حيوان سياسي" اتسمت جميع مبادراته بشدة التقلب والمكر والمراوغة. يَمْثُلُ
إرث بورقيبة اليوم وفي أذهان جميع التونسيين بشكل مفارق غير مسبوق، لذلك يزعم
الباحث أن جميعهم بورقيبيون، حتى وإن لم يتفطن جانب منهم إلى حقيقة ذلك بَعْدُ...
وللحديث
اتصال.
جميل جدًا هذا الكتاب أو اللوحة بما حملتهُ من ألوان وريشات مُتعددة، والجو العام الذي رُسمت فيه -رغم تقلباته فهو يبقى مُشبع بالحرية- وبطبيعة الحال بتلك اللمسة الصوفية القريبة والبعيدة في نفس الوقت من جميع التعبيرات.
RépondreSupprimerتهانية الحارة سي لطفي
شكرا حسام على تهانيك اللطيفة.
RépondreSupprimerأرجو أن يجمعنا فضول المعرفة والتوق إلى لامع الضوء على القيم التي نحن لها أهل.