samedi 18 février 2012

مصابيح لم يكتشفها علاء الدين

"مربك ذلك "الافتراء" الذي يدعي أن حياة البشر
تعود إلى تاريخ أقدم من ظهور الوحي الإنجيلي"
"آلان شناب Alain schnapp"




مُوقِنٌ هو الإنسان أن الماضي يشكل شيئا منه، وأنه مكوّن جد حميمي لذاكرة الفرد والجماعة في آن، غير أنه مقتنع في نفس الوقت بضرورة ترك مجالا فسيحا ضمن حالة التذكّر تلك للنسيان، فاستحضار مآسي الماضي بشكل دائم بمقدوره أن يعوق التواصل الطبيعي للحياة.
يكابد المنقّب عن الآثار كما الباحث في الأتنوغرافية من أجل الحفاظ على مخلفات ضئيلة مهددة بالاندثار تكشف عن روح معمار يعود إلى أزمنة غابرة، أو تعمد إلى تجميع ما أضناه الزمن من لهجات وطقوس، باحثة عن أشخاص يمتلكون القدرة على التخاطب بتلك اللهجات وأداء تلك الطقوس، لذلك يتعقلان جيدا جسامة الصعوبات التي تعترض كل بحث هدفه تحقيق حالة من التوازن بين حضور الذكرى وضرورة النسيان.
ساهم الحرص على التذكّر في التأسيس لمختلف معارفنا الحديثة، وتدرج بالبشرية إلى اختراع التاريخ وتأصيل مختلف الممارسات المتصلة بما نسمه حاضرا بالبحث عن الآثار ودراسة المخلفات المادية التي تعود إلى أزمنة غابرة. ليس هناك إذن من إنسان قديم من دون حضور فاعل لذاكرة الحاضر. فعندما نكتشف أن بعض شعوب العالم القديم على غرار الأشوريين والبابليين مثلا كانت تعتقد أن مدلول الماضي هو ما يقع أمامنا وأن ما هو خلفنا يتعين أن يباغتنا ويضاعف حيرتنا، نستحضر تلك المقولة المتبصّرة التي أوردها عند مفتتح القرن السابع عشر الفيلسوف الانجليزي "فرانسيس بيكون Francis Bacon" لما اعتبر "آراءنا عن غابر الأزمنة مغلوطة لا تفي بالمعنى الدقيق لتلك الكلمة. فاستعادة ماضي العالم لا يتعين اعتبارها تكريسا للقِدم، والحال أن ذلك القِدم هو شأن ما نحياه حاضرا، فما القديم غير الفتوّة الغضّة التي جسمتها حياة من تقدّم علينا في الزمن". فالمتأخر زمنا هو بالضرورة والمنطق أيضا، أكبر سنا ممن تقدمه، لذلك فإن من نطلق عليهم نعت القدامى هم من كانوا محدثين حقيقة في كل شيء، علما أن ما تم التوصل إلى مراكمته عمّا كانوا يعرفونه وما خلفته لنا قرون مديدة من التجارب يدعونا إلى البحث عن القِدم في ذواتنا عوضا عن نسبه لغيرنا".
تبدو الذاكرة عنصرا بالغ الأهمية بالنسبة لحياة البشرية في جميع الأزمنة والعصور، لذلك فعندما نسم الأشخاص المتقدمين عنا بقِدمهم، فنحن لا نسقط في سوء التقدير فحسب، بل نتجاهل أن أولئك الأشخاص قد كان عليهم - مثلنا تماما - أن يتحملوا مسؤولية الحفاظ على الذاكرة. فالبيّن أن اكتشاف أحرف الكتابة بمصر وبلاد الرافدين والصين قد شكّل واقعيا بداية الرغبة في جمع مخلفات الماضي وربط الصلة بينها وبين الحاضر. كما أن الولوع بجمع تلك المخلّفات لا يمكن اعتباره اكتشافا حديثا، فقد كان ذلك أمرا مهمّا بالنسبة لأباطرة الزمن الماضي وكتّابهم، مثلما هو الشأن بالنسبة إلينا تماما.
الافتتان بجمع مخلفات الماضي:
تعتبر الذكرى بالنسبة لملوك الشرق القديم أداة لكسب شرعية سياسية ودينية هامة، لذلك أتقن كتّابهم استجلابها قصد توظيفها عند توافق الظرف وتأكد الحاجة. فقد كان على أولئك الكتبة أو المخبرين فك رموز خطوط الكتابات القديمة وترتيب تعاقب الأزمنة وتحديد أدواة التعامل مع مخلفات الماضي وأشكال احترامها وصيانتها من التلف، وجميعها مهام جسيمة كرست المدلول الرمزي الذي شكّله البناء والصيانة كرافد لمختلف المشاريع السياسية وسند قوي لها. ولأنهم كانوا على يقين من أن التعوّد على حسن عبادة الآلهة واتساقها، مظنة قوية لاتساق سلطة الساسة، فقد عمد كتبتهم إلى تطوير أشكال استكشاف مخلّفات القدامى ومباني تعبّدهم بغرض ربطها بالحاضر المجيد لأولي نعمتهم.
ومن الأمثلة الدالة عن الحضور القوي لتلك الممارسة قطعة الآجر المكتشفة بموقع "لرسا Larsa" بالعراق والمتضمنة لتصديق الملك "نابونيد Nabonide (556 - 539 ق.م) على ما حقّقه كتبته ومؤرخوه بخصوص كشفهم لدى إقامة معبد للآلهة للموقع القديم الذي شيّد عنده حامورابي 1792 – 1750 ق.م معابده، وهي حجة سامقة أثلجت صدر "نابونيد" وسمحت له ادعاء تناظر مرحلة حكمه مع الفترة الذهبية التي عاينت حكم "نابوختنصر Nabuchodonosor (605 – 562 ق.م)" لبلاد الرافدين، وهو أمر أُشر عليه بأحرف بارزة ربطا بالكيفية تلك، بين ماض تليد وحاضر مُشرق.
تفطن حكاّم الشرق القديم إذن إلى أن معرفة الماضي وعبادته هما من مشمولات السلطة ومتمّماتها، فتنافسوا في تشييد المعالم وتركوا مخلفات حصينة لم تمحوها غوائل الزمن وأرزائه. فقد شيد الفراعنة الأهرامات لإبراز سلطتهم للعيان وإخفاء ثرواتهم المصاحبة لرفاتهم عن أعين اللصوص والفضوليين أيضا.كما تحوّلت القبور إلى أمثلة مصغّرة غذّت وَهْم اتساق السلطة وتواصلها بعد الحياة. فقد نقل لنا المؤرخ الصيني "سيما كوييان Sima Quian" الذي عاش في القرن الثاني قبل الميلاد ما أقدم عليه "كين شيهيانغ Qin Shihuang" إمبراطور الصين خلال النصف الثاني من القرن الثالث قبل الميلاد، لمّا عمد إلى بناء ضريح فسيح مكّنه من تشكيل مثال مصغر لملكه. وهي أخبار أكدتها حاضرا الاكتشافات الأثرية الحاصلة بموقع "غزيان Xian" بالصين التي نفضت الغبار عن حضور مثل ذلك التقليد من خلال العثور على فيالق عسكرية من المنحوتات المغمورة، صُنعت بغرض توفير الحماية لمقامات أباطرة الصين الرمزية وأضرحتهم الأزلية.
لكن هل شكل الآجر والحجر والرخام أفضل الحصون للحفاظ على الذاكرة؟ لا يبدو الأمر على تلك الشاكلة فقد ارتفعت عديد الأصوات منذ زمن الإغريق الأوائل للدفاع عن توجه موازي. فقد اعتبر "بندار Pindare" مثلا، شاعر اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، أن أشعاره أهم بكثير من جميع المعالم التي تم تشيدها، لأنه كلما ردّدت الحناجر تلك الأشعار متغنّية بمضمونها، فإن ذلك الموروث هو الضامن حقيقة لاتساقها الأزلي المطاول في امتداده جميع المخلفات الصامتة الأخرى.
إزاء النقائش والنُصب والألواح والموائد المثبّتة في عميق الأرض بعناية، الـمُحتفية بإنجازات الملوك والحكام والأباطرة، فضّل الإغريق قدرة الذاكرة على الاستفادة من المعرفة الناتجة عن "التقصّي Historia "، الكاشف عما خفي، المميط للثام ما طاله الإخفاء الواقف في وجهه الحظر والإقصاء، مُبيّنين أن وضع مسافة نقدية بين الوثيقة ودارسها بمقدوره إضفاء المعقولية على صياغة المروية واستجلاب تفاصيل جديدة للخبر المنقول بالمكافحة، وهي مظنة للاشتغال بضرب من المعرفة وسم عندها بـ"التاريخ".
وفّر الإغريق والرومان لهذه المعرفة التي أحدثها "هيرودوت" منهجا ومحتوى خاصا بها، تضمن التثبت من صحة الوثيقة ونقدها ورصد التقاطعات بين مختلف الروايات من خلال المكافحة، مُتوصّلين إلى إكساب الرواية سياقا ومعقولية خاصين بها.
حرّرت ولادة التاريخ المخبرين والكتّاب من سطوة الملوك وضيق ممالكهم، فتوسعّوا على غرار "هيرودوت" و"ثوقديدس" في كتابة "تاريخ الإغريق والبربر" و"حروب" الرابطة الأثينية ضد خصومها. واحتاج انجاز تلك الحفريات ونقل تلك التواريخ إلى قاعدة وسند وجدته تلك الصناعة أو "الملكة" الجديدة، وفقا لعبارة ابن خلدون الرائقة، في مختلف المعارف التي كدّسها كتّاب القصور عند تأريخهم للنقائش وضبطهم للأخبار وجردهم أو توصيفهم الدقيقين للمخلفات وتدقيقهم في مركبات معمار المعالم.
هذا الافتتان الكبير بجرد مخلفات الماضي هو الذي دفع من انكبّوا على تقصّيها إلى بسط أسئلة جوهرية محيّرة اتصلت بطبيعة حياة الإنسان قبل وقوع الطوافين وبدايات الحضارة البشرية، مخمّنين أن الإنسان الأول قد قضّى حياته قنّاصا صائدا قاطفا، قبل أن يروّض وفي مبادرة فارقة عنصر النار. غير أن سيطرة التوحيد اليهودي- المسيحي على أشكال التعبد وانهيار الإمبراطورية الرومانية مع حلول القرن الخامس الميلادي، قد أجّلا التداول بشأن هذا النوع من الأسئلة في انتظار إعادة استكشافها مع حلول مرحلة الإحياء .

الإحياء يستعيد إرث العصور القديمة:

لم يتفطن الأوروبيون مع نهاية القرن الخامس عشر إلى الدور الجليل الذي لعبته روما كحاضرة رئيسية للعالم القديم فحسب، بل اكتشفوا من خلال ذلك طريقة مؤرخيها في استقصاء الأخبار وتمحيصها، من خلال المراوحة بين استنطاق المدونات والملاحظة الميدانية. كان بيترارك Pétrarque واحدا من أكبر الداعين إلى استكشاف مخلفات الحضارات القديمة، لذلك حقّ اعتبار جميع المولعين بجمع مخلفات الماضي بروما إبان مرحلة الاحياء ورثة لدعوته، ومؤسسين شرعيين لعلم النقائش والنقديات ومختلف التقنيات المتصلة بالحفريات الأثرية.
لم يكن المتبحّرون من أعلام القرون الوسطى يرون في المخلفات الأثرية والمعالم غير شواهد عن الماضي لا أدوات معرفية يمكن ضبط زمن إنجازها بعد جردها وتوصيفها. لذلك شكّل انكباب رجال الدين الايطاليين قبل غيرهم على فك رموز النقائش الرومانية وترتيب العملات زمنيا وتوصيف المعالم العمرانية لروما القديمة، تصوّرا جديدا للتعامل مع مخلفات الماضي سرعان ما تسرب بشكل واسع داخل بقية الممالك الأوروبية.
فقد ظهر في حدود القرن الخامس عشر وعبر أعمال Flavio Biondo وآثاره المكتوبة على غرار "تأسيس روما Roma Instaurata" وإيطاليا المصوّرة l’Italia illustrta منهجا غير مسبوق في استكشاف مخلفات الماضي تعوّدنا على تسميته حاضرا بـ"علم الآثار". ويتمثل ذلك المنهج في رواية أخبار التاريخ من خلال وصف المعالم وجرد المخلفات بعد ترتيبها زمنيا. وهو منهج تعود أصوله القديمة إلى "عالم الآثار اليوناني" "بوزانياس Pausanias" عاد إلى الظهور بقوة بعد أن عدمته القرون الوسطى، وذلك توافقا مع نوع جديد من حب الإطلاع ارتكز على العودة إلى الماضي القديم بغرض التبحّر في المعارف، لان استكشاف العالم من منظور من عاصروا تلك المرحلة بقى رهين المعرفة بمخلفات الماضي. فتأسيس علوم الحاضر وفنونه، لا يتأتّى من دون السيطرة على ما أدركه السابقون من معارف وفنون.
فرضت مدينة روما نفسها ضمن المشهد الجديد لمرحلة الإحياء لا لاختصاصها باحتضان مركز البابوية، بل لأنه كان على المتبحّرين وأهل الفن والمهندسين أن يتعاملوا مع موروث معماري ثرّ له حضور واضح ضمن المشهد الحضري، طرحت عملية صيانته العديد من المشاكل التقنية والمعرفية والجمالية غير المسبوقة. وهكذا لم تكن الملاحظة الأثرية المعرفية لمعالم روما القديمة مسألة تبحّر نظري أو عمل مقتصر على النشاط الذهني فحسب، بل شكّلت أيضا رهانا ماديا وتقنيا ورمزيا وجماليا أيضا.
لم يقتصر هذا الولوع بجمع مخلفات الماضي على المؤسسة البابوية بمدينة روما، بل توسع ليشمل جميع حواضر الممالك الأوروبية التي تنافس ملوكها على جمع التحف الفنية والمخلّفات الأثرية وتخصيص مساحات واسعة من قصورهم لعرضها والتباهي بامتلاكها. وابتكرت بلدان أوروبا بين 1550 و 1650 تقاليدها أو أنماطها الخاصة في تجميع مخلّفات الماضي وتحفه الفنية. والبيّن أن تطور المؤسسة الملكية مع ظهور حكم الإطلاق قد ساهما سويّة في تزايد اهتمام ملوك القارة الأوروبية بمخلفات العصور القديمة، غير أن ذلك الاهتمام قد بقي محصورا في المنافسة على التجميع المتْحفي ولم يفض مطلقا إلى التركيز على المعرفة الأثرية في حد ذاتها.
على أن ما شدّ انتباهنا ضمن تلك المنافسة القوية التي خاضتها كل من فرنسا وبريطانيا تحديدا في نهب مخلّفات حضارات الشرق القديم الثرية، هو غلبة التوجهات الخاصة والمبادرات الفردية ضمن رحلات الباحثين الانجليز، في حين غطت مبادرات المؤسسّة الملكية الفرنسية على باقي المبادرات في نفس الشأن. ولعل في هذا التمييز ما يحيل على فارق أساسي في التعامل مع مخلفات الماضي بين التصورين الفرنسي والبريطاني. فقد عاينت فرنسا تأسيس "الأكاديمية الصغرى"، تلك التي سرعان ما تحولت إلى "أكاديمية النقائش والآداب الجميلة L’Académie des Inscriptions et des Belles Lettres" وهي مؤسسة عمومية خصّصت لدراسة مخلّفات الماضي ووُضعت تحت تصرف المؤسسة الملكية.
وهكذا تحددت منذ نهاية النصف الأول من القرن السابع عشر تقريبا التوجهات القانونية الناظمة لممارسة جمع المخلفات التاريخية والمحافظة عليها فرنسيا. فحب الاطلاع على ما خلّفه القدامى على الطريقة الفرنسية لم يتخذ منحى ملموسا أو مباشرا على شاكلة ما عاينته ممالك أوروبا الشمالية، بل فضّلت مؤسسة الدولة إكسابه توجّها كونيا يتفق مع توجهاتها الرامية إلى مركزة للسلطة وادعاءاتها التوسّعية المدعومة بإيديولوجية تحضير بقية شعوب العالم.

مرحلة ما قبل التاريخ وإيديولوجية الإخلاص للأوطان:


ساهم بعث الأكاديميات العلمية وبروز الفكر الوطني والانقلابات الطارئة على نظام الـمُلكية بعد الثورة الفرنسية في إعادة صياغة طبيعة العلاقة بـ"حب الإطلاع التاريخي". غير أن بعث مدارس المهندسين والمتاحف المختصة في تاريخ الطبيعية وتحويل قصر اللوفر إلى متحف وطني، قد شكلت من جانبها عوامل إيجابية ساهمت بلا جدال في تطوير العلاقة بالبحوث المتّصلة بمخلفات العصور الماضية.
غير أن ما شكل خاصية الباحث الفرنسي في هذا المجال هو القطيعة مع الطريقة التي اعتمدت من قبل رجال الدين المسيحيين والفئات الأرستقراطية الح افظة في التعامل مع التاريخ بمدلوله الموسوعي والكوني. فقد تقعّد نموذج "الباحث الثوري" في مخلفات الماضي على التأسيس لعلم آثار فرنسي، وذلك عبر الاطلاع الواسع على مناهج ومنجزات أعلام المدرسة الأنجلو-سكسونية السابقين بغرض وضع تحقيب زمني يجرد خصوصيات مختلف الفترات السابقة بالتعويل على التنقيب والبحث الميداني وضبط المعطيات وتجميع العيّنات داخل مجال متصل بالتراب الوطني الفرنسي.
ولا يهدف هذا الولوع بالحفريات واستكشاف الحيّز الترابي الداخلي إلى تجميع التحف النادرة وفقا للافتتان الذي سلطته الأزمنة القديمة على المتخصصين في هذا المجال، بل إلى تعقّل كيفية تداول البشر على تلك الرقعة الجغرافية الموسومة بالتراب الوطني، إسهاما في تكوين جيل جديد من الأثريين المتشبعين بهذا الفكر والمخلصين له أيضا.
ومهما يكن من أمر هذه الدعاوى المغالية في الرفع من شأن الانتساب إلى الوطن وربط جميع مخلّفات الماضي بهذه الفكرة التي اتخذت شكل العقيدة الدينية أحيانا، فإن المعرفة الأثرية قد بقيت متأثرة بشكل سلبي طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر بعاملين هامين هما:
- الضبابية المتصلة بكل محاولة للغوص في مسألة أصول الانتظام البشري.
- وصعوبة الإقناع بضرورة تخطي التمثّلات الإنجيلية لنشوء، الكون تلك التي ترفض مجرد التفكير في إمكانية الانطلاق من خارج التصورات الطوفانية.
تمثلت العقبة الكأداء للباحثين في مخلفات الماضي في الخروج من "التحقيب الطوفاني chronologie diluvienne " قصد إكساب الاكتشافات الأثرية التي تطوّر نسق ظهورها بسرعة مذهلة سياقا تاريخيا ومعرفيّا يربطها بأمد زمني أطول يحيل على مرحلة سبقت التحقيب المسيحي بكثير، تنفتح على تاريخ الإنسان الأول. وتمثل الدور الرائد والمجدد الذي عاد للمدرسة الأثرية الاسكندينافية بزعامة "كريستيان يورغنسان تومسون Christian Jürgensen Thomson" في هذا الصدد في توسيع النظرة للعصور القديمة من خلال ترتيب المكتشفات وربطها بثلاثة محطات زمنية كبرى هي: العصور الحجرية والبرنزية والحديدية. وهو تحقيب تناغم مع إثبات وجود "أحفورات بشرية fossiles humains" متزامنة مع رصيفتها الحيوانية fossiles animaux ".



وهكذا يبدو اكتشاف هذا الحقل المعرفي الذي نسميه حاضرا بمرحلة "ما قبل التاريخ" ناتجا عن تضافر مجهود العديد من المدارس التاريخية والأثرية على غرار المدرسة الاسكندينافية والألمانية والبريطانية. ويعود تأخر فرنسا النسبي في هذا الميدان بالأساس إلى غياب الآليات القانونية الداعمة لمجهود المولعين بالنبش في الذاكرة الأثرية من "المنعمينmécènes " المنتسبين غربا إلى المؤسسات الدينية والفئات الأرستقراطية الممتلكة، وبالإضافة إلى ثرائها المادي لحسّ فني وزاد ثقافي واسع. علما أن مؤسسات الدولة الوطنية الفرنسية لم يكن بمقدورها وحتى تلك المرحلة التاريخية أن تحل محل المؤسسات الخاصة التي تراجع دورها بشكل ملحوظ بعد حصول الثورة. ومع ذلك فإنه يتعين التشديد على أن هذا السياق التاريخي تحديدا هو الذي عاين ربط الاستكشاف الأثري بمدلول وطني غير خافي توازى مع الأبعاد الإغريقية والرومانية والسلتية التقليدية.
تضافرت مختلف التطورات التي كنّا بصددها سامحة ببروز المعرفة الأثرية كعلم يهتم بدراسة كل ما يتصل بالعادات والتقاليد والموروثات القديمة، فدعي عندها كل مختص في هذا الميدان بـ"عالم آثار" أو بـ"مولع بجمع مخلفات الماضي antiquaire ". وتم الفصل في هذا الصدد بين عالم الآثار المكتشف للمواقع الأثرية القديمة archéologue والعارف بهندسة المعالم القديمة archéographie. لذلك نستطيع القول إجمالا أن علم الآثار الحديث هو وريث "عصر أنوار" القرن الثامن عشر، حتى وإن كان مدين للدول الوطنية الناشئة خلال القرن التاسع عشر بمختلف النصوص القانونية والترتيبية الناظمة لممارسته المساعدة على حسن تصنيف لُقاه بصيانتها والحفاظ عليها وتقنين عملية عرضها للعموم.
يتمثل تحدي الألفية الجديدة في تحويل مختلف مكونات هذا الرصيد القومي الضيق إلى موروث يتوافق مع مشترك الحياة الكونية وقيمها. ألم يكن الأشوريون والبابليون خلال يافع الأزمنة محقين تماما لما اعتبروا أن التاريخ الحقيقي يتعين أن يكون أمامنا لا خلفنا، بلا فما النبش في الماضي إلا إجابة بالمسافة على أسئلة الحاضر ولا شيء سواها.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire