mardi 21 février 2012

"مغــــرب المــتــصـوّفـة "







ما المقصود بـ "مغرب المتصوّفة" ؟ سؤال يواجهنا منذ البداية، حتى وإن درجنا على ترك عناوين الكتب جانبا وانصبّ تعريفنا بها على مضامينها. وهل تحتمل المميزات الناظمة لمجمل تاريخ مجال المغارب بعد بضعة قرون من الانتشار الإسلامي حضور التصوّف كعنصر ناظم لواقعه السياسي والاجتماعي والثقافي ؟
الخصوصيات التي ينجلي عنها المشهد الجغرافي والعمراني المغربي تجيب بطريقتها الخاصة عن هذا السؤال، إذ يستحيل أن يخلو موضع واحد مهما نأت به المسافات وتاهت به الطرق عن حضور ضريح أو روضة أو زاوية أو مشهد لشيخ من شيوخ الصلاح.
هذا التوازي بين التصوّف في مختلف مظاهره (الزهد، والمرابطة، والصلاح، والتزوّي، والطوائف، والطرق) لا يمكن أن لا يثير فضول الباحث أيا كان تخصّصه. فقد درجنا مغربا على التعامل مع التصوّف من زاوية علاقته بالدين وبالأحكام الفقهية للشريعة من وجهة نظر السنة المالكية، لذلك تلوّنت المحصلة التي اكتنـزتها الذاكرة كخطاب شفوي أو كخبر مكتوب حول التصوّف بالتباس المعنى وتأرجح وجهات النظر بين دونية التحقير وتضخيم الافتتان.
لم تتخط مواقف الدولة الوطنية ومثقفيها من ظاهرة التصوّف مغربا هاتين الطريقتين الغائمتين، حتى وإن شكّل المجهود الميداني المبذول من قبل المصالح الإدارة والعسكرية المستعمرة لتوصيف هذه الظاهرة وتفكيك كيفية انتظام مؤسساتها – بصرف النظر عن طبيعة المصالح المستهدفة من قبل تلك المصالح- طريقا سالكة، طُمست معالمها بالكامل بعد تصفية الاستعمار. كما أن البحث الأكاديمي المحكّم الذي تأثر على صعيد المنهج مغربا بتوجهات المدرستين الوضعية ثم الاقتصادية والاجتماعية، لم يكن بوسعه حتى أواسط ثمانينات القرن الماضي أن يعيد النظر في سلم أولوياته بعد أن حُسمت مواصفات النقد الشكلي للمصادر طبقا لمبدأ التّأكُد من موضوعية المعطى الخبري أثناء بناء القراءة التاريخية.
ومع بداية التسعينات كثر الحديث عن الفرد كفاعل اجتماعي وتاريخي وذلك بالتوازي مع تلاشي توازن الرعب وسقوط الستار الحديدي وتراجع أهمية الدولة الوطنية كجهاز ناظم لحياة المجتمعات، وعاشت "حرفة المؤرخ" سنوات من "التفتت" انفتح خلالها البحث التاريخي على الجوانب الثقافية والانتروبولوجية، فضلا عن الاهتمام بتاريخ الأديان المقارن وذلك قبل أن يُعَاد الاعتبار إلى التاريخ السياسي من بوابة ما سماه "التاريخ الجديد" فرنسيا بـالرهان البيوغرافي.
كرّس الاهتمام بالتصوّف إذن وداخل مجال المغارب رفعا لنوع من الحضْر على ركام من المصنفات والوثائق المبعثرة رُكنت لسنوات جانبا، وتأثرت سلبا بأشكال التعامل الفوقي (اجتزاء الخبر أو المعطى التاريخي). هذا إذا لم تُزهّد العروض البيوبيبليوغرافية في مضامينها، دافعة بالباحثين إلى تجاهلها وعدم الاكتراث بوجودها.
راهن "مغرب المتصوّفة" على مضمون هذه السّيَرِ المناقبية التي توجد على تماس المعرفة الدينية العالِـمة من جانب وما اكتنـزته الذائقة العامة في شكل موروث مشاع، وقاربتها في ذاتها مكافحا إياها بغيرها من الوثائق التاريخية. وضعت لتحقيق هذا الرهان خطة غطت أمدا زمنيا طويلا جاوز السبعة قرون، تم من خلال أقسامها التعرض إلى جذور الظاهرة وتفحص سير رموزها من أرباب التصوّف المؤسسين، وتفكيك تنظيمها الشبكي من خلال الاعتبار بمميزات الطرق الصوفية وتعيير نتوءاتها الاحتجاجية قبل موفى القرن السابع عشر الميلادي من خلال استعراض عينات مسارية مقارنة تخصّ ظاهرتي "الجذب" كتعبير عن الضيق بالواقع، و"الاحتجاج" الذي استفاد من آليات "الاحتساب" التقليدية المرتكزة غالبا على إدعاء "المهدوية".
استجاب التعامل مع سير الصلحاء لرغبة معلنة في توسيع مجال البحث التاريخي من خلال الانفتاح على مدونات مصدرية احتاج رفع الحضر المضروب عليها، تجاوز سلبياتها المتمثلة في تعمّد التلفيق وتشويه الخبر الموضوعي عبر توظيفه رمزيا قصد تضخيم وقعه النفسي على المتلقي وترجيح العبرة دون سواها. فمنطق السّيَر التي راهنّا على استنطاقها في ذاتها أو مكافحتها بغيرها من المصادر الأخرى من وجهة نظر البحث التاريخي تحديدا، لا يمكن أن يدور موضوعيا إلا حول الدور الذي تلعبه التُرَّهة الملفّقة في صنع الواقعة التاريخية اعتبارا إلى أن التاريخ لا تشكّله الوقائع المادية التي يُستَدل على حصولها بفحص اللُقى الأثرية وتوصيف المركبات المعمارية واستنطاق كتب الحوليات والأخبار والتبصّر بوثائق الأرشيف فحسب، بل تُستدعى في إدراك خفاياها مجمل الأحلام والأوهام والتمثّلات والرموز التي ساهمت في حصولها أو تقدّمتها أو نسلت من رحمها.
ما تم البحث عنه داخل تفاصيل هذه السير الانطباعية الموحية بسذاجة ناقليها وخواء وطاب متلقيها في آن، هو توضيح طبيعة الأدوار التي عادت لأرباب الصلاح في إعادة تركيب الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي لمجال المغارب طوال أمد زمني جسّر الفترتين الوسيطة والحديثة واستغرق سبعة قرون أو تزيد.
فقد شهد النصف الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي حلول الفصائل العربية وانتشارها على مجال المغارب مُعلنة بذلك بداية ما أسماه عبد الله العروي بـ"المعظلة الهلالية"، في حين عرف القرن السابع عشر تجلّي الدولة في مفهومها الترابي الحديث ودخولها مغربا في عملية "تحييز أو تمجيل" أعادت تركيب الواقع الاجتماعي والأدوار السياسية والتمثلات الثقافية في آن، محوّلة منظوري القبائل الممانعة إلى رعايا غارمين خاضعين لمشيئة الدولة.
هذه الصيرورة لم تخضع في تقديرنا مطلقا إلى عملية شدّ عنيف أو استقطاب ثنائي جسّمه الصراع بين "دولة المخزن" من ناحية والقبائل الممانعة أو "العاصية" لسلطتها من جانب ثان، فقد لعب الصلاح بتوجهاته التوفيقية السلسة وأسلوب "الاستتباع" الأفقي المبني على مفهوم "الصحبة" المعتمَد من قبل شيوخ الطوائف والطرق - وهو أسلوب دعا أربابه الكافة لتجديد "التوبة" تملّكا للإسلام وتحقيقا للخلاص، واقفين صراحة في صفّ المنتجين مُدعّمين آمال المستقرين - دورا محوريا في نزع فتيل المواجهة بدفع الأطراف المتصارعة إلى تغليب منطق التفاوض السلمي وتطوير أدوات اللعبة السياسية وقوانينها.
تحوم جميع السير المستحضرة ضمن "مغرب المتصوّفة" – بصرف النظر عن الاستدراكات الكثيرة لمؤلفيها – حول هذه المعاني تحديدا. لذلك تعقّبنا ضمن ما لفّقته مَرْوِياتها قصدا التجارب المسارية لأبطالها، وهي تجارب آثرنا على عكس غيرنا من الباحثين الحفاظ على السياقات المعتمدة في بنائها، كي يتفطن القارئ إلى الشُحنة الحسّية أو الوجدانية التي ينطوى عليها النسج الروائي ومفعول المروية الشفوية المنسجمة بالكامل مع طبيعة الذائقة الفكرية العامة أو القاعدية. إلا أن هذا التفضيل الشكلي لم يمنعنا منهجا من مكافحة المعطيات المنقولة ورصد التقاطعات بين مختلف السِّيَر وربطها بتفاصيل وخصوصيات الواقع التاريخي لمختلف المراحل المرصودة.
كما لم يَغْرُب عن بالنا ونحن نعالج مضمون تلك "السير" أن نحاول الاستفادة من النماذج المنهجية المتصلة بالبحوث الاجتماعية والأنتروبولوجية التاريخية. فقد جرّبنا الدخول على المدارس الصوفية المؤسسة مغربا كـ"المدينية" (المتأثرة بالقادرية) و"الشاذلية" و"الجزولية" و"الشابية"... من بوابة التحليل السوسيولوجي، مستدعين في ذلك نماذج بحثية ساهمت مقاربات الألمانيين "ماكس فيبر" وغورغ تسيمال Max Weber et Georg Simmel والفرنسيين "دجين" و"فورزي" Degènnes et Forsé والأمريكي "مارك لمباردي Mark Lambardi " في فتح أعيننا على قيمتها النظرية ومنتجها التطبيقي أيضا.
ساهم هذا التوجه في الحفاظ على النكهة الأدبية للنصوص المعتمدة، معيدا زيارة المسارات الفردية المعبأة لصلحاء المغارب في علاقتها بمحيطها وتنـزيلها من الإطار القِيَمِي الذي سُجنت داخله لقرون مديدة، إلى إطار ينفض الغبار عن مضمونها البشري دون التجني على رأس مال أصحابها الرمزي أو الكارسماتي". نحن إزاء بشر كباقي البشر يحالفه التوفيق حينا وتذهب به الأهواء مذاهب شتى أحيانا كثيرة، غير أن إصرار العديد من أولئك الرجال على "تشييد سد ما إزاء محيط لا يقاوم" تأسّيا ببطلة رواية "مارغريت دوراس Marguerite Duras "سد على المحيط الهادي Un barrage sur le pacifique"، هو الذي أفاض على تلك "السير" ألقا شديدا، محوّلا الشخصيات التي عرّفت بمسار حياتها ومضمون تجاربها الروحية والدنيوية إلى "متقاسم جمعي".
تعكس المرْوِية المناقبية بما تأصّل ضمنها من تلقائية ناقليها وعفوية متلقيها، تصّورات عامة الناس وقناعاتهم وتمثّـلاتهم واستيهامتهم، لذلك فإن مقاربة هذه النصوص لا يمكن أن تخرج بطائل إذا ما قُصرت الهمّة في البحث عن المعطى التاريخي، فاستمراء الخبر يُشكِل عنصرا ناظما لكل ذاكرة شفوية. لذلك فإن ما حاولنا استجلاءه من خلال استنطاق هذه "السير" لم يتجاوز البحث عن المنطق الداخلي للسرد في محاولة للكشف عمّا ترسّب في الذاكرة من تصوّرات حول تجارب أرباب التصوف والصلاح، وحقيقة الحَراك الذي أدخلته تلك التجارب على الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي داخل مجال المغارب طوال الفترة التاريخية المجسّرة للمرحلتين الوسيطة والحديثة.
والظن أن ما يمكن اختزاله كمحصلة لتوغلنا في سمك ظاهرة التصوّف مغربيا، ينتهي بنا إلى الاحتفاظ بجملة من الاستنتاجات نسجل من بينها:
• نجاعة "التزَوِي" ونقصد التوسّع في إنشاء الزوايا خلال الفترتين الوسيطة والحديثة في الحد من سيطرة الممانعة القبلية بعد اكتساح الفصائل العربية الهلالية لكامل مجال المغارب.
• توسيع الزوايا لآمال المستقرين والمنتجين من خلال ردّ الاعتبار للأنشطة الزراعية.
• تسهيل الزوايا لعملية التوغل بالبوادي، نشرا لأحكام الشرع وتوفيقا بينها وبين مقتضيات العرف والعادة.
• تلاقي مصالح مختلف الطوائف وتركيز اختياراتها الإستراتيجية على الحد من خطورة "الحرابة" ومواجهة الحضور الأجنبي على السواحل بعد انتعاش المد الطرقي.
• توصّل الطريقة الجزولية مغربا، وهي طريقة انتسبت إلى خط التصوّف الشاذلي، إلى تكوين كتلة تاريخية بالمدلول الغرامشي كان لها دور حاسم في توفّق الأشراف في بلوغ سدة الحكم بعد الاعتضاد بمؤسسات التصوّف إلى حدّ ادعاء الخروج من معطفها.
• تعبيـر "المولّـهين" من "مجاذيب الصوفية" عن الضيق بالواقع المأزوم وتجريب التمسّك بـ"الاحتساب" وادعاء "المهدوية" ومقصدها الاحتجاج سياسيا عن "الشرعية" الحاكمة، إثبات للتدرج في بناء مشروع الدولة الترابية.
• دفع الاحتقان السياسي والاجتماعي بدولة المخزن إلى إعادة هيكلة مؤسسات الصلاح وحصر أنشطتها في تصريف ما عاد لها من أملاك، فضلا عن تعهّد الأنشطة الخيرية والتظاهرات الدينية أو الروحية والثقافية.
تلك موضوعيا أبرز الاستنتاجات التي انتهينا إليها بخصوص مميزات التصوّف بمجال المغارب وتفحّص سير رموزه وتحديد الأدوار التي عادت لمؤسساته طوال أمد جسر الفترتين الوسيطة والحديثة. ولئن لم تخرج هذه المحصلة عن الشروط الناظمة لصناعة التاريخ مفضّلة الالتزام بمقوماتها والاستفادة من مكاسبها أيضا، فإن طبيعة المتن المصدري الذي وظفناه لمقاربتها قابلة لانجاز بحوث متنوعة، منها ما يتصل بالمأثورات التراثية اللامادية كمدونة الإنشاد وتوصيف الطقوس والاحتفالات التي تقام بأضرحة الأولياء من وجهة نظر أتنولوجية، ومنها ما ينفتح على الجوانب"الانتروبولوجية" المتصلة بالممارسات الدينية والثقافية السائدة، تحديدا لكيفية التثاقف وتَعْيِيرًا لمقومات التسوية أو اتجاهها العام نزولا إلى أسفل أو ارتقاء إلى أعلى.
وتعكس الأبحاث الميدانية المنجزة منذ موفى القرن التاسع عشر وطوال القرن الماضي (Westermarck, Bel, Doutée, Berque, Dermenghem, Gellner, Geertz, Eickelman… ) حصيلة معرفية لا تزال رغم التقييمات الموضوعة بشأنها بحاجة إلى مراجعات متأنية وفاحصة، تنشد الإنصاف وتُـموضع المجهود المعرفي ضمن إطار موضوعي، يجسّر علاقة سوية بتوجهاته المنهجيّة ونتائجه المعرفيّة. علاقة تسمح بتنـزيل ما تم تحقيقه من نتائج، وبصرف النظر عن الأهداف المتخفية ورائها، المكانة التي هي بها جديرة.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire