vendredi 10 février 2012

"حجر الصبر"

هذه مقتطفات قمنا بترجمتها من رواية الأفغاني عتيق رحيمي "حجر الصبر" الحائزة على جائزة "الغنكور"سنة 2009. وهو أثر روائي نــوّهت "أدموند رو" رئيسة لجنة التحكيم بقيمته الأدبية واقتصاده في اللفظ وامتناع مؤلفه عن التفاصح مع حلول خطابه في قلب الحداثة، مُشددة على أن منحى المناجاة الذي عوّل عليه في نقل تفاصيل تلك المأساة الفاجعة قد تمسّك ببرودة دم مذهلة، متجنّبا كل إثارة للعواطف أو سقوط في وخز الضمير.

.............................




قاعة صغيرة مستطيلة الشكل ينتاب من دخلها شعور بالضيق رغما عن لون جدرانها السماوي ورسوم الطيور المهاجرة فوق ستائرها المحلّقة في سماء ملونة بالأصفر والأزرق. ثقوب الستائر المتناثرة فوق سطحها تسمح بدخول أشعة الشمس إلى الغرفة لتنعكس على ما بهت من خطوط البساط المفروش داخلها.
لا تحمل القاعة أي أثاث غير الخنجر المعلق بين النافذتين تعلوه صورة رجل قارب سنه الثلاثون يحمل شاربا، بشعر مجعد ووجه مربع يقبع بين عارضتي إطار مخروطتين بعناية. عيناه الصغيرتان لامعتا السواد يفصل بينهما أنف يشبه تقوّسه منقار نسر. الوجه مغلق، لكأن صاحبه في احتجاز ابتسامته يبدو متهكما في داخله من ناظريه. صورة بالأسود والأبيض بهت ما اعتلاها من إضافات لونية يدوية.
قبالة الصورة وحذو جدار الغرفة سُجي ذاك الرجل بعد أن تقدمت به السنوات قليلا على منضدة مفروشة أرضا. لحية امتزج سوادها بشيب أبيض وجسم نحيل منخول جلد ممتقع مجعّد على عظم. يشبه الأنف في تحدّبه بشكل لافت منقار نسر وينغلق الميسم مع مسحة متهكمة شديدة الغرابة. الفم منفرج والأعين الصغيرة شاخصة مغورّة مثبّتة في سقف الغرفة بين الأعمدة الخشبية المسوّدة المنخورة. تتمدّد الأيادي بجانب الجسد بلا حراك وتتبدّى العروق تحت جلد متهتك أشبه ما تكون بالديدان الـمُـجهدة متشابكة مع عظام جسد ناتئة وهامدة. في المعصم الأيسر ساعة يد ميكانكية، وفي البنصر خاتم قران من ذهب. عميقا في مفصل اليد اليمنى غرز قسطر، أنبوب يقطر منه سائل لا لون له يتحدر من جراب بلاستيكي معلّق بالسقف متدليا عند أعلى الرأس. بقية الجسم مسربل بإزار طويل يعلوه تطريز في مستوى الرقبة والأكمام. الأرجل المتيبسة الشبيهة بقضيبين، يسترهما لحاف أبيض وسخ.
تتأرجح على وقع أنفاسه يد زوجته الموضوعة فوق صدره عند موضع الفؤاد. تقبع الزوجة منـزوية بينما تبدو أرجلها المطوية مدغمة في صدرها ورأسها متسافل بين ركبتيها. الشعر أسود، شديد السواد طويل يغطي أكتافا تتهادى متّبعة حركة اليد الموضوعة فوق الصدر عند موضع الفؤاد. تمسك بيدها اليسرى مسبحة سوداء طويلة تحركها الأنامل ببطء وصمت في حركة مماثلة لتهادي الكتفين على وقع أنفاس زوجها المسجى قبالتها. فستانها القرمزي الطويل يغطي كامل جسدها، بينما تظهر سنابل القمح الذهبية مطرزة أسفل الفستان وعند أكمامه. في متناول اليد مصحف قرآن مفتوح عند صفحة التصدير موضوع فوق وسادة مخملية الغلاف.
طفلة صغيرة تبكي، هي لا توجد بنفس الغرفة، قد تكون بالغرفة المجاورة أو عند الفناء. يتحرك رأس المرأة مُنهكا منسلاّ من بين الركبتين. امرأة بهية الطلعة لا يتنقّصها غير جرح صغير غائر بعمق عند زاوية عينها اليسرى، ضاغطا على أهدابها راسما حيرة قلقة على ناظريها. تبدو شفتاها المكتنـزتان جافتين ممتقعتين ترددان في هدوء وبطء نفس الدعاء. طفلة ثانية تبكي، تبدو أكثر قربا من الأخرى، هي عند عتبة الغرفة حذو الباب يقينا.
ترفع المرأة يمناها الموضوعة فوق فوائد الزوج، وتقف مغادرة الغرفة. تغيّبها لا يغيّر من الوضع شيئا، فالرجل لا يبدى أي حراك مواصلا تنفسه الصامت البطيء. صوت خطوات المرأة يهدّئ من روع الصبيتين، تلازمهما المرأة وقتا طويلا حتى يتظلل المنزل والعالم الخارجي بظل هجعتهما. تعود ماسكة بيمناها زجاجة صغيرة بيضاء، بينما تمسك يسراها مسبحتها السوداء. تجلس بجانب الرجل تفتح الزجاجة تنحني قليلا لتتمكن من سكب قطرتين في العين اليمنى ومثلهما في العين اليسرى، دون أن تتوقف أناملها عن تحريك حبات المسبحة الممسوكة بيدها الثانية. أشعة الشمس المخترقة لثقب سماء الستائر ذات اللونين الأصفر والأزرق تلمس في حنو ظهر المرأة وكتفيها المتهاديين في تعقّبهما لوقع تحرّك حبات المسبحة بين أصابعها.
بعيدا في مكان ما من المدينة صوت انفجار عنيف لقنبلة لا يستبعد أن يكون قد هدم عدد من المنازل، وحطّم كثيرا من الآمال أيضا. يليه صوت رد فعل وتقاذف يقطع صمت نهار ثقيل ترتجّ له النوافذ دون أن يوقظ الطفلتين. ينقطع الكتفان لبرهة مداها حبتا مسبحة عن التهادي. تضع زجاجة دواء العينين في جيبها. "القهّار"، توشوش في خلدها ثم تعيد: "القهّار". تعاود كلما اصّعد نفس من أنفاس الرجل المسجى قبالتها، مع كل كلمة تنطق بها تنـزلق بين أصابعها حبة من حبات المسبحة. تنهي المسبحة دورة كاملة تسعا وتسعين حبة، تسعا وتسعين "قهارا".
تهز ظهرها قليلا لتأخذ مكانها على المنضدة حذو رأس الرجل تعيد يدها اليمنى فوق صدره عند موضع الفؤاد، لتبدأ دورة جديدة من دورات المسبحة. عندما تنهي مرة أخرى تسعا وتسعين "قهّارا" تفارق يدها صدر الرجل متنقلة إلى موضع رقبته لتضيع الأنامل في لحية كثة، تَلْبُد هناك نفسا أو اثنان، ثم تخرج لتلامس الشفتين مارة بحنو على موضع الأنف والعينين والجبهة، مختفية مرة أخرى في شعر كثيف دهني.
"ألا تشعر بيدي؟" قالتها المرأة منحنية على الرجل، شاخصة فيه دون أن ترقّب أي رد فعل. تضع أذنها عند فمه، تسترق حسيس صوته دون جدوى. الفم منفرج والعينان شاخصتان معلقتان في أخشاب السقف الداكنة.
تزيد المرأة في انحنائها مخاطبة الرجل بصوت خافت: "بربك أوْمئ لي بعلامة واحدة تثبت أنك تشعر بحركة يدي، بأنك لا زلت بقيد الحياة، بأنك عائد إليّ، بأنك عائد إلينا ! علامة فقط كافية كي أستعيد ما خار من قواي واسترد يقيني بعودتك إلينا. تضطرب شفتاها "كلمة واحدة...أتوسل إليك". تنـزلق يدها حذو أذنه: "آمل أنك قي الإصغاء إليّ". يسقط رأسها على الوسادة. ...يتلوى جسدها لتستلقي على ظهرها ثم يضيع نظرها ليلتحم بموضع عيني زوجها الشاخصتان في مكان ما بين أعمدة السقف الخشبية السوداء المنخورة. "القهّار، القهّار، القهّار..."
... تضيع يدها مجدّدا وسط الشعر الدهني الكثيف، لتخرج من حلقها اليابس كلمات متوسلة: "عد إلي أرجوك قبل أن أفقد صوابي. عد من أجل أطفالك ...". ترفع رأسها فتظهر أعينها الغارقة في الدموع، بينما يتسمّر ناظراها يتعقبان اتجاه نظر الرجل اللا محدد. "إلهي أعده إلى الحياة !" ثم بنبرة جادة: " ألم يقاتل باسمك ! ألم يجاهد من أجل إعلاء كلمتك زمنا طويلا !" تصمت قليلا ثم تطفق حانقة: "وأنت تصر على تركه على هذه الشاكلة ؟ ! ما هو مصير هاتين الصبيتين؟ ما مصيري أنا ؟ لا، لا تستطيع، لا، ليس من حقك تركنا هكذا دون رجل". تجذب اليد اليسرى الماسكة بالمسبحة المصحف لتقرّبه منها، فتضيّق شدة الانفعال بحثها عن صوتها المبتلع داخل حنجرتها: "اثبت لنا وجودك وأعده بقدرتك إلى الحياة !". تفتح المصحف لتتابع بإصبعها الأسماء الحسنى المنقولة أعلى التصدير: "أقسم لك أنني لن أتركه يذهب أبدا ليقاتل كالأبله الحقير، حتى لو تعلّق الأمر بالجهاد من أجلك !" سأحتفظ به لنفسي، هنا، بمقربة مني، بمعيتي". تختنق العبرات في حنجرتها لتنفجر في صيحة متحسّرة: "القهّار"، تعود من بعدها لتحريك حبات المسبحة "القهّار"، تسع وتسعون "قهّار".



..."أنا خائفة" ! قالتها المرأة كمن يحتاج لتبرير خاطر وامض أو تعليل قرار وقر للتّوّ دون استجلاب أو تمحّك، ودون أن يُلاقي استنجادها أي إجابة. تُطرق برأسها مكرّرة "أنا خائفة وأنت !" تنظر إلى أسفل باحثة عن شيء ما. قد تكون تتخيّر كلماتها، أو تستجمع القدرة على التجرؤ على لفظها. تعثر على ضالتها. تتمثل العبارة لتنطق بها: "لم أعد أستطيع أن أقدّم لك أي شيء، أظن أن كل شيء قد انتهي". تصمت مجدّدا ثم تنشئ في عجلة من أمرها: "يبدو أن الحي سيتحول إلى خط متقدّم لجبهة القتال الدائر بين الفصائل". "أتصور أنك على علم بجليّة الأمر، أليس كذلك ؟ تصمت برهة لتسترجع قواها ثم تعود مؤكدة: "أخوتك أيضا يعلمون بذلك ! أفهم الآن لماذا هجروا هذا المكان. لقد فضلوا التخلي عنّا الأنذال !
لم يشاءوا أخذي معهم لأنك لا زلت بقيد الحياة ! لو..." تبتلع ريقها وغبنها أيضا. ثم تعود بنبرة أقل إصرار: "كان بإمكان الأشياء أن تكون مختلفة لو...صادف أن قُتلت". يُعلق تفكيرها، تتردد، ثم تنشئ بعد أن تأخذ نفسا طويلا: "كان بإمكان أحدهم التزوج بي ! يغيّر تهكمها الداخلي نبرة صوتها: "أجزم أن جميعهم يفضل أن يراك ميتا، على أن يتحمّلوا مشاهدتك على هذه الصورة". ترتعش: "كان ذلك سيسهّل عليهم...مضاجعتي دونما وخز ضمير!" قالت ذلك ثم انطلقت فارة كالسهم من الغرفة. تزايد وقع خطاها جيئة وذهابا من دون هدف محدّد بين طرفي الفناء، لكأنها تبحث عن شيء ليس بوسعها المسك به. قد يكون استعادة هدوئها، لا بل عودة السكينة إلى خُلدها.
تعود أدراجها بجسم مرتجف نحو الغرفة. تتقدم باتجاه الرجل لتستكمل ما كانت بصدد الخوض فيه: "كان أخوتك دوما يُبدون رغبة مكدودة في مضاجعتي ! هم..." تبتعد قليلا ثم تقترب: "كانت أعينهم طيلة سنوات تغيّبك الثلاث تتفي مواضع الإثارة في جسدي على الدوام... يسترقون النظر إلى عراء جسمي من نافذة الحمام الصغيرة، يمارسون الاستمناء ! يفعلون ذلك في الليل كما في النهار". ترتعش شفتاها وتتحرك يداها في الهواء لتلمس شعرها وتختفي في طيات فستانها. تضيع خطاها في الخطوط الكالحة لبساط الغرفة. "يستمنون...أتتصور !". تغادر على وقع هذه الكلمات مغتاظة مجددا الغرفة لكي تنفس هواء نقي يهدئ ما انتابها من فرط الغضب.
"الأوغاد ! السفلة !" تصيح لاعنة، ثم وبسرعة تُسمع دموعها المتوسلة: "ما الذي أنا بصدد التفوّه به؟ ! ما الذي دهاني حتى أصارحك بكل هذا؟ ! ساعدني يا إلهي، أضحيت لا أقوى عن كتم ما بداخلي ولجم لساني عن التلفظ به ! يلفها رداء الصمت.
تعود إلى الغرفة مضطربة الشعر شاخصة المآقي. تتهالك قبالة رأس الرجل ثم تطفق معترفة: "لا أدري ما يحصل لي، أشعر أن قواي تخور يوما بعد يوم، وإيماني بعودتك مجددا إلى الحياة أيضا. عليك أن تفهمني". تمرّر يدها على الوجه بحنان: "أرجو أن تكون قادرا على التفكير، أن تكون حيّا، مصغيا لما أبوح به إليك...". تسند ظهرها إلى الحائط، يمر وقت طويل مداه عشرة دورات بتقويم المسبحة، لكأنها بصدد تحريك الحبات على وقع أنفاس الـمُسجى، لتعود مشحونة بذكريات جديدة: "لم تكن تستمع إليّ أبدا لم تكن تعير اهتماما لما أقول. لم يسبق لنا أن تحدثنا مطلقا بهذا الشكل ! مرّ الآن على زواجنا عشر سنوات، لم نعش خلالها سويّة غير سنتين أو ثلاث أليس كذلك؟ "تحسب في سرها: "نعم بالفعل مذ تزوجنا مرت عشر سنوات ونصف. الآن أصبحت قادرة على عدّها. الآن ألفيتني متيقظة لما يدور حولي ! ترتسم على وجهها ضحكة صفراء قصيرة تعوّض ألف كلمة وكلمة يُستشف من خلالها التعبير عن الندم البليغ والحسرة الحَرَّة...
تباغتها الذكريات مجدّدا: "في تلك الفترة لم أكن أتساءل بشأن غيباتك المتكرّرة الطويلة. كان ذلك يبدو لي طبيعيا ! كنت تذهب إلى الجبهة لتقاتل باسم الله من أجل الحرية. كان ذلك كاف لتبرير كل شيء. كان ذلك يعضد رجائي ويملأني فخرا. كنت حاضرا بشكل ما معنا، وفي كل فرد منّا".
تبدو أعينها وكأنها تثقب الزمن لتنغمس عميقا في ذكرياتها: "زارتنا ولدتك تدفع صدرها المنتفخ أمامها طالبة يد أختي الوسطى، اعتُذر لها بأن الدور علي أنا، وأن موعد خطبة أختي لم يحن بعد، فأجابت: "جيّد، لا ضير، نخطب من أتى عليها الدور ! " وجّهت إصبعها السمين باتجاهي فأصابني الاضطراب ودلقت آنية الشاي عند القيام بصبّه. تُخفي لفرط ما تملّكها من الخجل وجهها بين راحتيها، مُقصية عن ذاكرتها وجه حماتها المتهكّم من تصرّفها بسفور. سارع والدي لقبول عرض الخطبة دون أن يبدي التحفظ أو التردد، بينما لم تكن أنت تعلم بأي شيء طبعا.
على النقيض من والدتك كان أبوك عطوفا يلقي على مساعي جميل الأشعار ويقص عليّ أحلى الحكايات، يعلمني القراءة والكتابة، يحثني على التفكير. كان يحبني على قدر المكانة التي حللت أنت بها في قلبه. كان فخور بك لأنك كنت تقاتل من أجل الحرية. لم يتغير قلبه عليك أو على إخوتك إلا بعد أن تحرّرت البلاد والتحقتم تقاتلون ضمن الفصائل من أجل الاستئثار بالسلطة.
...خلال أيام الخطبة لم أكن أعرف شيئا عن الرجال، لم أكن أعرف شيئا عن الحياة الأزواج، لم يكن أمامي غير مثال والدي؟ ! وحده السمّان كان يشغل اهتمامه ويحظى بصادق محبته ! فكثيرا ما كان يقبّله بشغف وهو ما لم يكن يفعله، لا معنا ولا مع والدتنا أبدا. كنّا سبعة، سبع بنات فاقدات لحنان الأب".
تحدّق أعينها في سماء الغرفة لتهيم في طيران العصافير المهاجرة المثبّتة على الستائر، فيتبدّى لها والدها في جلسته المعهودة مرتديا إزاره، تُمسك يسراه السُمانة وتمسح أسفل بطنها قريبا من مواضعها الحساسة بحنو، فتتشمر لملُامساته أرجلها خارجة من بين أصابع يده، بينما تمسّح يمناه لساعات طويلة عنقها بطريقة شبِقة مخجلة. هو لا يُقلع عن فعل ذلك حتى عندما يجالس ضيوفه الذين يزورونه بالبيت. كان يعتبر ذلك طقسا تعبديا خاصا، مفتخرا بسمانه ملامسا أعضائه بتلك الطريقة المقرفة.
لن أنسى دهشة الطفلة في داخلي عندما رمقَت والدها يفتح سراويله مخفيا بين فخذيه في يوم من أيام الشتاء الباردة فرد سُمًّان. لشد ما اعتقدت بعد ذلك ولزمن طويل أن جميع الرجال يحملون سمانة بين فخذيهم. يضحكني كثيرا تذكّر مثل ذلك المشهد، علّك تفهم الآن مقدار استيائي حال سقوط ناظريّ أول مرة على مواضع فحولك !" تعترضها ابتسامة تضع حدّا لتدفق ذكرياتها، فتغمض لمرورها أجفانها.
...مع جميع ما اعترفت به لك البارحة ستقول قطعا أنني لم أكن منذ صباي سوى شيطانة صغيرة. شيطانة في أعين والدي. تلامس يدها بهدوء وحنو ذراع زوجها: "لكن بالنسبة لك أنت لم أكن على تلك الشاكلة، أليس كذلك؟" تحرك رأسها علامة على الإنعام: "بلا...قد أكون فعلا..."
يخيم على الغرفة صمت ثقيل ملؤه شكّ وحيرة: "جميع ما قمت به كان من أجلك...من أجل أن احتفظ بك". تتسحّب يدها الموضوعة فوق صدر الرجل. "لا، لا بل من أجل أن تحتفظ أنت بي. أن لا تتخلى عني. من أجل ذلك فعلت..."
ينقطع حبل كلامها، يتكور جسمها وينكمش على الحائط حذو زوجها المسجى. "قمت بكل شيء من أجل أن تحتفظ أنت بي، لا، ليس لأني أحبك فحسب بل لكي لا تتخلى عني. لم يعد لي أحد سواك، الجميع كان مستعد لتشريدي. "أعترف الآن أني لم أكن متأكدة من عواطفي تجاهك. في البداية كنت أتساءل هل من المعقول أن يُبادَل بطل مثلك العواطف معي؟ كان الأمر يبدو لي حُلُمًا ليس من اليسير تجسيمه في الواقع. حاولت خلال ثلاث سنوات أن أحبك...ثم رجعت من الواجهة أخيرا. تسحّبت إلى فراشي، علوت جسدي، احتككت به...دون أن تطال ما حرّقك من رغبة ! لم تنبس ببنت شفة. كنّا في ظلام دامس وكان قلبانا يخفقان بشدة، أنفاسنا لاهثة وجسدانا ينضحان عرقا..."
لم تعد تشعر بالوجود. أغلقت عينيها كي تسحب هذا الجسد المسجى قبالتها الفاقد لكل حراك عن ناظريها. استغرقت بالكلية في ذكريات تلك الليلة، بينما تصاعدت في أعماقها رغبتها العطشى. بقيت على تلك الشاكلة برهة صامتة عن الكلام جامدة عن كل حركة.
..."أشعر أنه مُذ حوَّلَتْك الحادثة إلى جسد مُسجى قبالتي، مُذ أصبحت أستطيع أن أتحدث بحرية، أن أتحدث إليك أنت بالذات، أعبّر لك عن غضبي، أشتُمك، أحمّل صمتك المصغي إليّ عبأ أشجاني من دون أن أسمع منك جوابا، من دون أن يكون لك حَوْلُ على رد الفعل وتعنيفي...كل ذلك أضحى يريحني، يسكّن ثورتي المستشرية لهبا في عروقي".
تمسك الرجل من كتفه، لتطفق: "إن إحساسي بالارتياح، بالتخلّص من وزريّ الثقيل...رغما عن خطبي المرير، مرده استماعك لأسراري، مرده استماعك الصامت إلي". "ليست بالشيطانة". تتمدد أكتافها لتمسح بيديها لحية زوجها: "أنا أمتلك جسمك منذ اللحظة، وأنت تستمع في جلد لأسراري. أنت هنا من أجلي أنا. لا أعرف إن كنت تنظر إليّ أم لا، غير أني متأكدة أنك تسمعني وتفهّم ما أنفثه في خُلْدِكَ من أسرار. لهذا السبب لازلت على قيد الحياة، لأنك تعيش من أجلي أنا. قَدَرُكَ أن تصغي إليّ."
تحركه متابعة: "سترى، ستُعيدنك أسراري إلى الحياة، تماما مثلما تمكنت تلك الأسرار من تحريك "سُمانة" والدي. إنك تعيش منذ ثلاثة أسابيع برصاصة في العنق. لم يحصل أن شُوهد أمر مثل هذا قط ! لا أحد يستطيع أن يصدّق ! أنت لا تأكل، لا تشرب، لكنك على قيد الحياة ! إنها معجزة حقيقة. معجزة من أجلي أنا، بفضلي أنا وحدي. أنفاسك معلقة بأحاديثي، بأسراري". تثب بخفة في حركة رشيقة، ثم تقول: "لا تخشى شيئا فأسراري ليس لها من نهاية". تخترق كلماتها باب الغرفة: "منذ الآن لست على استعداد لخسارتك".
تعود إلى الغرفة مجدّدا لتملأ جراب الماء المحلى الـمُملّح المتدلي فوق رأس الرجل. "أخيرا عَقِلْتُها ! صدق ما قاله لي والدك حول ذلك الحجر المقدس. كان ذلك قبل نهاية أيامه بقليل. كنت أنت متغيّبا عنّا، كنت تقاتل على الجبهة كالعادة. منذ أشهر قليلة، قبل أن تصيبك تلك الرصاصة الملعونة، كان والدك مريضا، لم يكن هناك أحد غيري لكي يعتني به. كان مهوّسا بحجر عجيب. حجر أسود. كان يتحدث عن ذلك دون انقطاع...ماذا كان يُسميه؟" تغرس الخرطوم في حلق الرجل. "أتعرف ذلك الحجر الذي تضعه أمامك...تفرّغ له أحزانك، تشكيه مصابك، أوجاعك، آلامك، بؤسك...تبوح له بما تدسه عميقا في صدرك ولا تستطيع أن تكاشف به أحدا. تضبط نسق نزول القطرات في خرطوم الجراب: "تكلّمه، وتكلّمه، والحجر يستمع ويمّتص كقطعة نشاف كلماتك، جميع أسرارك إلى أن يمتلئ، ينتفخ، ثم تنفلق شضياه في يوم من الأيام". تنظّف أعين زوجها، تسكب قطرات الدواء: "يومها تشعر بارتياح تام، تتخلّص من آلامك وأحزانك...كيف كان يسمى ذلك الحجر؟" تبسّط تجاعيد الغطاء بعناية: "قبل وفاته بقليل دعاني والدك أجلسني حذوه وأسرّ: بنيتي لقد زارني ملاك الموت وسادن الأرواح مصحوبا بالملاك جبريل، كاشفني بسر عظيم أبوح به اليوم إليك. أنا أعرف الآن مكان ذلك الحجر. هو في الكعبة المكّية عند بيت الله. أنت تعرفين يقينا ذلك الحجر الأسود الذي يطوف حوله ملايين الحجاج أيام العيد. ليس ذلك في الحقيقة سوى حجر. في البدء كان كرسيا لآدم...ولما أطرد آدم بمعية حواه من جنتهما، أنزل الله ذلك الحجر لكي يتخلّص أبناء آدم بمصارحته من آلامهم...ذات ذاك الحجر قدّمه جبريل هدية إلى هاجر أم إسماعيل كي تتوسده بعد أن شرّدها إبراهيم وهامت على وجهها بمعية رضيعها في الصحراء...بَلَا هو حجر المستضعفين جميعا. توجهي بنيتي إلى هناك، بوحي لذلك الحجر بأسرارك كي ينفلق لسماعها فتتخلصي من أوزارك، تحرّري ذاتك، تُهجِعي في ضَجْعَتك". يكتسح لون الحزن الرمادي شفتيها، وتستغرق برهة في حزنها المَهِيب.
تواصل الحديث بعد ذلك بصوت متحشرج: "منذ قرون مديدة يتوجه الحجاج إلى مكة للطواف والعبادة حول ذلك الحجر. أنا مُتعجبة حقيقة من عدم انفجاره بعد جميع ما استمع إليه من أحزان وأصغى إليه من آلام ؟ !" تغشاها ضحكة لئيمة تتغيّر لها نبرة صوتها وتعيد لشفتيها لونهما الأصلي: "سينفجر ذلك الحجر قطعا في يوم من الأيام، سيكون ذلك اليوم نهاية لحياة البشرية أو يوم قيامتها على الحقيقة."
...تلتقط بُرْقعها. تندفع الكلمات من فمها تقفز بجنون: "حجر الصبر، ذاك اسم ذلك الحجر، حجر الصبر هو اسم ذلك الحجر العجيب ! تنحني قريبا من زوجها المسجى مُسرّة:" بَلَا، أنت، أنت حجر صبري ! "تُمرر يدها بعطف، لكأنها تلامس حجرا ثمينا. "سأبوح لك بكل شيء يا حجر صبري، بكل شيء علّني أتخلص من آلامي، من أحزاني، وعلّك... " تصمت عن البقية تاركة لخيال الزوج المسجى استكمال بقية الصورة. تغادر الغرفة، تغادر الفناء، تغادر البيت

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire