samedi 3 mars 2012

المحدث والقديم*


ثنائي غامض وملتبس




لئن توفرت جل الحضارات على ما يتماهى مع الثنائي المعروف "قديم ومحدث"، فإن حقيقة تمثّل ذلك الثنائي على الشاكلة التي نتعقلها حاضرا قد اتصلت واقعيا وبشكل لافت بتاريخ الغرب. فخلال الفترة السابقة للثورة الصناعية، تلك التي امتدت من القرن الخامس إلى القرن التاسع عشر أحال هذا الثنائي على تعارض ذي مدلول ثقافي برز بإلحاح منذ موفى القرون الوسطى، متواصلا على امتداد عصر الأنوار، على أن يتحول مع بروز مفهوم الحداثة عند أواسط القرن التاسع عشر إلى رد فعل ثقافي لم يخل في أحايين كثيرة من اللّبس، تم الاعتماد عليه في مواجهة التجاوزات أو السلبيات المترتبة على الطفرة الصناعية. تعمّم ذلك المدلول بين مختلف الأوساط الاجتماعية غربا طوال النصف الثاني من القرن العشرين، متمكّنا لاحقا وبعد تصفية الاستعمار من تجاوز المجال الغربي ليشمل ما وسم بالعالم الثالث من خلال انتشار فكرة التحديث المترتبة أصلا على الاحتكاك بالغرب.
نحن نعرف أن واقع التعارض بين القديم والمحدث قد نمى ضمن سياق ملتبس ومعقد في آن. فهاتان اللفظتان أو هذين المفهومين لم يكونا متعارضان فى مدلولهما مع معاني تتشابه معهما أو تقترب منهما: فغالبا ما أحال القديم على واقعة بعيدة تكونت لها بالتقادم علاقة متينة بالعرف أو التقليد، في حين أن المحدث كثيرا ما تناظر في مدلوله اللغوي مع قريب الوقائع وجديد الأحداث. كما أن كلتا اللفظتين قد ارتبط تطور استعمالهما بالعديد من المعاني، بعضها حمل شحنة إيجابية والآخر وُسم على عكس ذلك بميسم سلبي.
والمضنون بعد هذا أن لفظة محدث قد أحالت في اللغة اللاتينية المرتبطة بمرحلة العصور الوسطى المتأخرة بشكل مباشر على قريب الوقائع وجديد الأحداث، في حين أن كلمة قديم قد اتصلت من جانبها بما جد في الماضي، مرتبطة بشكل حصري وفي أذهان الغربيين مع حلول القرن السادس عشر بمدلول "العصور القديمة antiquité"، الذي سحب على مرحلة ما قبل انتشار المسيحية في العالم الإغريقي الروماني، تلك المرحلة التي امتدت على طول القرون الوسطى المتقدمة، متّسمة بتراجع الأوضاع الاقتصادية والديمغرافية والثقافية، مع معاينة انحسار للعبودية وامتداد للأنشطة الريفية. لذلك ما إن أنجز المتبحرون وعلى إثرهم الجامعيون غربا تقسيمهم الثلاثي لمختلف المراحل التاريخية خلال القرن السادس عشر (قديم، وسيط، حديث)، حتى تعارض ما وسم بالحديث ضمنها وعلى صعيد التمثّل الجمعي مع المرحلة الوسيطة لا مع سابقتها القديمة، تلك التي تحوّلت وعلى عكس ذلك إلى مصدر إلهام حقيقي بعد أن أُعيد استكشاف إبداعات الحضارتين اليونانية والرومانية ومكتسباتهما.
ومهما يكن من أمر فقد عاين انهيار الإمبراطورية الرومانية خلال القرن الخامس الميلادي انطلاق استعمال لفظة حديث، وتم إرساء التقسيم الثلاثي للمراحل التاريخية الكبرى قديم ووسيط وحديث، ضمن التحولات الفارقة التي شهدها القرن السادس عشر، في حين عادت لتيوفيل غوتي Théophile Gautier وبودلير Baudelaire مهمة إطلاق مفهوم الحداثة بفرنسا زمن الإمبراطورية الثانية وذلك بالتوازي مع تركيز دعائم الثورة الصناعية، بينما ساهم علماء الاقتصاد والاجتماع والسياسة في نشر ومناقشة فكرة التحديث في أعقاب الحرب العالمية الثانية وذلك ضمن سياق تاريخي اتسم بتصفية الاستعمار وانبثاق العالم الثالث.
إن دراسة مفهومي قديم ومحدث لا يمكن أن تتم إلا عبر تحليل مرحلة زمنية أفرزت فكرة الحداثة، منشئة في نفس الوقت، وحتى تضمن لنفسها القدرة على الحطّ من قيمة الحداثة أو على العكس من ذلك الرفع من شأوها والثناء عليها بجعلها متميزة ومتفردة ومخالفة لكل مألوف، مدلول العصور القديمة، علما أن ما كانت تأمل في حصوله من خلال وضعها موضع الصدارة أو التشديد عليها بشكل لافت هو تعزيز موقعها في الذهنيات، لا لعنها والحط من شأنها أو احتقارها.

مشاكلة الحديث : "الحديث و الجديد / الحديث والتقدّم




يفترض الجديد ولادة أو بداية ما، أخذت من منظور مسيحي الشكل المقدس للتعميد. فهي العهد الجديد والحياة الجديدة Vita Nova لدانتي Dante، تلك الحياة التي تنبعث حال العثور على المحبة.
يعني الجديد أكثر من قطيعة مع الماضي، فهو نسيان وفسخ وتغييب له في آن. ولئن تم اللعب في غضون القرن الثالث عشر على المدلول المزدوج للفظة novissimus والتي كانت تحيل على كل حادث جديد كما على طي بساط الكون، فأن لفظة novus قد حافظت على رمزيتها السحرية المتصلة بالطهر في الولادة الجديدة والخروج للتوّ. كما وجد المحدث نفسه مع حلول القرن الثالث عشر في مواجهة مع المدلول الذي حمله التقدم، لذلك فإن تعارضه مع الماضي قد احتل موقعا ضمن سياق تطوري إيجابي. غير أن ذلك المدلول وحال اتخاذه معني النعت والفعل في القرن التاسع عشر (في فعل تقدم ونعت تقدّمي) قد ساهم بلا جدال في توسيع انتشر استعمال لفظة حديث، تلك التي اتخذت ساعتها شحنة إيجابية.
وهكذا فقد وجدت لفظة حديث زمن الثورة الصناعية نفسها مطوّقة بين معنى كلمة جديد الذي لم تكن للمحدث سمة نقائه ولا شحنة براءته أيضا، وبين مضمون الحراك أو الدينامكية الذي حمله معنى لفظة تقدّمية، هذا بصرف النظر طبعا عن تعارضه الأزلي مع المدلول الذي اتخذته لفظة العصور القديمة بعد أن فقدت إبان نفس الفترة الكثير من نظارتها الأولى.
وعموما فقد ساهم عصر النهضة في تعطيل هذا الانبثاق الدوري لمدلول المحدث المتعارض مع العصور القديمة، فقد سحب على تلك العصور بشكل نهائي مدلولا يحيلها على الثقافة الوثنية الإغريقية الرومانية ويميّزها. لذلك لم يعد كل محدث ليحض بالتميّز إلا لدى تناظره مع مكتسبات العصور القديمة. وهو ما عناه فرنسوى رابلي François Rabelais تحديدا لدى احتفائه بتجديد جذوة الاهتمام بالمعارف القديمة من خلال مقولته المشهورة "الآن فقط تمكّنا من استعادة جميع المعارف والتخصصات القديمة...". مما ينجلي عن تحمّس المحدث حال تعبيره عن ذاته للقديم.
ويتعيّن أن ننتظر فترة ما قبل حصول الثورة الفرنسية بقليل حتى يتبنى عصر الأنوار فكرة التقدم دون وجل. ويضبط توكفيل Tocqueville موعد حصول ذلك التحوّل الحاسم بسنة 1780 ، حتى وإن ظهر مؤلف Turgot الذي حمل عنوان: "تأملات حول تاريخ تقدّم الفكر الإنساني" قبل ذلك بثلاثة عشريات على الأقل أي في حدود سنة 1749 على وجه التدقيق، وظهر النص البياني المعبّر بشكل قطعي عن الإيمان اللا محدود بالتقدم، ونقصد طبعا كتاب كوندورسي Condorcet "مختصر للوحة حول تقدم الفكر الإنساني"، سنوات قليلة قبل وفاته أي في حدود عام 1794. عند هذا التاريخ تحديدا تمكّن معاصرو الأنوار من تعويض فكرة الزمن الدائري التي تجعل من تفوّق القدامى على المحدثين أمرا بديهيا بفكرة التقدم الخطّي الـمُعليّة لقيمة المحدث على الدوام.
غيّرت الثورة الصناعية بشكل كلي طبيعة المواجهة بين القديم والمحدث سواء خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر أو طوال القرن العشرين. فقد برزت إبانها ثلاثة أقطاب جديدة للتطوّر والصراع، شاملة الحركات الأدبية والفنية والدينية، مُدعية التحدّر عن الحداثة أو الانتساب إليها، مما وشى بحصول نوع من التحجّر للتوجهات الحديثة التي لم يسبق لها اتخاذ مثل ذلك الشكل. كما طرح التواصل بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية خارج مجال أوروبا الغربية والولايات المتحدة من ناحيته معضلات التحديث التي أخذت اتجاه متصلّبا عند تصفية الاستعمار وذلك على إثر وضع الحرب الكونية الثانية لأوزارها.
ومع تسارع نسق التطور التاريخي ضمن المجال الثقافي الغربي برز مفهوم جديد للحداثة وسعت الإبداعات الفنية والجمالية في انتشاره، على أن يترتب على تسرّب الفكر والممارسة الحداثية داخل المجال الكاثولكي ومختلف الأوساط الغربية الخاضعة لتأثيره تحوّلا عميقا ساهم في ضمور إطار التسليم الديني واتساع الإيمان بالمعرفة، الشيء الذي أكسب المحدث دور اللبنة المحورية التي حددت إعادة تشكيل التصورات المتصلة بالاشتغال بالعلم واحترام المعرفة قبل ما سواهما. كما تعارضت الأنماط الفنية الحديثة مع جميع خصوصيات الفنون القديمة المتمسكة بالزينة الشكلية العاملة على إعطاء الابتكار سمة التحفة النخبوية التذوّق النادرة الوجود، في حين اتسم الإلهام الإبداعي في الأنماط الفنية الحديثة باقترابه من الطبيعة مجال سيطرة الخطوط الملتوية المعوجّة على حساب الامتداد الخطي المستقيم. ويتمثل الهدف من ذلك في ابتكار أعمال أو إبداعات فنية جديدة قادرة على الانغماس في تفاصيل المعاش اليومي بغرض تحطيم الحواجز بين الفنون الموسومة بالأساسية، وتلك التي تم اعتبارها فنونا ثانوية بغية تجاوز الاقتصار على النخب واكتساب مواصفات اجتماعية تُسعف في توثيق الصلة بعامة الناس بشكل عملي مباشر. فبينما تمسّكت الفنون والآداب القديمة بإعلاء قيم البطولة والإبداع النادر الذي أتاه سامق الأعلام وكشفت عنه مختلف المنشآت والمعالم التي خلفوها، استلهم الفكر الحديث مختلف مبتكراته وعلى نقيض ذلك، مما اعتبر وضيعا نظرا لاتصاله بالسائد أو باليومي.
ولئن أفضى تمركز الأوروبيين بالقارة الجديدة إلى القضاء على مختلف الحضارات الأمريكية التي سبقتهم، فإن احتكاك الامبريالية الغربية بالحضارات الأخرى لم يفض إلى تلك النتيجة الراديكالية. فقد ساهمت تصفية الاستعمار في تطوير تساؤلات النخب الحاكمة الجديدة بخصوص أحسن السبل التي تمكن من تجاوز أسباب تأخرها الذي طال العديد من الميادين؟ ولماذا تجد جميع الشعوب الفقيرة الخارجة لتوّها من التبعية نفسها إزاء واقع التناظر بين التحديث والتغريب؟ الشيء الذي أجج الصراع داخل مجتمعاتها بين أجنبية المحدث وأصولية الهوية المحلية، والتفريق في نفس الوقت وضمن تمثّلات الفاعلين بين التحديث الاجتماعي والثقافي وبين قاعدته التقنية والاقتصادية والمادية.
ويمكن ضمن الحضارات غير الغربية رصد ثلاثة أنماط لتجارب التحديث:
- تجربة التحديث المتوازن التي عاينها المجال الياباني حيث لم يترتب على الانتشار الناجح للحداثة أي تحطيم للقيم التقليدية التي نجح المجتمع في الحافظ عليها.
- تجربة التحديث المتشنج الذي طال مختلف بلدان العالم الإسلامي، والذي وإن شملت البعض من مظاهره نخب السياسة والمال، فإن محاولات تكريسه غالبا ما أفضت إلى عمليات اصطفاف أيديولوجي ومواجهة لمنظومة القيم التقليدية.
- تجربة التحديث غير المستقر ضمن نموذج العديد من بلدان إفريقيا السوداء، وهو نموذج حاول من خلال تكريس العديد من أشكال التصرّف أن يوفّق بين المحدث والقديم، لا من خلال إدخال توازنات جديدة، بل عبر اتسام الاختيارات بطابع جزئي لا يغير قديم ولا يحدث جديد.
ومهما يكن من أمر فقد تم تمثّل التحديث داخل المجال الإسلامي على أنه توجه فوقي فرضه الغزو الخارجي، لم ينبع مطلقا عن حراك الفاعلين الداخلين. لذلك كثيرا ما اخذ ذلك التحديث شكلا تغريبيا، مؤججا الخلافات ومنتجا مزيدا من الضغائن بين شعوب الغرب وشعوب الشرق. والبيّن في هذا الصدد أن مسار التحديث لم يطل تأثيره غير بعض مظاهر سطحية من الحياة المعيشة، وعدد من القطاعات الاقتصادية التصديرية دون غيرها. كما أن الفئات الميسورة وجانب من كبار أعوان الدولة هم من انخرط شكليا في سياق ذلك التأهيل الفكري والثقافي، مما زاد في سخط المدافعين عن التوجهات المغالية في الوطنية أو في "العروبة" أو في "الإسلاموية"، مُضخما من الفوارق الاجتماعية ومُعمقا مشاعر التفسخ الأخلاقي والذوبان الثقافي.
حاول الاستشراق إنجاز تحليل معمّق لبعض مظاهر تلك الأزمة التي طالت منظومة القيم الثقافية، فتبين لغوستاف فون غرونباوم Gustav von Grünbaum أن مسار التحديث قد وضع الشعوب والدول المنتسبة إلى الثقافة الإسلامية في مواجهة أساسية مع هويتها وقيمها الثقافية، بينما عثر جاك بيرك Jacques Berque ضمن لغة التخاطب العربية حاضرا عن الإطار العاكس للقطيعة بين ما هو عصري / وما يحيل على التقليد. فمن خلال دراسته للأشكال الأدبية والفنية الحديثة التي برزت في عالم عربي كان يجهل تماما مند قرن أو يزيد فنون الرسم والنحت والأدب بالمعنى الذي سحبته الحداثة على جميعها، توصّل "بيرك" إلى الكشف عن التناقضات التي تودي، وعبر مختلف مظاهر الفعل الإبداعي (المقال والرواية والموسيقى والمسرح والسينما...) إلى حصول تشنجات لافتة تؤذن في بعض الحالات بحصول تصلّب غير مسبوق للقيم الثقافية السائدة. ففي ظل مثل تلك القيم الثقافية التي لا يخلو ضمنها عاديُ الأمور من تمسّك مرضي بالتقليد، يُلحَق كل استثناء "يجرؤ على الزيغ" عن هذا الإطار، وفي متقاسم المجتمع الذهني إن بشكل مباشر أو بطريقة غير مباشرة، بأصول أجنبية متفسخة.
لذلك يخلص بيرك إلى أن الحداثة لا تشغل عربيا وإسلاميا دور الإبداع الحر المثوّر لقيم المجتمع، بقدر ما تحيل مضامينها على النقل أو على المثاقفة، وذلك ضمن إطار تبادلي عقيم بين مفاهيم مشدودة إلى أصالة لا تخلو من حسّية وتسطيح، وقيم خارجية منقولة دون تدبّر عن ثقافة الأخر الغربي.
على صعيد آخر حاول بودلير Baudelaire تقديم تعريفه الخاص للحداثة ضمن مقال له حمل عنوانا معبرا من وجهة النظر التي حاول الدفاع عنها هو "رسام الحياة الحديثة Le peintre de la vie moderne" نشره خلال سنة 1863 . فقد اعتبر الحداثة تجسيما "لكل ما تنجلي عنه الصيرورة التاريخية من شاعرية"، مبينا في الآن نفسه عدم خلو الطارئ والعابر، وضمن أي سياق زمني، من معنى ما للخلود. كما عمد إلى اشتقاق مدلول التقليعة أو الموضة في كلمة mode، رابطا بينها وبين لفظة حديث moderne التي طغى عليها راهنا الاعتناء بالميسم والحركة والقيافة والتغصين branché، بالإضافة إلى سجل الإشارات وشفرة فكّ دلالتها، معتبرا أن لكل مرحلة تاريخية طريقة مخصوصة في ذلك، وأنه لا يستقيم الاهتمام بالقديم إلا فيما يتعلق بما أسماه بالفن المحض، والمنطق والمنهج، أما بقية المظاهر الأخرى فيتعين الاحتفاظ بـذاكرة الحاضر وتفحّص "كل ما يشكّل روح الحياة الخارجية للزمن الراهن" بكل ما يحتاجه ذلك من تركيز وعناية. لذلك يرى "بودلير" تقليعات الموضة مؤشرا يحمل دلالة هامة فيما يتصل بالتعرّف على تطور الذوق المعبِّر عن عالم الـمُثل الذي غالبا ما يرقى وضمن الذائقة البشرية فوق جميع ما نكدّسه وفي إطار ما نعيشه يوميا من تافه التصوّرات وضئيل أو منحط الممارسات.
يتساوق هذا التصوّر الذي صيغ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع فهم "رولان بارط Roland Barthes"، في القرن العشرين - وهو ممن استهوتهم ظاهرة الموضة أيضا- للحداثة. فقد أشار لدى تعرضه إلى منجز"جيل ميشلاي Jules Michelet " المعرفي والتاريخي" أن هذا الأخير قد يكون أول كتاب الحداثة الذين لم يكن بوسعهم تقريظ مكتسباتها إلا عبر اللجوء إلى مستحيل العبارة"، مما يجعل تلك الحداثة المشتهاة نوعا من السير على الأطراف ومغامرة تنجز على الهامش، غير متفقة مع الضوابط الناظمة للتصرّفات المقبولة اجتماعيا وأخلاقيا، وهي تصرفات تحميها سلطة القديم وقداسته في آن.
هكذا تمثل الحداثة على أيامنا تتويجا لإيديولوجية التحديث، معبّرة عن فكر يتسم بعدم الاكتمال يقبل عن طواعية تسرّب الشك إليه والخضوع إلى النقد على الدوام. كما أنها نزوع باتجاه الخلق وقطيعة معلنة مع جميع التوجهات الفكرية والنظريات المستندة على التقليد الذي يجعل من القديم مرجعا ومن التصوّرات المدرسية قاعدة، لذلك يشكّل التساؤل حول طبيعة الغموض أو اللبس الذي يخترق مدلول الحداثة حاضرا فكرا وممارسة، المثال الأعلى والطموح الذي يتعين النجاح في رفعه مستقبلا قصد مزيد توضيح مدلولها المعقّد وإدراك معناها الدقيق.
* تمثل هذه العجالة ترجمة تصرّف لجانب من الأفكار الهامة التي حملها محتوى الفصل الثاني من مؤلف "جاك لوغوف" التاريخ والذاكرة:
Le Goff (Jacques), Histoire et mémoire. Paris, Gallimard 1988. Antique (ancien)/ moderne, p.59 - 103

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire