mercredi 7 mars 2012

أم حواء*





1


وقعت حوادث قصتنا قبل صدور قانون التمسك بقرون (...والمرغوب من حضرتكم إخلاء الجنة في ظرف 48 ساعة وليست دعواكم من أن (من واجب الملاك وضع حاجز بين كرمة سكناكم وسانية التفاح) من الوجاهة في شيء، وكان من واجبكم أن لا تمسوا رزق غيركم بسوء. أما وقد فعلتم وشهد الشهود ممن يستثاق بشهادته أنهم رأوكم وأنتم تسرقون الغلال ليلا النيّ منها والناضج بمعونة أفعى، فقد حكمت المحكمة بأن تخلوا الكرمة كما وجدتموها يوم سكناكم من الأجل المذكور أعلاه).
تنبيه: أرسلت نسخة إلى جارتكم (أم حواء) وابنتها لوقوعهما في مثل ما وقعتم فيه.
(المسجل: عزرائيل)
وقع هذا الإعلام في يد آدم وقوع الصاعقة، فهو حديث عهد بالحياة وهو في حيرة من أمره. أين يذهب بعد مضي الأجل المضروب؟ أين يسكن؟ ولكن بيوت الحارة عامرة ! لم يبق أمامه إلا أن ينزل إلى الأرض. نعم ! لما لا؟ أليست الأرض أوسع بكثير من عدن المرصوصة بالملائكة رصّا، وهو لم يعد يطيق معاشرتهم بعد ما شهر أمر سرقته للغلال؟ نعم. قد حلت الهجرة إلى الأرض حيث لا يعرفون عنه شيئا، إلى الأرض مأوى الجُناة أمثاله.
بينما هو في تأملاته إذ بباب الكرمة يطرق خفيفا. من يكون الطارق يا ترى؟ أهو محضر آخر أتى ببطاقة أخرى؟ أم هم أعوان الشرطة الزبانية أتوا لإخراجه بالقوة؟
وجم آدم لحراجة موقفه ذاك. وأخيرا بعد أن شجع نفسه بكوب (كوثر) ممزوج بقليل من الماء، تقدم وفتح المزلاج، وإذ بالطارق ابنة جارته وشريكته في الجناية تدخل عليه وهي منقبضة النفس تحمل في يدها جريدة (صباح الجنة) وهي الجريدة اليومية الوحيدة التي كانت تطبع إذاك في (عدن).
أخذ الجريدة بدون أن يفوه بكلمة، وبدون أن يرد سلام جارته اللطيفة. أجال فيها نظراته الملتهبة. وفي الصفحة الثانية تحت إعلانات (سيارات فردوس) في المكان المخصّص في الجريدة لقضايا البوليس الملائكي، قرأ آدم ما يلي تحت عنوان (سرقة):
"حُكم أمس على المسمى آدم، القاطن في شارع سدرة المنتهي وعلى المسماة أم حواء، وعلى حواء ابتنها، القاطنتين في نفس الشارع المتهمتين بسرقة سانية التفاح الواقعة في شرق الشارع نفسه".
وإليك محضر الجلسة بقلم ناقدنا القاضي جبرائيل:
"ما جاءت الساعة التاسعة صباحا حتى غصت قاعة الجلسة بالمتفرجين ونقاد المحاكم والمحامين الذين حضروا لسماع قضية هي الأولى من نوعها، وهي محاكمة المتهمين بالسرقة وهم: آدم وأم حواء وحواء ابنتها".
"والسرقة هي لفظة حديثة وضعها المجتمع العلمي لهذه الجناية ومعناها هو أخذ ما لغيرك بدون رضاه أو بدون علمه. ولا شكّ أن كل سكان الجنان يجهلون (السرقة) ومعناها قبل حدوث هذه الجناية".
"افتتحت الجلسة بتلاوة تقرير الاتهام ثم بسؤال آدم وشريكته فأقروا إلا أم حواء.
أم حواء: أنا لم أسرق شيئا.
الرئيس (اسرافيل): ولكنك أقررت في البحث أنك أكلت معهم ما سرقوه.
أم حواء: نعم، أكلت ما أهدوه لي، أما السرقة، فإني بريئة منها يا حضرة الرئيس.
المدعي العمومي (جبريل): أكلت ما سرقوه، إذن لقد شاركتهم في السرقة.
أم حواء: أنا لم أسرق ما دمت لم أمدد يدي إلى الشجرة.
الرئيس: كانت الأفعى تمد عنقها وتقطف لك التفاح بالنيابة.
(ضحك في القاعة).
الرئيس: وأنت يا آدم، ماذا تقول؟
آدم: أنا...أكلت، ولكن بإغراء حواء، وأمها والأفعى. لم أدر أنها سرقة !
المدعي العمومي: ... ولم تطالع مناشير البلدية في تحذير العموم من أكل كل غلة التفاح، وهو كما أعلنت البلدية في تقريرها الطبي يورث مرض..الغائط.
آدم: نعم كان على البلدية أن تضع حاجزا حول سانيتها المسمومة !
المدعي العمومي: هذا شيء آخر. ولكن أنت يا حواء ماذا تقولين.
فتجهش حواء بالبكاء، وترمي برأسها على صدر آدم، مما دفع كل الحضور إلى الضحك والسخرية من بكاء حواء، إذ كانوا يجهلون البكاء، حتى تلك اللحظة. وهكذا حكمت الجلسة بطرد ثلاثتهم من منازلهم بعد مضي 48 ساعة.
ألقى آدم الجريدة من يده بانفعال، ثم قال لحواء:
- أترين ما أوقعتني فيه من حيرة في أمري ومن سخرية !! أين أذهب؟
- أجهشت حواء بالبكاء، وارتمت على صدر آدم، فدفعها عنه.
- لا تعيدي بالله تمثيل هذا الدور البارد كلما ألقي عليك سؤال. ماذا يفيد بالله إبراز هذا الماء من عينيك؟ أين أذهب؟ قلت لك !
- إلى الأرض، يا آدم.
(قالت ذلك وهي ترفع عينيها المخضلتين بالدمع)
- الأرض ! أو تقدرين ما هي الأرض؟
- إنها ملأى بالتفاح !
- بالتفاح ! وأين نذهب عندما نأكله ويطردوننا من الأرض؟
قال هذا والشرر يكاد يتطاير من عينيه. ثم انطوى على نفسه.
وقال: وجع يقطع أمعائي. هذا من جراء تفاحك يا غادرة !
- وأنا أيضا يا آدم ! سنستأنس بهذا، إنهم يسمونه مرض الغائط كما قال القاضي. ولكن لا يجب أن نفعل شيئا في الجنة إلا إذا...
- يا خائنة ! هنا في الجنة؟ أتريدين أن نعمل مخالفة جديدة؟ ومن هذا النوع القذر يا خائنة؟ إن هذا المرض قد أصابنا جزاء على جريمتك الأولى. وقد طُردنا. هذا جزاء من يستمع إلى أقوال النساء ! إنهن لا يستحين ولا ينبت على وجوههن شعر، أمثالك.
أجهشت بالبكاء، وكالعادة ألقت برأسها على صدر آدم، وانحصرت فيه حتى كادت تدخل في ضلعته المعوجّة. فلان لها قلبه، وجعل يلحس دمعها عن جفونها، والدمع يغلبها، ويفيض على وجنتيها، فيلحسه عن وجنتيها الملتهبة بلسانه، وقد نزلت على وجنتيها دمعة كبيرة. ثم سقطت على شفتيها القرمزيتين. فمسح هذه الدمعة بشفتيه، ومع أنه قد تطعّم ملوحة هذا الماء، فقد استعذبه. وما التصقت الأربع شفاه حتى أحس أن المسكينة حواء قد ارتخت بين يديه، وكانت هذه أول قبلة وآخر قبلة في الجنة.

2




كانت نجوم السماء تلمع لمعانا أعجب آدم كل الإعجاب إذ هو لم يعهد النجوم في الجنة. ولم ير آدم نجوما ولا ظلاما قبل اليوم، ولم يكن ثمة ليل مظلم في الجنة. كانت الجنة كلها نورا. ولقد طرب آدم لظلام الليل في الجنة كل الطرب. ولقد أعجبته هذه النجوم التي تشبه دموع حواء، والبدر !! إنه ليشبه تلك الدمعة اللامعة على شفتي حواء، وكأنه تذكر القبلة، لأنه قام من مرقده وأخذ يفتش عن حواء برفق حتى لا تستيقظ أمها اللعينة. وأخيرا عثر عليها جالسة خلف "العشّة" التي ابتناها لها آدم في صباح ذلك اليوم. اقترب منها آدم ثم جذبها من يدها قائلا:
- ما تنظرين؟
- تلك البقع البيضاء حول تلك الدائرة المشرقة، أنا لم أرها قبل اليوم. كانت الجنة مضاءة ليلا نهارا بطريقة حادة. فما لدنيا تغير حالها بعد ساعات؟ لقد كان منذ ست ساعات قرص آخر يضيء الكون (؟؟) فما بال ذلك القرص المضيء قد ذهب وحلّ محله هذا الذي – وإن كان جميلا- لكنه لا يضيء كالآخر.
- أي نعم، حواء، أنا في حيرة وفي خوف إذ لو دام هذا عوض الآخر لما أمكن لي أن أبتني عندما استيقظ غدا كوخا آخر لي.
- أستبني كوخا لك ! وهذا كوخنا لو أحببت أن تسكن معنا.
- حواء ! أتذكرين يوم خروجنا...
- أي نعم، آدم.
- يوم أن مسحت لك قطرات الماء النازلة من عينيك.
- أي نعم، آدم، أذكر...
- هلاّ أنزلت شيئا منها الآن لأمسحه لك؟
- هي نازلة الآن فامسحها (بخبث).
- إنني لا أراها.
- النور لا يكفي الآن لرؤيتها. ولكن أحسها هنا (وهي تضع يدها على شفتها السفلى).
كان آدم يعلم أنها تكذب. ولكنه لم يرد أن يبخسها فأخذ يلحس شفتها بلسانه، وكأنه وجد لذة في لحسه شفتها فأخذ يمتصها مصّا، وكانت هي بدورها ترد له الفعل بمثله، وهي متكئة على مرفق يدها. وكانت يده تحت عنقها. أزاح آدم رأسه لكي لا يمنع نور البدر الضئيل أن ينير وجهها فوجده أجمل مما كان عليه نهارا. قال – وهو لا ينظر إلا لشفتيها وأنفها الاقنى الجذاب وعينيها – كلمته الخالدة التي ما زال يرددها أحفاد أحفاد أحفاده في مثل هذا الوقت:
"آه لو دام هذا ! ...".
كانت حواء تتصنع البكاء دائما لكي يمسح آدم دموعها بلسانه، وكانت تجد لذة في إعادة العملية كلما أمكن لها ذلك.
وفي يوم كانت أم حواء تشرب الماء من "قلتة" كانت قرب بيتها، وكانت ابنتها بجانبها تسرّح شعر رأسها بأصابعها، نظرت العجوز لسطح الماء فرأت صورة وجهها المجعد لأول مرة: فلم تجده يشبه وجه ابنتها النظير في شيء ولا حتى وجه آدم، فبكت إذ ذاك العجوز المسكينة وبكت حتى فطنت ابنتها لبكائها، فما أسرع أن ذهبت تستدعي آدم الذي كان جالسا فوق ربوة جادا في سلخ جلد ضبع قتله البارحة. ونادته بصوت يذوب رقة:
- آدم ! ...أمي يسيل الماء من عينيها هيا آدم امسحه...لها.

3

تعوّد آدم سكنى الأرض وتعوّد صيد الوحوش أيضا، لكن شيئا واحدا يقلق آدم أكثر من غيره من الأشياء، هو سقوط المطر في بعض الأحيان، وهجير الشمس في أحيان أخرى، فلماذا هذا التبديل من الضد إلى الضد؟ ثم ما هذه الدمدمة التي يسمعها كلما أمطرته السماء بوابلها أو طلها؟ إنه لا يشبه هدير الجمل ولا أصوات الحيوانات الأخرى...من تراه يعبث لإقلاق الناس بهذا الصوت؟..
وكلما تصوّر آدم صاحب الصوت تراه يجري نحو حواء التي يكون بالطبع في بيتها في ذلك الحين.
علي الدعاجي، سهرت منه الليالي، سراس للنشر، تونس 1996، ص ص 89 - 95. تحمل الأقصوصة عنوان ثاني هو "نهاية أعزب" .

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire