samedi 11 février 2012

مقام الصبر وأحوال الهذيان




"أنا بوذي لعميق وعي بضعفي، مسيحي لاعترافي به، يهودي لسخريتي منه، مسلما حال مجاهدتي له، نفاتي كلما حُنطت صورة الله في مطلق القضاء والقدر". هكذا حدّد "عتيق رحيمي" الشاعر والروائي والمخرج السينمائي الأفغاني طبيعة العلاقة التي ربطته كمبدع وكإنسان بالدين. وفد "رجل الظل" من كابول الأفغانية بعد أن حوّلها "طالبان" إلى مقبرة أشباح يتولى أمرها المعمّمون والملالي تجار السلاح والمخدرات. لجأ إلى فرنسا وأقام بباريس حاملا معه مشاهد مفزعة عن مطلق الدمار وعميق الاحتياج.
اعتمال تلك المشاهد في مصادفة نادرة مع تكوين افتراقي مزج بين صنوف من المعارف والفنون والآداب، هو ما أعاد تشكيل ذائقته بطريقة طريفة مجددة غير منتظرة. ليس هيّنا أن يمزج العارف بظروف الأفغان بين حكمة الشرق ممثلة في تأملات الحكماء وقصائد كبار الشعراء وأساطير الأنبياء ومواعظ المتصوّفة وعقل الغرب بعد أن أعاد الإحياء تشكيله واستحكمت على مضمونه توجهات فلاسفة الأنوار. وحدها المصادفة كانت قادرة على أن تقارب ومنذ سنوات شبيبته الأولى عميقا وفي تجاويف لا وعيه بين "هيروشيما حبيبتي" لمارغريت دوراس و"عشيقها" أيضا، وحكايات أكبر المتصوفة الأفغان "بهاء الذين مجروح" ومواعظه المنقولة ضمن آثاره المعروفة "كالتنين الداخلي".
من شعر التصوّف استلهم "عتيق رحيمي" مجمل الاستعارات التي مكّنته من إدراك العالم في امتداده، مع رغبة جامحة في التعرّف على ساكنيه والتنقل بين أرجائه قصد استجلاء غيرياته في تقاربها وتباعدها، في تآلفها وتضادها في عَنَتِهَا وتسامحها، ومن قراءاته لـ"نيتشه" و"يونغ" و"فرويد" تفطن لمجاهل اللاوعي محاولا فك ألغازها معوّلا على جميع أشكال التعبير التي تتيحها سهولة الانتقال لديه بين فن الرواية المشيّدة على جمال اللفظ وسلاسة العبارة وإستيتيقا المشاهد المستندة على ملكة الكتابة السينمائية وتقنياتها.
تنبجس الحكاية من رحم الواقع لتنعكس على سطح أحاسيس ناقلها، حكاية لانقطاع تيار التواصل بين زوجين انقلبت حياتهما فجأة إلى مأساة فاجعة وضعت حدا لمسيرة إبداعية ونضالية يافعة عاينها رحيمي في "نادية أنجومان" تلك الشاعرة الأفغانية الملهمة التي واجهت مصيرها المأسوي ببسالة ولم يجاوز سنها الخامسة والعشرين ربيعا. كان عتيق يتهيأ لحضور ندوة أدبية نظمتها صديقته الشابة بـ"هيرات" غربي أفغانستان لما وصله نعي من عشق قصائدها وبدا له أن حرصها الشديد على التعامل بنديّة مع غيرها وامتلاك مطلق مصيرها هو الذي جرّها إلى حتفها.
زلزلته الحادثة فتوجه إلى المرتفعات الأفغانية يبتغي قولا فصلا في أسباب حصول الخطب، فصادفه زوج فاقد لوعيه بعد أن حقن وهو في سجنه البنزين في شرايينه ليختلط مع دورة الدم داخل جسمه. أبكم كسيح مُسجى لا يقدر على شيء. لو كنت امرأة للازمته لكي أرغامه على الإصغاء إلى ما ضاق صدري بحمله. قالها عتيق رحيمي في خلده، ثم عاد من حيث أتى يحمل لعنة الفاجعة التي لم يجد لها أي مبرر منطقي.
حكاية تحتاج إلى مواجهة الذات في مناجاة، تتنكب هذيانا مخبولا إفصاحا عما صدأ من حرمان وما تراكم من حسرة في أعماق الذات. "حجر الصبر" حكاية امرأة لازمت جسد زوجها المجاهد الجريح المسجى قبالتها، تناجيه بصوت هادئ يتحول تدرّجا إلى هذيان ليكشف عن عذابات العنف والجهل المسلط عليها، المولّد لتمردها، المعبِّر عن تشوّفها للحب وتعطشها لإشباع ما اعتمل داخلها من رغبة دفينة.
لم يكن يعرف شيئا عن حياة هذين الزوجين لكنه كان يتساءل عمّا يمكن أن يدفع رجلا أعمت بصيرته الغيرة وأزرت به التناقضات حتى يلجأ إلى تبريح حبيبته وزوجته وأم أبنائه ضربا حتى الموت؟ أي شيطان من شياطين الإنس والجن تملّكه قاصفا روحه وروحها حال تيقّنه من مغادرة الحياة لجسدها؟ أعوزت رحيمي القدرة على ولوج وجدان الرجل المسجّى قبالته، فباغته تلبّس المرأة بأغوار وجدانه ليتحدّث على لسانها ويكشف عن عميق جراحها. كان لابد أن يكون راويته صامتا لا حراك به، تماما مثل زوج "نادية أنجومان" الذي صدمته عيناه الشاخصتان المسمرتان في سقف غرفة مستشفى السجن بالجبال الأفغانية.
ليس له أن يستند إلى أي تحليل نفسي، عليه أن يسجل فقط ما يرى وما يسمع. يُسْلِمَ نفسه لامرأة تنطق على لسانه. عليه الغوص بعيدا في تجاويف ثقافتيه الفارسية والغربية ليحوّل تلك الحادثة الفاجعة إلى نشيد جنائزي مهيب الطالع، عنيف الوقع خالص البراءة أوبراليّ الصدى. اشتداد للرؤية مع اقتصاد في العبارة، ندرة للظرف وغياب للنعوت.
"حجر الصبر" رواية تدور في فضاء مغلق يشحذ ذاكرة تستدعي الصور رُغما عن أنفها، عازلة الأصوات المركّبة مستحضرة المنصهر فيها أو المنشدّ إليها. تقطيع المشاهد جاهز في هذه الرواية وكذا التعليمات التي ستقدم للممثلين قبل التجسيم المشاهد، فعتيق رحيمي مخرج بارع سبق له اللعب بالصور ضمن شريطه الحاصل على جائزة دورة 2004 لمهرجان كان Cannes السينمائي، "أرض ورماد". هو مؤلف لفظ وصورة، يستجمع نحو الكلمات مقترحا خرافته وفقا لكتابتي الكلمة والصورة. قلة قليلة من المؤلفين يمتلكون تلك الموهبة، إزائها نستذكر "برغمان " و"بريسون " و"كيبريك " وبازوليني ". على شاكلة هؤلاء يبدو رحيمي ملتزما بما ينجز، واعيا باختراق السياسي ضرورة نبض خرافاته. لكن هل استحضار صور الحرب وإطباق الجهل وسيطرة العنف وانفراط عقد المحبّة بما هو فعل إنساني مقصور عن السياسية وحدها ؟ لقد كان "ألبير كامو" محقا عندما اعتبر أن فعل الكتابة ملزم وشديد التوريط في آن. لا يتهيب رحيمي عن تعرية البربرية بالعبارة والصورة في آن. ففي التقليد الشفوي وكذا في متقن الشعر الأفغاني تُدرَك الألفاظ وفق أُوَلِ معانيها. ألم يؤثر عن أولئك الشعراء قولهم "ضع فيك فوق فمي واترك لساني يحدثك عن الحب". ليس ذاك في شرع العارفين استحثاث لشبق أو إيغال في إشباع اللذة، ففي لغة الفرس يحل لفظ الجسم نفس موقع الروح معنى ومنتهى. وحده الإسلام أوجب الفصل في اللفظ بين الأمرين بعد انتشاره.
ألا نستطيع وفق هذا التصوّر الفارسي المشكّل لحقيقة التباس الروح بالجسد، تعقّل بلاغة مقولة "أنتونان أرتو" "من الجسد بواسطة الجسد مع الجسد انطلاقا من الجسد وحتى الجسد"
« Du corps par le corps avec le corps depuis le corps et jusqu'au corps » .
يستقيم أن تُقرأ مقولة "أرتو" هذه بطريقتين متباينتين إما على سبيل النسك أو من بوابة الشبق، فما هناك من تناقض بين الروح والجسد في الثقافات الهندية-الفارسية. كما أن الحكاية في التراث الشعري أو الأدبي الأفغاني لا تملك موعظة أخلاقية توصد دلالتها بشكل نهائي، لأن لب الحكايات ومنتهى إجاباتها موكول بمدى قدرة المتلقي على فهم التسلسل أصلا.
يمزج رحيمي في كتابته الأدبية وأعماله السينمائية بحنكة وتبصّر بين أدوات الرواية كجنس أدبي تفتقت عليه ثقافة الغرب عندما يقص حكاياته دون ما حاجة للاستعارة. غير أنه يستحضر في نفس الوقت وفي غواية دالة طقوس الحكاية الشرقية المعبئة صورا شعرية. ألم يعترف هو نفسه بأنه قد تعلم من "رمبو " و"بودلير" و"دوراس " كيفية التحرّر من قيود العبارة محوّلا ما تحويه الصفحة إلى فقرة وما تتضمنه الفقرة إلى جملة وما تنطوي عليه الجملة إلى كلمة. ألم يُسر لمن أبهرهم أسلوب قصّه أن العبارة في "حجر الصبر" قد تم نظمها على وقع ترقيم موسيقي توافق نغماته نجوى الكلمات حال الاستماع لقطعة "الضِعف" ضمن "نشيد البجعة " في موسيقى الألماني "فرنز شوبر" فجمل تلك القطعة القصيرة بأصواتها الصادية ومقاطعها الصامتة المهيبة قد تماثلت بطريقة مربكة مع النشيد الجنائزي الذي كان يحاول خطّه. ثم ألم يتبين له لاحقا ما حصل لـ"شوبر" الذي ثبت استلهامه لتلك القطعة من نص شعري يحمل مطلعه هذا البيت:
" هذا رجل شاخص مُسَمّر العينين في السقف" !
أليس الزوج المسجى المنقلب"حجر صبر" في رواية رحيمي، هو نفس ذلك الرجل الشاخص مُسَمَّر العينين في سقف غرفة الاعتراف والتطهّر؟

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire