dimanche 5 février 2012

الصمت الثقيل










ليس من الهين أن نعي درجة الحضر الذي ضرب على حياة النساء، فالنسيان هو
 السمة الغالبة على مصير الملايين بل المليارات من اللاتي لف النسيان حياتهن بالكامل. هناك ضمن سجل النسيان ما هو فضيع على غرار عدم الاكتراث بما تلمظه الفقراء والمشردين والمهمّشين من تنكّر وما قاسته الشعوب المقهورة من تعتيم أو إتلاف لذاكرتها. غير أن نسيان النساء يتخذ ضمن هذا الإطار وضعية خاصة، فهو يعبر عن حقيقة موقعهن وعن واقع الاستنقاص الذي قاسينه لقرون طوال جراء هيمنة قيم الذكورة.
قليلة هي البصمات المتروكة من قبل النساء، فانتقال رابطة النسب قد تم احتكاره من قبل الرجال، لذلك ليس ثمة أية طريقة تسمح بإعادة تركيب السلالات في أجزائها النسوية، فضلا على أن المعطيات الإحصائية كثيرا ما شكلت خليطا أخفت عناصره المحايدة مشاغل النساء أو إسهاماتهن، سواء كان ذلك في المصانع أو الحقول أو الحرف، وكذلك الأمر بخصوص التعبير عن المواقف الاجتماعية والسياسية، هاهنا غالبا ما يحجب حضور الـ"هم" إسهامات الـ"الهن".

لا تتحدث الأرشيفات العامة كثيرا عن تاريخ النساء، ولا ترصد ما تركناه من بصمات. قليلة أيضا هي الأرشيفات الخاصة لمن لم تكن لهم أو لهن حيثية اجتماعية. يطرح ضعف العلامة الباصمة قضية "المصادر" تلك التي تتعارض ندرتها مع ركام الخُطب المتصلة بالتمثلات الخاصة بصورة المرأة، فالتخيلات أو التهويمات بخصوص صورة المرأة لم ينضب معينها منذ الأزل. يبرهن حضور البصمات التاريخية التي تركتها النساء بخصوص حضورهن في الحياة العامة وقدرتهن على التعبير عن أنفسهن وحقيقة امتلاكهن لمثل ذلك الحق مشافهة وكتابة، رسما لمساراتهن التاريخية، لأن إنتاج البصمة أو العلامة امتلاك للمجال وانخراط مادي ملموس في الزمن.
شكل صمت الحكاية الحاضنة للتاريخ أخر أنواع ما وسمناه بالصمت الثقيل الذي لف تاريخ النساء، فقد آثرت المروية الحاملة لزخم الموروث الحضاري الإغريقي الروماني لدى نقلها لما عاينته الساحة العامة من أحداث سياسية وعسكرية ودينية وسُلالية، الحديث عن عظماء الرجال، مقصية بذلك جنس النساء من حياة المدينة رابطة الأنوثة بالانفعال الملغي للفعل وبالجمال الفتّان المحجوب عن أنظار الفضوليين. تُعتبر الموازاة بين سكون الطبيعة وسلبية النساء وبين حيوية الرجال الذين ألفوا الفعل والخلق
، تمثّل استنقاصي وأخلاقوي للتمييز بين الجنسين، شكّل على الدوام قانون ناظم للعالم حتى عصرنا الحاضر.
والغالب على الظن أن ربط مصير جميع النساء بالإنجاب هو الذي أقصاهن واقعيا عن مجال الخلق والإبداع والفعل والتاريخ. لذلك تبدو حقيقة المرأة وفقا لهذا التصوّر متعارضة مع ما هو تاريخي. فالمرأة غير مؤهلة واعتبارا لخصوصيات جنسها لانجاز فعل حريّ بأن يرصد أو أن ينقل بالتواتر. هذه النظرة القاصرة التي ملأت المدونات الدينية القديمة، هي ما تمّ تعهده بالمحافظة خلال القرن التاسع عشر بالتزامن مع التحولات التي عاينتها مهنة المؤرخ ومنهج الكتابة التاريخية أيضا. ويعود ذلك لأسباب فكرية وسياسية بالأساس، فالنظريات التطورية التي اعتقدت في حضور مجتمع بدائي أدارته أمومة هانئة وسعيدة، هي نفسها التي اعتبرت سكون تلك المجتمعات مدعاة لأن يمسك الرجال بزمام المبادرة، مشرّعة استعمال هؤلاء للقوة بل ولجوءهم إلى الحرب وهي ما ولّد - وفقا لتلك التصوّرات دائما - مجتمعات تاريخية قادرة على فرض نفسها كونيا.
ساهمت هذه النظرة في إقصاء النساء عن دنيا السياسة، فامتلأت سجلات التاريخ عندها بعظماء الرجال من زعماء الثورات وقادة الحروب ومؤسسي الإمبراطوريات، أبطال المواطنة المشيّدة على قيم الرجولة والداعمة للمدلول الحقيقي للهويات الوطنية، وهو ما نحتته الدروس التي حوتها كتب التاريخ حتى زماننا الحاضر. ضمن هذه الملحمة الرجولية المملوءة بمآثر الأبطال، قليلة هن النساء اللائي شُرّف ذكرهن استثناء. "عليسة" الفنيقية و"الكاهنة" البربرية و"الجازية" الهلالية"، كن من بين المستثنيات مغربا.
تلك حقيقة الأوضاع بالنسبة للبحث التاريخي حتى بداية سبعينات القرن الماضي.

كسر حاجز الصمت وظهور تاريخ النساء:





تبدو أفكار "بول ريكور بهذا الصدد مهمة، تماما مثل تلك التي صاغها "ميشال فوكو " من خلال نقده العميق لماهية لإنسان عامة وللقيم الكونية السائدة. وهو أمر لم يكن ليتحقق لولا انفتاحه على مسائل قليلة الورود على غرار الجنون، والسجن، والعائلة كمؤسسة لممارسة السلطة، والجنسانية كمجال للمعرفة، والجسد كمركز لما وسمه بالبيو-سياسة biopolitique ، وكذا اهتمامه بالجوانب "الشائنة"، وبفوضى الحياة الخاصة، وصولا إلى مسألة النوع الاجتماعي، حتى وإن لم تتضمن مؤلفاته ذكرا دقيق لهذا المصطلح.
كما أعادت مهنة المؤرخ النظر في أشكال تناهجها مع المعارف الاجتماعية والإنسانية الأخرى على غرار الأنثروبولوجية والديموغرافيا، مستكشفة العائلة من جديد من خلال التدقيق في مدلول الحياة الخاصة والزوجية والعاطفية والجنسية، وجميعها مواضيع تحيل بالضرورة على مسألة المرأة. ساهمت الشروط الجديدة للتناهج إذن، في تشضي المعرفة التاريخية التي تخلت تماما عن طموحاتها الكليّة مستغلة "تفتتها" من أجل تنويع مواضيعها، مما كان له أطيب الأثر منهجيا على التوجهات الداعية إلى إثارة تاريخ النساء. ة.
تأثرت الدراسات الأولى المنجزة حول تاريخ المرأة فرنسيا بتيار المدافعين على وجود فوارق أصلية بين الجنسينles essentialistes ، وهي فوارق تعبر عنها البنية الجسمية واختلاف الذهنية وذلك بالتعويل على مكتسبات التحليل النفسي، التي فتنت الكثير من المنكبين على التخصصات الأدبية والحضارية. غير أن الغلبة سرعان ما عادت ضمن الدراسات المخصصة للمرأة إلى "الكونييون les universalistes" أولئك الذين استندوا عامة على التوجهات الواردة ضمن أعمال "سيمون دي بوفوار" كالطعن في مدلول الاختلافات الأصلية ودحض القول بوجود أنوثة طبيعية لما في ذلك من سقوط في فخ الانغلاق النسوي، مع المطالبة اللحوحة بالتسوية بين الجنسين دون تخصيص أو تمييز، والتشديد على قابلية النوع للقراءة التاريخية.

من تاريخ النساء إلى تاريخ النوع الاجتماعي:


تأسس منذ بداية سبعينات القرن الماضي مجال واسع وثري للبحث، انطلق من الأدوار التي عادت للمرأة ضمن المجتمعات التقليدية كالغسيل والتدين والتدبير المنزلي، مرورا بحياتها الشخصية كأم وربة بيت أو متفرغة للتدين أو متبرجة و"فاسقة"، وصولا إلى الموقع الذي اكتسبته بعد انخراطها في الساحة العامة والذي طال مجال التأجير وما اتصل به من نضال عمالي أو نقابي، والنضالية السياسية المرتبطة بحقوق النساء كمواطنات.
أما بخصوص أبرز الإشكاليات المقصودة، فقد مرت من مقاربة تاريخ التمثلات والخطاب إلى الاهتمام بالتاريخ الاجتماعي ورصد الواقع الذي عاشته النساء في تنوّع أوضاعهن الاجتماعية وممارساتهن اليومية، مما أعطى أهمية متزايدة وضمن قائمة المصادر المطروقة للمدونات الخاصة، على غرار المراسلات والمذكرات والتراجم الذاتية أو "الأتوبويوغرافيات".
وهكذا قثد تم الانتقال من وضعية المرأة الضحية إلى وضعية المرأة الفاعلة المتمردة على واقعها الاجتماعي، اغتنت البحوث المخصصة لتاريخ النساء. واتجه التفكير نحو فهم أعمق للعلاقة القائمة بين الذكور والإناث من وجهة نظر سلطة كل منهما وطبيعة الأشكال التي اتخدتها، سواء كان ذلك ضمن الحياة الخاصة أو العامة، والتعرّف على مختلف التمثلات المتصلة بأوضاع المرأة في الساحة السياسية وموقعها في المخيال تساوقا مع أهمية الرأسمال الرمزي، والحفر في طبيعة العلاقة التي تربطها بسجل الإغراء والامتثال الطوعي والقبول بلعب أدوار دنيا بغرض رسم تكتيكات قادرة على إفراغ سلطة الرجال من مضمونها الواقعي. فالجَلَدُ الذي تبيده النساء إزاء صلف الرجال ليس سوى تراجع تكتيكي يحيل واقعيا على نوع من أنواع المقاومة المكتومة أو الصامتة.
وتمثل التحوّل الأكثر أهمية في الانتقال من تاريخ النساء إلى تاريخ النوع الاجتماعي، وتمسكت المقاربة النسوية الفرنسية ضمن هذا الإطار بتصوّر "علائقي" في قراءتها لتاريخ النوع الاجتماعي وذلك بغرض تفادي محاذير الانزواء والتقوقع في تاريخ ضيق للنساء، وتطلّعا إلى الانخراط ضمن مشروع تجديد أسئلة البحث التاريخي. كما تفاعل الباحثون الفرنسيون في تاريخ النوع الاجتماعي إيجابيا مع إرث "سيمون دي بوفوار" الرافض لفكرة الأنوثة الطبيعية أو الفطرية، فالمرأة من منظور تلك المناضلة "لا تولد امرأة بل تصبح (بفعل قيم المجتمع أو مواضعاته) امرأة On ne naît pas femme on le devient".


ما الذي يعنيه ذلك واقعيا؟ ألا يتحول الاختلاف الجنسي القائم على الفطرة أو الطبيعة المزعومة، إلى اختلاف صنعته القيم الثقافية والتحولات التاريخية، أي إلى اختلاف أنتجه السياق التاريخي يحتاج بالضرورة إلى عملية تفكيك تشمل أصعدة الخطاب والممارسة المتصلة يمجالي السياسي والمنزلي، العام والخاص، الواقعي والمتخيل. فالنوع الاجتماعي أداة تحليل تسمح بتجاوز مجرد الوصف، للانفتاح على دلالات مغايرة تسمح بنقد الضوابط الاجتماعية المقبولة، متحولة إلى مِشْرَطٍ يستهدف غشاوة البديهيات.
ولأن أجسادنا تاريخية، فإن مقاربتها على أساس صفتها تلك، بعد توصيفها الدقيق بيولوجيا، أمر يفرض نفسه بنفس الإلحاح الذي يتعين أن ندرس به جنسانية اللغة المستعملة حول ذلك الجسد. فقد ساد الاعتقاد طويلا في سلبية دور المرأة في عملية الإخصاب مثلا، فاحتكر الحيوان المنوي عملية الخلق بالكامل، حتى وإن بينت المقاربة التطورية عكس ذلك منذ موفى القرن التاسع عشر، لأن الاستعارة اللغوية الذكورية هي من أسعف واقعيا تواصل اشتغال مثل تلك التصورات. والحال أن الآفاق الجديدة التي فتحتها دراسة بيولوجية التوالد قد مكّنت من إثبات واقع الشراكة في الفعل بين الحيوانات المنويّة والبويضات.
تُتيح دراسة تاريخ النوع الاجتماعي فرصة كبيرة للتعمّق في شفافية ككائنات جنسية لا تختلف ذكورتها عن أنوثتها من وجهة نظر علاقتها بالفطرة أو بالطبيعة. فأي علاقة تلك التي ربطت النوع الاجتماعي بالجنسانية؟ وما هي حقيقة الانزياح في تنوع الأشكال الجنسية وتاريخية الهيترو-جنسانية hétérosexualité كقاعدة ناظمة للدّخول في علاقة بين الجنسين؟ وكيف تمكّنت هذه الأخيرة من التغلّب على بقية أشكال العلاقات الجنسية الأخرى بل وإدانة المنتسبين إليها اجتماعيا وأخلاقيا؟
هكذا وبعد قرون مديدة من الحضر والتهميش تأخذ الدراسة التاريخية للعلاقات الجنسية المكانة التي هي بها جديرة، متموضعة إيجابيا ضمن سياق البحث الاجتماعي والإنساني بشكل عام. فالجسد المجنسن قد تحول نهائيا إلى موضوع بحث تاريخي، فاسحا المجال للتعرف على مختلف تمظهرات الانتساب الجنسي المتذبذب، المتلاعب بالنماذج كـ"الأندروجنية androgynie " و"الأنْثانة الذكورية transsexualité ou travestissement" في سمك أكذوبة النوع الاجتماعي الرديء Le mauvais genre. كما توغلت الدراسات وتاريخية إشكالية المثلية باعتبارها مؤسسة اجتماعية، وهي مهمة معقّدة نظرا لصعوبة الحصول على معطيات مصدرية غالبا ما شملها الإخفاء أو الإتلاف، اعتبارا لما اكتنف تلك الممارسة ولا يزال من تجريم اجتماعي وإدانة أخلاقية وقانونية وشرعية في آن.
كما اتسع إطار المثلية الذكورية ليشمل رصيفتها النسوية lesbianisme وجميعها قارات بحث غير مستكشفة لا تزال بانتظار أجيال من الباحثين الاجتماعيين والإنسانيين.
هكذا تراءت لنا جسامة المسؤولية التي يضعنا إزائها السجال المنهجي البحثي حاضرا حول تاريخ المرأة منظور إليه من زاوية النوع الاجتماعي. ما الطبيعة ؟ ما الجسد ؟ ما الجنسانية ؟ ما الشخص؟ وما هي هويته الجنسية؟ جميعها أسئلة تدفع بالضرورة إلى طرح سؤال الاختلاف أو التمايز الجنسي في كل مستوياته، بما في ذلك تاريخيته المترتبة موضوعيا على أسئلة حاضره، العاكسة في تطلعها لفهم ذاتها وتغيير ما بها، لحقيقة آنِهَا وهُنَاهَا

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire