lundi 11 juin 2012

دفاعا عن مدرسة الجمهورية والتعليم العمومي




     كثر الحديث هذه الأيام وفي إطار السجال المتصل بطبيعة النموذج المجتمعي المستقبلي، وبالتوازي مع توجهات طُهرية تتلبس بشعار إعادة الاعتبار للهوية العربية الإسلامية عن مشروع إقرار نظام موازي للمدرسة العمومية -وهي منقبة من أجلّ مآثر الدولة الوطنية تونسيا- أَطلق عليه المتحمّسون لعملية زرعه، وضمن بيئة معرفية محسوم في طابعها المدنيّ، إفكا وبهتانا اسم "التعليم الأصلي".

" سيرة الغائب...":

لا نريد الخوض في تاريخ جامع الزيتونة المشيد منذ سنة 120 ه / 732 م والذي شكل أقدم منارة معرفية عربية أسهمت منذ أن تأسّست به أول مدرسة سنة 737 م في تخريج أجيال كثيرة من المتعلمين بدأ بعلي بن زياد مرورا بمحمد بن عرفة الورغمي، وعبد الرحمان ويحيى بن خلدون وعبد الله التيجاني وأبو القاسم البرزلي وأحمد ابن أبي الضياف ومحمود قبادو وإبراهيم الرياحي وسالم بوحاجب، وصولا إلى الطاهر بن عاشور وعبد العزيز الثعالبي وأبو القاسم الشابي والطاهر الحداد والفاضل بن عاشور. على أن تستقطب تلك المدرسة الزيتونية علماء أفذاذ وفدوا عليها من حواضر الأندلس خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين على غرار ابن الأبار وابن عصفور وحازم القرطاجني وابن الغماز والآبلي.
خضع التعليم الزيتوني إلى تنظيم محدّد من حيث عدد الساعات وعدد الطلبة المؤطّرين من قبل كل مدرّس، وكيفية إجراء الامتحانات وإسناد الشهادات، على غرار الإجازة والتطويع والعالمية...
شهد التعليم الزيتوني العديد من الإصلاحات منذ أواسط خمسينات القرن التاسع عشر، ويعتبر الصادق باي أول من أدخل حزمة من التحويرات على هذا التعليم عبر قانون 26 ديسمبر 1875  وذلك باتجاه ضبط مواد التدريس وطبع المقرّارات أو الكتب المدرسية وتعصير الأداء عبر إنشاء المعهد الصادقي الذي تولّى التدريس به نخبة من مدرسي الجامع الأعظم. كما عاينت أواخر نفس القرن ظهور جريدة الحاضرة 1888 وتأسيس الجمعية الخلدونية 1894 وهما مؤسستان موازيتان عولتا على قدرات الزيتونيين وتحفّزهم إلى الحداثة والمعاصرة، كما تدعّم هذا التوجه حال مؤزرة حركة الشباب التونسي لقرار إضراب طلبة جامع الزيتونة سنة 1910 الذين طالبوا بإدخال مزيد من الإصلاحات للنهوض بالنظام التعليمي القديم باتجاه التجديد والتجويد، وهو ما أقرته لجنة الإصلاح التي ترأسها سنة 1945 الشيخ محمد الطاهر بن عاشور وذلك عبر الدعوة إلى إقرار إجبارية إدراج العديد من المواد العلمية الحديثة على غرار اللغات الأجنبية ومراجعة الطرق البيداغوجية واعتماد الامتحانات الكتابية، فضلا عما أقرهّ الاتفاق المبرم سنة 1947 مع الجمعية الخلدونية بغرض تكوين مدرسي الزيتونة في علوم الفيزياء والطبيعيات والتاريخ والجغرافيا بل والفلسفة.  
ومع حصول البلاد على استقلالها قامت الدولة بإعادة صياغة سياستها التربوية من خلال تأسيس جامعة تونسية احتضنت التعليم الزيتوني العصري بعد إلغاء التعليم التقليدي في 26 أفريل 1956، وذلك في انتظار إحداث كلية الشريعة وأصول الدين في غرة مارس 1961 . على أن يتم وبداية من سنة 1987 إنشاء ثلاث مؤسسات للتعليم العالي المتخصّص في الشؤون الدينية والحضارية الإسلامية (اثنان في مدينة تونس وهما المعهد العالي لأصول الدين والمعهد العالي للحضارة الإسلامية، فضلا عن مركز الدراسات الإسلامية بالقيروان).
نشأ عن حراك العشرية الأولى للدولة الوطنية المؤتمنة على تكوين الأجيال الجديدة ما قد تستقيم تسميته بـ"جمهورية المعلم"، ذاك الذي جاب بمحفظته الضخمة وقيافته المهيبة البلاد طولا وعرضا، مُرتقيا إلى مرتبة "الإله الحي" عندما بدا قادرا على تغيير العقول والقطع مع ما ران على الأدمغة من تزمت وتكلّس وليد قرون مديدة من الجهل والخصاصة والاستكانة.
في المدرسة مُعلّم كما في المعهد والكلية، هناك وعلى كل شبر من الوطن المستعاد تواترت أجيال من طلبة المعرفة. فصل ومناضد واطلاع دءوب على كيفية الارتقاء بموفور الجهد وبالغ الكدّ من موقع الانتظار والتواكل إلى مجال العمل والفعل. قال المعلم للآلاف المؤلفة ممّن أمّوا فصله: "المواطنة تحمّل كامل لمسؤولية النفي والإيجاب وتعقّل لجليل مقامهما قولا وفعلا". أعاد القول مرارا وتكرارا فوقر صداه في الأعماق وحُفر فوق الجباه وفي أغوار الأفئدة والأذهان. وكان ما كان مما نعرفه...أيامها تكدّر الماء وتلبّدت السماء وخُنقت الأصوات ورُمي بمن تجرأ على المراجعة وراء الشمس، وصحّ العزم على القطع مع "جمهورية المعلمين" ليُشرع الباب على مصراعيه أمام رهط من الانتهازيين من خالطي الأوراق، فتبدل الخلق وتغيرت الأحوال.
قال المعلم: "المال قوام للأعمال ولا معنى لدعوى التحرير والتحررية دون تدقيق في واجبات وحقوق المتعاقدين". غير أن خطابه قوبل هذه المرة بعدم الاكتراث، ومُدّ حبل التعامل ليغتال العمل ويبتلع الجهد، موشكا على إطفاء جذوة الأمل...وامتلأت المدارس بالمعلمين والمتعلّمين، وعرفت دور التحصيل والمعرفة جلبة شبيهة باختلاط الحابل بالنابل في الأسواق وبلغ السيل الزُبى...
سنوات قليلة من "معركة التنمية" كانت كافية لحجب الأفق بصياغة منحرفة تجلّ القول الواحد والفكر الواحد والنظرة الوحدة والهدف الواحد، ليأتي الرد ضمن أقصوصة هي أبلغ دلالة من أي "بيان سياسي" اختار لها مؤلفها في جرأة مربكة عنوان "الإنسان الصفر" تعقبته شبيبة يسارية كرّست، في جنوح وهامشية لا توصفان طوال الثلث الأخير من القرن العشرين، وضمن أعمال أدبية وفنية أو إبداعية جريئة، بعض ما يصحّ نسبه لسجل "الثقافة المضادة". ولئن لن يختلف اثنان في حقيقة امتلاك البلاد حاضرا لمؤسسات تدريس محترمة، إلا أن ما يعوز تلك المؤسسات في تنوّعها هو غياب كامل لأفق استعصى رسمه. فهناك لغط مُتعمد يذكّرنا وبطريقة ما طبعا، بعُسر توليد المعنى حالما يكرّس الإنشاء تأتأة مجافية للحقيقة. هناك جلبة وحركة، وقليل من "البركة"، لا ينبئ انتصابها على انخراط فعلي ضمن أفق ينطوي على قدر معقول من الجهد المقترن بالتوفيق بعد أن تعوّد الرديء أو المُزيف على إلتهام صحيح النقد.

عودة الزيتونة استثمار في الغيب وعنوان للتسوية إلى أسفل :

طالعتنا حكومة شرعية الصناديق بعملية نفخ للروح في جسد هامد، تمثلت في تدبير رفع الحجر القضائي على نظام تعلمي عفا الزمان وجميع أشكال التحصيل العصرية عنه، بينما ألح غالبية المتنورين من طلبة الزيتونة قبل غيرهم ومنذ أواسط القرن الماضي في المطالبة بتجاوزه.
تم التخطيط لهكذا توجه بمنتهى التكتّم والمخاتلة، حيث قَدّر القضاء في عدالته حقا لم يبت المجتمع نُخبا ومواطنيين في ضرورة المطالبة باسترداده. فوجد الجميع أنفسهم أمام واقع مربك تمثل في استفراد مجموعة ذات توجهات سلفية معلنة بمعلم جللٍ فتح أصلا للعبادة والتأمل والخشوع فزجّ به وبالرغم عن أنف الجميع في "معادلة سريالية" توسّلت بالشحناء والمباغضة مدّعية الدفاع عن منارة علم مُستباحة يتعين رد الاعتبار إليها بائتمانها على مسار موازي للتحصيل يعيد لها تصدّر الفعل المعرفي، تأسّيا بالتعليم الأزهري المصري.
ما بنا رغبة في المماحكة، فجميع القرائن الواقعية تنفي إمكانية التجديف في هذا الاتجاه، اللهم إذا ما اقتصر الإحياء على مدلوله التثقيفي المفتوح للجميع، وهو ما استبعده القائمون على المشروع بعد الحصول على الترخيص القانوني والاحتفال رسميا في 12 شهر ماي الفارط بإعادة "الجامع الجامعة" إلى سالف عهده كمؤسسة عبادة وتحصيل.
والأدهى من ذلك أن الإعداد للسنة المدرسية والجامعية الجديدة سارٍ على قدم وساق دون أن تتبيّن للرأي العام التونسي وبالدقة المطلوبة طبيعة الأدوار التي ينتظر تعهُدها من قبل هذا الصنف القديم الجديد من التعليم في ضوء حضور جامعة رسمية تحمل ذات التسمية وتحتضن أكثر من مؤسسة جامعية مؤهلة ومختصّة؟ لا يُبدى الطرف المستحيط بالجامع في غفلة من أهله، وهو من نصّب نفسه على رأس هيئة علمية هلامية المعالم (ودون مؤهلات أكاديمية أو صيت معرفي فيما نعلم، عدا الدراسة بالزيتونة (أي زيتونة؟؟؟)، والاشتغال لمدة عشر سنوات كتقني سامي في الالكترونيات في بلاد المهجر أو المنفى)، أي حرج في توصيف مشروعه المتمثل في تدريس جميع المعارف الأدبية والإنسانية؟ والأساسية ضمن ما وسمه تضليلا بـ"التعليم الأصلي". وهو صنف من المعارف يفصل في التحصيل بين الإناث والذكور مستثمرا في اقتصاد الخلاص والغيب بسخي الراسميل، ردّا للقلوب عن زيغها والعقول عن طيشها، وتمسّكا بماض سقيم  أتى عليه الصبح واستوات شمس نهاره في كبد السماء.
وليكن بيّنا للجميع أن ما أتاه هؤلاء التونسيون دون إخطار المؤسسات العلمية والنقابية الممثلة لمن يقاسمونهم حق المواطنة، صادر عن فكر لا يؤمن بالتعاقد الاجتماعي ويعتبر أن منطق التدافع هو الكفيل وحده بتحديد طبيعة المشروع المجتمعي التونسي المنتظر. والمحيّر في الأمر حقا أن القائمين على مؤسسات التحصيل العمومي في مختلف مستوياته قد تدافعوا لحضور حفل التوقيع على هذه العودة الفوقية المسقطة، دون أن يكلّف الواحد منهم نفسه مشقّة الخروج على الناس لتوضيح جليّة الأمر وتحديد طبيعة هذا الصنف الجديد القديم من التعليم ! أين سيتم تقديمه بين سواري الجامع وحصائره أم على مناضد المدارس وكراسيها ؟ هل سيُخضع إلى المجانية والإجبارية على غرار التعليم العمومي أم سيكون اختياريا وبمقابل؟ كم عدد سنوات تحصيله؟ ما هي مقرراته ومن سيشرف على إعدادها وتقييمها؟ من ستوكل له أهلية برمجته ومراقبة مدرسيه؟  ما مصير المؤسسات التي تقاسمه نفس الأدوار ؟ هل سيتم إلحاقها به أم إلحاقه بها؟ هل ستشرف عليه وزارات التربية العمومية والتعليم العالي، محدّدة طبيعة تخصّصاته وشعبه؟ أم أن النيّة متوجهة، مثلما نقدر تخمينا، إلى إلحاقه بوزارة الشؤون الدنية؟ هل سيكون له حضور ضمن دليل التوجيه الجامعي وخارج مجال مدينة تونس؟ وهل سيخضع التوجيه الجامعي لشُعبه للمعايير المعمول بها تونسيا أي احتساب النتائج والتنفيل؟
هذه الأسئلة وغيرها نلقيها على جميع من أمضوا على بروتوكول الثاني عشر من شهر ماي الفارط، محمّلين أياهم مسؤولية هذا المنزع غير المسبوق الذي يشكّل من منظورنا ومنظور من يقاسموننا مسؤولية المواطنة والدفاع عن مكتسبات الدولة المدنية والمدرسة العمومية للجمهورية التونسية، تلاعبا مفضوح بمضمون النموذج المجتمعي والدولة المدنية الذان لا نريد - مع اعتزازنا بثقافتنا العربية الإسلامية - الحياد عنهما. فمدرستنا المعاصرة لمن لم يبلغه الخبر بعد هي أولا وقبل كل شيء مؤسسة مؤتمنة على قيم الجمهورية تتكفّل بنشرها واتساقها على مرّ الأجيال، تحتضن جميع الدارسين إناثا وذكورا دون تمييز للّون أو الجنس أو المعتقد، تنقل المعرفة وتسهر على التربية على قيم المواطنة وأخلاقها وامتلاك مدلول دقيق للحق والواجب بالتعويل على ملكة العقل ونحت الشخصية بالتعويد على الفكر النقدي مع القبول بالغيرية واحترام الآخرين، تطلّعا للانخراط في الكونيّة.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire