mercredi 28 mars 2012

المؤرخ والجامعي التونسي لطفي عيسى الشعب التونسي حضر بجمال يوم 14 جانفي والحرية أكثر القيم اشتهاء تحت سمائنا







خارج الجمالية لا وجود للكتابة. الحياة كلّها بحث عن الجمال» كما يقول لطفي عيسى المؤرخ التونسي المهتم بالتاريخ المقارن لمجال المغارب. من مؤلفاته: «أخبار المناقب في المعجزة والكرمة، والتاريخ. (1993) و«مدخل لدراسة مميزات الذهنية المغاربية خلال القرن17» (1994) و«مغرب المتصوفة من القرن 10 الى القرن 17» (2005) و«كتاب السير» (2008)....
« الفعل الثــوري فــي حـدّ ذاته هــو فعل ينطوي على جمالية لأنه يقـــتضي حضورا، والحضور ضرب من ضروب الفن »، هذا ما أكّده لنا لطــفي عيسى في بداية هـذا الحوار الذي أجريناه معه في مقــهى يطلّ على هضبة بيرصة. حيث تنتـصب كنيسة سان لوي.
ـ لنبدأ، من فكرة أن الفعل الثوري هو فعل جمالي كما قلت... كيف تحلّل ما حدث في تونس؟
...كان من الضروري أن نكتشف في الشعب التونسي قدرته على الحضور بجمال، كما حدث يوم 14 جانفي كي نقتنع أننا إزاء لحظة فارقة من تاريخنا. جلّ الكتابات التي حاولت أن تقرأ في هذا الحضور لا تخلو من ديماغوجية... صحيح أن تملّك الاشياء غالبا ما يمرّ عبر التكرار ولكن ثمّة من التكرار ما هو غير مفيد، على غرار استدعاء الضحايا أو "الشهداء" والترحم الاضطراري بشكل ممجوج على أرواحهم. هذا الفعل يبني ذاكرة غريبة جدا. فالثورة هدفها الاسمى في اعتقادي هو ربطنا مجدّدا وفي موعد تاريخي فارق مع الحداثة بعد 23 عاما من التسطيح وردائة الذوق والفكر المعممين .
هذا اللقاء لابدّ أن نوفّر له جميع إمكانيات النجاح كي نجدّد العهد مع الحداثة في مدلولها الكوني، لابدّ أن نعي المسافة التي لازالت تفصلنا عنها، على كلّ الاصعدة، السياسي منها وغير السياسي. الظاهر الأن على السطح هو الحراك السياسي، ولكن هناك جوانب أخرى لها علاقة بالمجتمع والاقتصاد وكذلك بالمشترك الذهني.
ـ ماذا عن هذا المشترك الذهني؟

لو نترك الجانب السياسي الطاغي الأن لفاعليه ونحاول ان نفكّر قليلا في الجوانب الاخرى.
فمستوى الذهنيات مثلا صعيد حريّ أن نتعامل معه بنفس القدر من الجدية والنفعية خاصة. أغلبنا يعتقد ان ما يتصل بالذهنيات يحيل على مجال القيم، والقيم تبدو متعالية وأكثر من هذا مجرّدة بحيث لا تشغل غير اهتمام أولئك الذين يملكون القدرة على الخوض فيها.
ما يتم الاكتفاء به غالبا هو الحديث عن الاسلام أو مقايضة الحديث عن الذهنيات من خلال سجل التدّين الذي يبقى في المستوى الشخصي بينما القيم بمقدورها أن تكون مشتركة. في الحداثة هناك مجموعة من القيم الهامة، على غرار الحرية وهي من اكثر القيم اشتهاء تحت سمائنا.

ـ ما الذي يميّز الذهنية التونسية؟


المشهد الذهني في بلداننا، الان وهنا، أقصد المجال المغاربي تحديدا، لأن المشرق مجال آخر، المشهد الذهني حاليا مشغول بما يمكن أن نسميه ما بعد الاسلام، وليس بالاسلام.
ـ كيف؟ لو تفصّل لنا المسألة أكثر؟
أن نحيا وأن نكون في واقع نسميه بما بعد الاسلام يقتضي مجموعة من الشروط. ما بعد الاسلام، هو ليس بالضرورة شيئا يتماثل مع ما بعد الحداثة، لم نصل بعد الى مستوى الحداثة. نحن على أبواب الحداثة. الآن لا نستطيع أن نلغي حضور العامل الديني بعد كشوفات الحداثة في مجال علوم الانسان.
ما بعد الإسلام يتطلب جملة من الشروط هي أوّلا العيش بشكل مشترك أو الخضوع لشروط العيش المشترك، أو ما يسمى بالفرنسية(La sedentairisation) طبعا لا يتعلق الأمر ببادية أو مدينة لتحقق شرط الاستقرار.
الاستقرار من شروطه الاضطرار الى العيش مع الاخرين. وهو نتاج لوجود دولة ترابية تملك العنف الشرعي، غيابها ينفي الاستقرار. الاستقرار أصبح ظاهرة تلوّن المشهد السكاني، كونيّا. ومن تداعياته القبول بما نسميه الحلول التوافقية والتعوّد على المواضعات الاجتماعية، المهم بالاساس ليس التمسّك بسجلّ القيم مهما ارتفعت مكانتها في أذهاننا، بل القدرة على النجاح في الحياة العامة والشخصية. والنجاح يحتاج بالضرورة الى النفعية. النفعية تخرج بنا تماما من مجال التديّن كمشترك أخلاقي لتعيده الى المجال الشخصي.
الحدث المفصلي لـ 14 جانفي هو الحضور بجمال. الفرد بما هو فرد، المهمّ بالنسبة اليه هو الاعتراف،
.اعتراف المجموعة بأن مساره الشخصي يجسّد الوصول الى نتيجة إيجابية

الشرط الثاني في تصوري يتمثل في أنّ المدينة لم تعد الضامن الوحيد لسجلّ الضوابط قبل ذلك كانت الصورة التي تعكسها المدينة، هي واجهة الاسلام الرسمي. وكانت المدينة مقسومة بين النخب وتسمّى عالمة، لأنها قادرة على الفصل بين الحلال والحرام، أي تمتلك الضوابط وبين عامة الناس، الذين لا يستطيعون الفصل بين الأمرين وبالتالي هم محتاجون الى تلك النخب لتمثلها بالتكرار. النخب هي المؤتمنة شرعيا واجتماعيا على ترقية المجموعة في التصورالحداثي، تسمّى الترقية، التحرّر.
ومدلوله تحمل المسؤولية كاملة على جميع ما تقترف. ثقل هذا النوع من المسؤولية هو الذي يدفع الى الهروب الى الأمام والبحث عن الجنة المفقودة (الاحتماء بالعائلة مثلا مع القبول بما يتضمنه ذلك من وصاية...) والحال ان المسألة هي مسألة مسؤولية فردية وجماعية.
ـ ما هو الشرط الثالث لتحقق ما تسميه ما بعد الاسلام؟
العنصر الثالث هو علاقة المرأة بالمجال العمومي أو المشترك، وهو مجال الذي كان حكرا، في المجتمعات التقليدية على الرجال. يتعين أن نفرق بين هذا الحضور الاضطراري... وبين النضال النسوي.
وهو نضال معلن بينما الحضور الذي نتحدث عنه منبثّ داخل المشهد الاجتماعي. هناك كثير من المسؤوليات التي كانت تعود بشكل مطلق للرجل، أصبحت المرأة الان تتقاسمها بسبب حاجيات العيش المستقر، مثال الشغل، تربية الابناء (خصوصا مسألة من يأخذ القرار في التربية مما يعني المسؤولية في حالة فشل الاختيارات التربوية) والمعاملات البنكية، الشراءات المشتركة، الملكية المشتركة...
المشهد الاجتماعي تلوّن بمختلف هذه الحاجيات لذلك يصدق على هذا المشهد أن نصفه بأنه "ما بعد إسلامي". هذا لا يعني قطيعة مع الاسلام، بل تمثّلا جديدا للهوية العربية الاسلامية.
هناك مسافة يتعين قطعها سواء بالأسلوب النفعي أو بالعمل النضالي. المرأة التي تُقدم على تغيير عجلة السيارة بنفسها تنخرط عن وعي أو من دونه في نضالية غير معلنة هدفها ردم الهوّة بين وضعيتها كتابع ووضعيتها كشريكة.
...الشرط أو المقوّم الرابع؟
المقوّم الرابع والأخير يتعلق بمن كانوا سببا في حصول الثورة وهي شرائح شبابية ما بين 20 و30 سنة، تحدّرت عن جيل الاستقلال. هم منخرطون أيضا، في هذا المشهد الاجتماعي الذي وسمناه بما بعد إسلامي وهذا لا يعني أنهم معنيون بمشروع الحداثة. جيلي أنا وهو جيل الاستقلال مطالب بانجاح عملية تمكين الاجيال الجديدة من أخذ موقعها على الساحة العامة.
ـ الأبناء خائفون من أن يسرق الآباء منهم ثورتهم ويلاحظ أن استدعاء الجدّ قد شكل ضمانة ربما للوقوف حاجز ضدّ عودة اسبداد الاب ما تقول؟

عندما تم الاستقلال كان بورقيبة في العقد الخامس من عمره وجانب كبير ممن أحاطوا به لم يكن سنهم يتجاوز الاربعين عاما لذلك نجحت عملية المرور من إدارة أجنبية إلى إدارة ودولة تونسية لحما دما.
ـ ربما هناك من يحتج بأن الأبناء لا تزال تنقصهم التجربة وحتى الشهائد العلمية الضرورية؟
المسألة لا تتعلق بالنضج وبحضوره أو بغيابه بل المقصود هو الافق الزمني الذي يبني مشروعا جديدا. لا يستطيع من جاوز الخمسين أن يدّعي أنه طرف في إنشاء وتصوّر أفق جديد وتصوّر يكون هو طرفا في إنجازه. عكس هذا الادعاء يعني بالضرورة في ذهني سرقة حياة الاخرين. مشكلة الشباب الآن هي إحساسه بأن هناك من يريد أن يعيش حياته الخاصة بدلا عنه أن يأخذ زمانه. التناوب ضروري، وهذا التناوب هو ما يحول دون السرقة
والمصادرته. هذا الشعور لا يعني أن الأمر على تلك الشاكلة بالضرورة لكن وجوده له دلالة فيما يتعلق بصعوبات التناوب. كل إرجاء في هذا المستوى يشكّل حرمانا.
التعويض الذي وجده هؤلاء هو إعادة تشكيل الواقع، من خلال الافتراض، ونجح الشباب هنا كثيرا، لأنه على الصعيد الذاتي البحت، امتلك حداثة حقيقية ليست وليدة العلاقة بالكتاب أو بمقاعد الدراسة أو بالادمان على الاطلاع بشكل موسوعي أو بامتلاك ثقافة كلاسيكية. الجدّ على هذه الشاكلة هو نتاج ثقافة الكتاب بالاضافة الى تجربة عميقة مع الحياة. الجدّ رأيناه ينتقل من الكلاسيكي (القرآن الكريم، الحديث الحكمة، الشعر) الى الحداثي (بالعودة الى فلاسفة ومفكّري الغرب) فقد أشار السيد الباجي قايد السبسي الى الواقع الرهن معتبرا أن توفير الأمن هو من صميم تجسيم مبادئ الديمقراطية.
ـ كيف كان يعمل نظام أو "ماكينة" بن علي؟
في تجربة بن علي تم إقصاء الابن لفائدة الحفيد، أنظمة الوصاية التقليدية تعلي من قيمة الأحفاد، لأن الابناء غالبا ما يشكلون شخصياتهم في تعارض مع الاباء. هذه قاعدة اجتماعية فعوض المرور من 1 الى 2، نقفرّ من 1 الى 3. هناك دائما خانة رقميّة فارغة.
عبير موسى أو محمد الغرياني على سبيل المثال، بوصفهما شخصيتين سياسيتين لمرحلة ما قبل الثورة، هما نموذج صارخ لهذه القاعدة التي حكمت ولا تزال الأنظمة المستندة على الوصاية. فعبد العزيز بن ضياء الذي هو في أواخر عقده السبعيني على أقل تقدير يجد سهولة في التعاطي معهما ويجد صعوبة في التعاطي مع ابنائه السياسيين أو العلميين، فلا ننسى أنه درّس بالجامعة، لأنهم بنوا شخصياتهم في تمايز معه وكانوا نقيضا لشخصيته. في أنظمة الوصاية دائما هناك طرفا أو جيلا محروما أو يشعر بالحرمان. الآن نحن نريد ان نثبت حضور أفق حقيقي يتساوق مع جمالية حدث 14 جانفي. كنّا في وضعية انسداد أفق واليوم نفتح أفقا جديدا.
ـ ما الفارق الأهم بين جيل الآباء والأبناء؟

أصبح لدينا جيل شاب يتمثّل الواقع من وجهه نظر كونية حتى وإن كانت افتراضية، أي أن زاوية النظر وسلّم الخريطة قد عاين تغيّرا كاملا بل انقلابا حقيقيا. هذا لا يعني ان الجيل الجديد ليست له عقد مع الاخر الغربي. ولكن حظه الحقيقي في أنه توصل إلى التعامل مع الاخر على أساس الاشتراك في الانتساب النفعي الى العولمة (أي تقاسم المنافع التي يتيحها عالم مشبّك أو مغصّن). من فضّلوا استعمال وسائل غير شرعية للمرور الى الضفّة الاخرى عبر جزيرة لامبدوزا يحاولون تجاوز الشعور بالحرمان الذي أصابهم نتيجة غلق الافق، أي الاصرار على عدم مباشرة عملية التناوب بين الاجيال. هم فهموا جيّدا ان المطلوب هو الانخراط في المشهد الكوني قبل استيعاب مضمونه. بينما اعتقدنا نحن أن المطلوب هو بناء التكافؤ قبل الانخراط.
ـ فكرة الحضور لديك، تبدو أساسية ومهمة في مقاربة ما يحدث لو نعود اليها....
نحن في مرحلة ما بعد إسلامية بمعنى أن الحياة الجماعية لها قيمها التي يمكن أن تتوافق أو تتعارض مع القيم الاسلامية. وهذا التعارض لا يعني بالضرورة إعادة امتلاك قيم الحداثة.
خروج المرأة الى الساحة العامة أو حضورها الذي لا يعني بالضرورة نضالية معلنة، بل تلاؤم مع واقع جديد من شأنه ان يقلّص الهوة بين الوصاية المضروب عليها وبين وضعيتها المشتهاة كشريك.
واقع الاجيال الشابة يطرح هو ايضا سؤالا من نقس القبيل، ويحوّل النضالية الى حضور، وهذا الحضور بقطع النظر على شكله الافتراضي يعيد صياغة المشهد الاجتماعي من وجهة نظر ضرورة الربط بين الأجيال بطريقة صحيّة أن نمرّ من 1 الى 2 الى 3 الى 4... ودعم ممارسة القفز أو الاقصاء باسم جميع أشكال الوصاية وهذا اندراج في الحداثة.
ـ هل أنت متفائل أم متشائم بخصوص المستقبل؟
الضمانة الوحيدة لنجاح ما نحن بصدده أي نجاح الانتقال الديمقراطي وإمكانية الربط حقيقة مع الحداثة والقطع مع منطق الوصاية، هو الحفاظ على «جمالية الحضور» بالشكل الذي عبّرت به عن نفسها يوم 14 جانفي. ويعني ذلك القطع نهائيا مع كلّ الاستراتيجيات التي تستهدف شتم ذكاء التونسيين.
لا يتعين أن نركن مجددا إلى تصوّر أننا نحن الاذكياء والبقية مجرّد أغبياء يمكن توظيفهم للوصول الى غايات تلبس لبوس الحداثة أو التقوى، وهي في الحقيقة محاولة واعية أو غير واعية لإعادة انتاج نفس أنماط التفكير .
ـ كلمة أخيرة؟
الباب الأساسي الذي يدخل منه المجتمع التونسي الى الحداثة هو السعي إلى تطوير العلاقة التي نربطه حاضرا بالاسلام كمعيش وليس كديانة، يعني كمشترك ثقافي أو كهوية مشتركة.
الحداثة هي النظر بمسافة لروايات متعددة تشمل كيفية تمثل الوجود والواقع.البوعزيزي هو شهيد، ولكن شهيد ماذا؟ ثمة لدى ايمي سيزار استعارة مهمّة جدا، هي صورة القلم والممحاة، ما الشيء الذي يمكن ان تحتفظ به الذاكرة بخصوص شهادة البوعزيزي.
ما حصل للبوعزيزي هو غلق أفق تعنيف جسدي ورمزي، ولكن ألم يعنّف البوعزيزي هو أيضا أو ألم ينخرط البوعزيزي أيضا في منطق التعنيف هذا؟ هل حقيقة أن ردّه على تلك التي صادرت أدوات عمله قد تمثل في شتمها من وجهة نظر انتسابها الى الجنس الاخر!.
الى أي حدّ كان قراره بحرق نفسه نتيجة لتغييب الجنس الاخر، في المقهى الذي توجّه اليه. لو حضر الاختلاط في المكان العام الذي ذهب اليه لكان ذلك سببا كافيا لاقلاعه على اتخاذ مثل هذا القرار! المجتمع الذكوري هو الذي كان وراء فعلته كتعبير عن استرداد للذكورة المغدورة. إذن ليس انسداد الافق وحده الذي كان وراء رمزيّة شهادة البوعزيزي فحسب، بل سيطرة التمثلات الذكورية الإقصائية أيضا.
كلّ هذه الفرضيات هي حاضرا ما بين إمكانية الكتابة المحو، هل ستلغى مجمل هذه الروايات ولن نحتفظ في الذاكرة إلا بصورة البوعزيزي المستضعف أو البوعزيزي المطحون. نحن الآن مؤتمنون على ذاكرة وهذه الذاكرة تحتوي على تمثّلات متنافسة، متصارعة ومتعددة.


أجرى الحوار كمال الهلالي
2011 وصدر بجريدة الصحافة


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire